الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٦٢ ] ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والنَّصارى والصّابِئِينَ مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا فَلَهم أجْرُهم عِنْدَ رَبِّهِمْ ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ﴾ أيْ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِما دَعا إلَيْهِ مُحَمَّدٌ ﷺ، وصارُوا مِن جُمْلَةِ أتْباعِهِ. قالَ في فَتْحِ البَيانِ: كَأنَّهُ سُبْحانَهُ أرادَ أنْ يُبَيِّنَ أنَّ حالَ هَذِهِ المِلَّةِ الإسْلامِيَّةِ، وحالَ مَن قَبْلَها مِن سائِرِ المِلَلِ، يَرْجِعُ إلى شَيْءٍ واحِدٍ، وهو أنَّ مَن آمَنَ مِنهم بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا اسْتَحَقَّ ما ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنَ الأجْرِ. ومَن فاتَهُ ذَلِكَ فاتَهُ الخَيْرُ كُلُّهُ، والأجْرُ دِقُّهُ وجُلُّهُ. والمُرادُ بِالإيمانِ هَهُنا هو ما بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ مِن قَوْلِهِ، «لَمّا سَألَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنِ الإيمانِ (p-١٤١)فَقالَ: «أنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ والقَدَرِ خَيْرِهِ وشَرِّهِ»» . ولا يَتَّصِفُ بِهَذا الإيمانِ إلّا مَن دَخَلَ في المِلَّةِ الإسْلامِيَّةِ. فَمَن لَمْ يُؤْمِن بِمُحَمَّدٍ ﷺ ولا بِالقُرْآنِ، فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ. ومَن آمَنَ بِهِما صارَ مُسْلِمًا مُؤْمِنًا، ولَمْ يَبْقَ يَهُودِيًّا ولا نَصْرانِيًّا ولا مَجُوسِيًّا. انْتَهى. قالَ الرّاغِبُ في تَفْسِيرِهِ: تَقَدَّمَ أنَّ الإيمانَ يُسْتَعْمَلُ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما الإقْرارُ بِالشَّهادَتَيْنِ، الَّذِي يُؤَمِّنُ نَفْسَ الإنْسانَ، ومالَهُ عَنِ الإباحَةِ إلّا بِحَقٍّ، وذَلِكَ بَعْدَ اسْتِقْرارِ هَذا الدِّينِ مُخْتَصٌّ بِهِ كالإسْلامِ. والثّانِي تَحَرِّي اليَقِينِ فِيما يَتَعاطاهُ الإنْسانُ مِن أمْرِ دِينِهِ. فَقَوْلُهُ: (p-١٤٢)"إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا" عَنى بِهِ المُتَدَيِّنَ بِدِينِ مُحَمَّدٍ ﷺ، وقَوْلُهُ "مَن آمَنَ بِاللَّهِ" عَنى بِهِ المُتَحَرِّي لِلِاعْتِقادِ اليَقِينِيِّ، فَهو غَيْرُ الأوَّلِ. ولِما كانَتْ مَشاهِيرُ الأدْيانِ هَذِهِ الأرْبَعَ، بَيَّنَ تَعالى أنَّ كُلَّ مَن تَعاطى دِينًا مِن هَذِهِ الأدْيانِ في وقْتِ شَرْعِهِ، وقَبْلَ أنْ يُنْسَخَ، فَتَحَرّى في ذَلِكَ الِاعْتِقادَ اليَقِينِيَّ، وأتْبَعَ اعْتِقادَهُ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ، فَلا خَوْفَ عَلَيْهِمْ ولا هم يَحْزَنُونَ. ثُمَّ قالَ: وقَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ: إنَّ هَذا مَنسُوخٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] يَعْنُونَ أنَّ هَذِهِ الأدْيانَ كُلَّها مَنسُوخَةٌ بِدِينِ الإسْلامِ، وأنَّ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ جَعَلَ لَهُمُ الأجْرَ قَبْلَ وقْتِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ. فَأمّا في وقْتِهِ، فالأدْيانُ كُلُّها مَنسُوخَةٌ بِدِينِهِ. اهـ. أيْ فَلَيْسَ مُرادُ ابْنِ عَبّاسٍ، ومَن وافَقَهُ، أنَّهُ تَعالى كانَ وعَدَ مَن عَمِلَ صالِحًا مِنَ اليَهُودِ، ومَن ذُكِرَ مَعَهم عَلى عَمَلِهِ، في الآخِرَةِ الجَنَّةَ، ثُمَّ نَسَخَهُ بِآيَةِ: ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنهُ﴾ [آل عمران: ٨٥] بَلْ مُرادُهُ ما ذَكَرَ الرّاغِبُ. وهَذا ما لا شُبْهَةَ فِيهِ. ولِذا قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: ظاهِرُ التَّنْزِيلِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى لَمْ يُخَصِّصْ بِالأجْرِ عَلى العَمَلِ الصّالِحِ مَعَ الإيمانِ، بَعْضَ خَلْقِهِ دُونَ بَعْضٍ مِنهم، والخَبَرُ بِقَوْلِهِ: ﴿مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ عَنْ جَمِيعِ ما ذُكِرَ في أوَّلِ الآيَةِ. تَنْبِيهٌ: ظاهِرُ هَذِهِ الآيَةِ، مَعَ تَفْسِيرِ الرّاغِبِ "مَن آمَنَ" بِالمُتَحَرِّي لِلِاعْتِقادِ اليَقِينِيِّ، مِمّا قَدْ يَسْتَدِلُّ بِهِ العَنْبَرِيُّ لِمَذْهَبِهِ. فَقَدْ نَقَلَ الأُصُولِيُّونَ في بابِ الِاجْتِهادِ والتَّقْلِيدِ أنَّ العَنْبَرِيَّ ذَهَبَ إلى أنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، حَتّى في الأُصُولِ، ووافَقَهُ الجاحِظُ. قالَ الغَزالِيُّ في " المُسْتَصْفى ": ذَهَبَ الجاحِظُ إلى أنَّ مُخالِفَ مِلَّةِ الإسْلامِ مِنَ اليَهُودِ والنَّصارى والدَّهْرِيَّةِ، إنْ كانَ مُعانِدًا عَلى خِلافِ اعْتِقادِهِ، فَهو آثِمٌ، وإنْ نَظَرَ فَعَجَزَ عَنْ دَرْكِ الحَقِّ فَهو مَعْذُورٌ (p-١٤٣)غَيْرُ آثِمٍ، وإنْ لَمْ يَنْظُرْ مِن حَيْثُ لَمْ يَعْرِفْ وُجُوبَ النَّظَرِ، فَهو أيْضًا مَعْذُورٌ، وإنَّما الآثِمُ المُعَذَّبُ المُعانِدُ فَقَطْ؛ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى لا يُكَلِّفُ نَفْسًا إلّا وُسْعَها. وهَؤُلاءِ قَدْ عَجَزُوا عَنْ دَرْكِ الحَقِّ، ولَزِمُوا عَقائِدَهم خَوْفًا مِنَ اللَّهِ تَعالى؛ إذِ اسْتَدَّ عَلَيْهِمْ طَرِيقَ المَعْرِفَةِ. ثُمَّ رَدَّهُ الغَزالِيُّ بِأدِلَّةٍ سَمْعِيَّةٍ ضَرُورِيَّةٍ، وذَلِكَ مِثْلُ مَعْرِفَتِنا ضَرُورَةَ أمْرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ اليَهُودَ والنَّصارى بِالإيمانِ بِهِ، وذَمَّهم عَلى إصْرارِهِمْ عَلى عَقائِدِهِمْ، وذَلِكَ لا يَنْحَصِرُ في الكِتابِ والسُّنَّةِ. ثُمَّ قالَ الغَزالِيُّ: وأمّا قَوْلُهُ -أيِ: الجاحِظُ-: كَيْفَ يُكَلِّفُهم ما لا يُطِيقُونَ ؟ قُلْنا: نَعْلَمُ ضَرُورَةً أنَّهُ كَلَّفَهم، أمّا أنَّهم يُطِيقُونَ أوْ لا يُطِيقُونَ، فَلْنَنْظُرْ فِيهِ، بَلْ نَبَّهَ اللَّهُ تَعالى عَلى أنَّهُ أقْدَرُهم عَلَيْهِ بِما رَزَقَهم مِنَ العَقْلِ، ونَصَبَ مِنَ الأدِلَّةِ، وبَعَثَ مِنَ الرُّسُلِ المُؤَيَّدِينَ بِالمُعْجِزاتِ، الَّذِينَ نَبَّهُوا العُقُولَ، وحَرَّكُوا دَواعِيَ النَّظَرِ، حَتّى لَمَّ يَبْقَ عَلى اللَّهِ لِأحَدٍ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ اهـ. وقَوْلُهُ: ﴿والَّذِينَ هادُوا﴾ أيْ: تَهَوَّدُوا. يُقالُ: هادَ يَهُودُ، وتَهَوَّدَ، إذا دَخَلَ في اليَهُودِيَّةِ. وهو هائِدٌ، والجَمْعُ هُودٌ. وهم أُمَّةُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وإنَّما لَزِمَهم هَذا الِاسْمُ؛ لِأنَّ الإسْرائِيلِيِّينَ الَّذِينَ رَجَعُوا مِن جَلاءِ سَبْعِينَ سَنَةً، ومِن سَبِّي بابِلَ إلى وطَنِهِمُ القَدِيمِ، كانَ أكْثَرُهم مِن نَسْلِ يَهُوذا بْنِ يَعْقُوبَ (بِالذّالِ المُعْجَمَةِ، فَقَلَبَتْها العَرَبُ دالًا مُهْمَلَةً) . وقَوْلُهُ تَعالى "والنَّصارى" جَمْعُ نَصْرانَ، كَنَدامى جَمْعِ نَدْمانَ، يُقالُ: رَجُلٌ نَصْرانُ، وامْرَأةٌ نَصْرانِيَّةٌ، والياءُ في نَصْرانِيٍّ لِلْمُبالَغَةِ، كَما في أحْمَرِيِّ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِأنَّهم نَصَرُوا المَسِيحَ عَلَيْهِ السَّلامُ -كَذا في " الكَشّافِ"- أوْ هو جَمْعُ نَصْرانِيٍّ، مُغَيَّرٌ عَنْ ناصِرِيٍّ نِسْبَةً إلى ناصِرَةَ -القَرْيَةِ المَعْرُوفَةِ- وقَدْ نُسِبَ إلَيْها المَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِأنَّهُ رُبِّيَ بِها. وجاءَ في الإنْجِيلِ "يَسُوعُ النّاصِرِيُّ" . وقَوْلُهُ تَعالى "والصّابِئِينَ" جَمْعُ صابِئٍ، ويُقالُ لَهُمُ الصّابِئَةُ. قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الصّابِئُ هو المُسْتَحْدِثُ، سِوى دِينِهِ، دِينًا، كالمُرْتَدِّ مِن أهْلِ الإسْلامِ عَنْ دِينِهِ. وكُلُّ خارِجٍ مِن دِينٍ كانَ عَلَيْهِ إلى آخَرَ غَيْرِهِ تُسَمِّيهِ العَرَبُ "صابِئًا" . يُقالُ مِنهُ: صَبا فُلانٌ يَصْبُو صِباءً، ويُقالُ: صَبَأتِ النُّجُومُ إذا طَلَعَتْ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ (p-١٤٤)التَّأْوِيلِ فِيمَن يَلْزَمُهُ هَذا الِاسْمُ، مِن أهْلِ المِلَلِ. فَقالَ بَعْضِهِمْ: يَلْزَمُ ذَلِكَ كُلُّ مَن خَرَجَ مِن دِينٍ إلى غَيْرِ دِينٍ. وقالُوا: الَّذِي عَنى اللَّهُ بِهَذا الِاسْمِ قَوْمًا لا دِينَ لَهم، فَعَنْ مُجاهِدٍ: الصّابِئُونَ لَيْسُوا بِيَهُودَ ولا نَصارى، ولا دِينَ لَهم. وعَنِ ابْنِ زَيْدٍ: الصّابِئُونَ دِينٌ مِنَ الأدْيانِ كانُوا بِجَزِيرَةِ المَوْصِلِ، يَقُولُونَ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ولَيْسَ لَهم عَمَلٌ ولا كِتابٌ ولا نَبِيٌّ. وعَنْ قَتادَةَ: أنَّهم قَوْمٌ يَعْبُدُونَ المَلائِكَةَ اهـ. وقالَ الإمامُ الشُّهْرَسْتانِيُّ، في الكَلامِ عَنِ الصّابِئَةِ ما مِثالُهُ: والصَّبْوَةُ في مُقابَلَةِ الحَنِيفِيَّةِ. وفي اللُّغَةِ: صَبا الرَّجُلُ إذا مالَ وزاغَ. فَبِحُكْمِ مَيْلِ هَؤُلاءِ عَنْ سُنَنِ الحَقِّ وزَيْغِهِمْ عَنْ نَهْجِ الأنْبِياءِ قِيلَ لَهُمُ: الصّابِئَةُ. وهم يَقُولُونَ: الصَّبْوَةُ هو الِانْحِلالُ عَنْ قَيْدِ الرِّجالِ. وإنَّما مَدارُ مَذْهَبِهِمْ عَلى التَّعَصُّبِ لِلرُّوحانِيِّينَ، كَما أنَّ مَدارَ مَذْهَبِ الحُنَفاءِ هو التَّعَصُّبُ لِلْبَشَرِ الجُسْمانِيِّينَ. والصّابِئَةُ تَدَّعِي أنَّ مَذْهَبَها هو الِاكْتِسابُ، والحُنَفاءُ تَدَّعِي أنَّ مَذْهَبَها هو الفِطْرَةُ. فَدَعْوَةُ الصّابِئَةِ إلى الِاكْتِسابِ، ودَعْوَةُ الحُنَفاءِ إلى الفِطْرَةِ، فالصّابِئَةُ قَوْمٌ يَقُولُونَ بِحُدُودٍ وأحْكامٍ عَقْلِيَّةٍ، ولا يَقُولُونَ بِالشَّرِيعَةِ والإسْلامِ. فَيُقابِلُونَ أرْبابَ الدِّياناتِ تَقابُلَ التَّضادِّ. والصّابِئَةُ الأوْلى الَّذِينَ قالُوا بِعاذِيمُونَ وهَرْمَسَ، وهُما شِيتُ وإدْرِيسُ، ولَمْ يَقُولُوا بِغَيْرِهِما مِنَ الأنْبِياءِ. وهم أصْحابُ الرُّوحانِيّاتِ. فَيَعْتَقِدُونَ أنَّ لِلْعالَمِ صانِعًا حَكِيمًا مُقَدَّسًا عَنْ سِماتِ الحَدَثانِ. والواجِبُ عَلَيْنا مَعْرِفَةُ العَجْزِ عَنِ الوُصُولِ إلى جَلالِهِ، وإنَّما يُتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالمُتَوَسِّطاتِ المُقَرَّبِينَ لَدَيْهِ، وهُمُ الرُّوحانِيُّونَ المُطَهَّرُونَ المُقَدَّسُونَ جَوْهَرًا وفِعْلًا وحالَةً. أمّا الجَوْهَرُ فَهُمُ المُقَدَّسُونَ عَنِ المَوادِّ الجُسْمانِيَّةِ، الَّذِينَ جُبِلُوا عَلى الطَّهارَةِ، وفُطِرُوا عَلى التَّقْدِيسِ والتَّسْبِيحِ، لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أمَرَهم ويَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ. قالُوا فَنَحْنُ نَتَقَرَّبُ إلَيْهِمْ ونَتَوَكَّلُ عَلَيْهِمْ، مِنهم أرْبابُنا وآلِهَتُنا وشُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ، وهو رَبُّ الأرْبابِ. وأمّا الفِعْلُ، فَقالُوا: الرُّوحانِيّاتُ هُمُ الأسْبابُ المُتَوَسِّطُونَ في الِاخْتِراعِ وتَصْرِيفِ الأُمُورِ مِن حالٍ إلى حالٍ، يَسْتَمِدُّونَ القُوَّةَ مِنَ الحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ، ويُفِيضُونَ الفَيْضَ عَلى المَوْجُوداتِ السُّفْلِيَّةِ، (p-١٤٥)فَمِنها مُدَبِّراتُ الكَواكِبِ السَّبْعِ السَّيّارَةِ في أفْلاكِها وهي هَياكِلُها، ولِكُلِّ رُوحانِيٍّ هَيْكَلٌ، ولِكُلِّ هَيْكَلٍ فَلَكٌ، ونِسْبَةُ الرُّوحانِيِّ إلى ذَلِكَ الهَيْكَلِ الَّذِي اخْتَصَّ بِهِ نِسْبَةُ الرُّوحِ إلى الجَسَدِ، فَهو رَبُّهُ ومُدَبِّرُهُ. وكانُوا يُسَمُّونَ الهَياكِلَ أرْبابًا، ورُبَّما يُسَمُّونَها آباءً، والعَناصِرَ أُمَّهاتٍ. فَفِعْلُ الرُّوحانِيّاتِ: تَحْرِيكُها عَلى قَدْرٍ مَخْصُوصٍ لِيَحْصُلَ مِن حَرَكاتِها انْفِعالاتٌ في الطَّبائِعِ والعَناصِرِ، فَيَحْصُلُ مِن ذَلِكَ تَرْكِيباتٌ وامْتِزاجاتٌ في المُرَكَّباتِ، فَيَتْبَعُها قُوًى جُسْمانِيَّةٌ ويَرْكَبُ عَلَيْها نُفُوسٌ رُوحانِيَّةٌ: مِثْلَ أنْواعِ النَّباتِ وأنْواعِ الحَيَوانِ. ثُمَّ قَدْ تَكُونُ التَّأْثِيراتُ كُلِّيَّةً صادِرَةً عَنْ رُوحانِيٍّ كُلِّيٍّ، وقَدْ تَكُونُ جُزْئِيَّةً صادِرَةً عَنْ رُوحانِيٍّ جُزْئِيٍّ. فَمَعَ جِنْسِ المَطَرِ مَلَكٌ، ومَعَ كُلِّ قَطْرَةٍ مَلَكٌ. ومِنها مُدَبِّراتُ الآثارِ العُلْوِيَّةِ الظّاهِرَةِ في الجَوِّ مِمّا يَصْعَدُ مِنَ الأرْضِ فَيَنْزِلُ، مِثْلَ الأمْطارِ والثُّلُوجِ والبَرَدِ والرِّياحِ، وما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ: مِثْلَ الصَّواعِقِ والشُّهُبِ، وما يَحْدُثُ في الجَوِّ مِنَ الرَّعْدِ، والبَرْقِ، والسَّحابِ، والضَّبابِ، وقَوْسِ قُزَحَ، وذَواتِ الأذْنابِ، والهالَةِ، والمَجَرَّةِ؛ وما يَحْدُثُ في الأرْضِ مِنَ الزَّلازِلِ، والمِياهِ، والأبْخِرَةِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ. قالُوا: وأمّا الحالَةُ، فَأحْوالُ الرُّوحانِيّاتِ مِنَ الرُّوحِ والرَّيْحانِ والنِّعْمَةِ واللَّذَّةِ والسُّرُورِ في جِوارِ رَبِّ الأرْبابِ كَيْفَ يَخْفى ؟ . هَذا مُلَخَّصُ ما أفادَهُ العَلّامَةُ الشِّهْرِسْتانِيُّ في كِتابِ -المِلَلِ والنِّحَلِ- ثُمَّ ساقَ مُناظَراتٍ ومُحاوَراتٍ بَيْنَ الصّابِئَةِ والحُنَفاءِ جَرَتْ في المُفاضَلَةِ بَيْنَ الرُّوحانِيِّ المَحْضِ، والبَشَرِيَّةِ النَّبَوِيَّةِ، وأوْرَدَها عَلى شَكْلِ سُؤالٍ وجَوابٍ. فَلْتُنْظَرْ ثَمَّ. وقالَ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ في كِتابِهِ -فِي الرَّدِّ عَلى المَنطِقِيِّينَ- إنَّ حَرّانَ كانَتْ دارَ هَؤُلاءِ الصّابِئَةِ، وفِيها وُلِدَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، (أوِ انْتَقَلَ إلَيْها مِنَ العِراقِ. عَلى اخْتِلافِ القَوْلَيْنِ)، وكانَ بِها هَيْكَلُ الصِّلَةِ الأُولى، هَيْكَلُ العَقْلِ الأوَّلِ، هَيْكَلُ النَّفْسِ الكُلِّيَّةِ، هَيْكَلُ زُحَلَ. هَيْكَلُ المُشْتَرى. هَيْكَلُ المِرِّيخِ، هَيْكَلُ الشَّمْسِ. وكَذَلِكَ الزُّهْرَةُ، وعُطارِدُ، والقَمَرُ. وكانَ هَذا دِينَهم قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرانِيَّةِ فِيهِمْ. ثُمَّ ظَهَرَتِ النَّصْرانِيَّةُ فِيهِمْ مَعَ بَقاءِ أُولَئِكَ الصّابِئَةِ (p-١٤٦)المُشْرِكِينَ، حَتّى جاءَ الإسْلامُ، ولَمْ يَزَلْ بِها الصّابِئَةُ والفَلاسِفَةُ في دَوْلَةِ الإسْلامِ إلى آخِرِ وقْتٍ، ومِنهُمُ الصّابِئَةُ الَّذِينَ كانُوا بِبَغْدادَ وغَيْرِها، أطِبّاءَ وكُتّابًا، وبَعْضُهم لَمْ يُسْلِمْ. وكَذَلِكَ كانَ دِينُ أهْلِ دِمَشْقَ وغَيْرِها قَبْلَ ظُهُورِ النَّصْرانِيَّةِ. وكانُوا يُصَلُّونَ إلى القُطْبِ الشَّمالِيِّ. وتَحْتَ جامِعِ دِمَشْقَ مَعْبَدٌ كَبِيرٌ لَهُ قِبْلَةٌ إلى القُطْبِ الشَّمالِيِّ كانَ لِهَؤُلاءِ. فَإنَّ الصّابِئَةَ نَوْعانِ: صابِئَةٌ حُنَفاءُ مُوَحِّدُونَ، وصابِئَةٌ مُشْرِكُونَ. فالأُوَلُ هُمُ الَّذِينَ أثْنى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهَذِهِ الآيَةِ. فَأثْنى عَلى مَن آمَنَ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صالِحًا. مِن هَذِهِ المِلَلِ الأرْبَعِ: المُؤْمِنِينَ واليَهُودِ والنَّصارى والصّابِئِينَ، فَهَؤُلاءِ كانُوا يَدِينُونَ بِالتَّوْراةِ قَبْلَ النَّسْخِ والتَّبْدِيلِ، وكَذَلِكَ الَّذِينَ دانُوا بِالإنْجِيلِ قَبْلَ النَّسْخِ والتَّبْدِيلِ. والصّابِئُونَ الَّذِينَ كانُوا قَبْلَ هَؤُلاءِ، كالمُتَّبِعِينَ مِلَّةَ إبْراهِيمَ إمامِ الحُنَفاءِ قَبْلَ نُزُولِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. وهَذا بِخِلافِ المَجُوسِ والمُشْرِكِينَ، فَإنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مُؤْمِنٌ. فَلِهَذا قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ هادُوا والصّابِئِينَ والنَّصارى والمَجُوسَ والَّذِينَ أشْرَكُوا إنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ [الحج: ١٧] فَذَكَرَ المِلَلَ السِّتَّ هَؤُلاءِ، وأخْبَرَ أنَّهُ يَفْصِلُ بَيْنَهم يَوْمَ القِيامَةِ. لَمْ يَذْكُرْ في السِّتِّ مَن كانَ مُؤْمِنًا، وإنَّما ذَكَرَ ذَلِكَ في الأرْبَعَةِ فَقَطْ. ثُمَّ إنَّ الصّابِئِينَ ابْتَدَعُوا الشِّرْكَ فَصارُوا مُشْرِكِينَ، والفَلاسِفَةُ المُشْرِكُونَ مِن هَؤُلاءِ المُشْرِكِينَ. وأمّا قُدَماءُ الفَلاسِفَةِ الَّذِينَ كانُوا يَعْبُدُونَ اللَّهَ وحْدَهُ لا يُشْرِكُونَ بِهِ شَيْئًا، ويُؤْمِنُونَ بِأنَّ اللَّهَ مُحْدِثٌ لِهَذا العالَمِ، ويُقِرُّونَ بِمَعادِ الأبْدانِ، فَأُولَئِكَ مِنَ الصّابِئَةِ الحُنَفاءِ الَّذِينَ أثْنى اللَّهُ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ المُشْرِكُونَ مِنَ الصّابِئَةِ كانُوا يُقِرُّونَ بِحُدُوثِ هَذا العالَمِ كَما كانَ المُشْرِكُونَ مِنَ العَرَبِ يُقِرُّونَ بِحُدُوثِهِ. وكَذَلِكَ المُشْرِكُونَ مِنَ الهِنْدِ. وقَدْ ذَكَرَ أهْلُ المَقالاتِ أنَّ أوَّلَ مَن ظَهَرَ عَنْهُ القَوْلُ بِقِدَمِهِ مِن هَؤُلاءِ الفَلاسِفَةِ المُشْرِكِينَ، هو أرِسْطُو. انْتَهى. وما قَرَّرَهُ الإمامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ، يُؤَيِّدُ ما ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، مِن أنَّ مَعْنى (p-١٤٧)قَوْلِهِ تَعالى "مَن آمَنَ" مَن كانَ مِنهم في دِينِهِ قَبْلَ أنْ يُنْسَخَ، مُصَدِّقًا بِقَلْبِهِ بِالمَبْدَأِ والمَعادِ، عامِلًا بِمُقْتَضى شَرْعِهِ، وذَلِكَ كَأهْلِ الكِتابَيْنِ أوْ كانَ مِنَ الصّابِئَةِ المُوَحِّدِينَ. وذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّ مَعْنى قَوْلِهِ "مَن آمَنَ" مَن أحْدَثَ مِن هَذِهِ الطَّوائِفِ، إيمانًا خالِصًا بِما ذَكَرَ. قالُوا: لِأنَّ مُقْتَضى المَقامِ هو التَّرْغِيبُ في دِينِ الإسْلامِ. وأمّا بَيانُ حالِ مَن مَضى عَلى دِينٍ آخَرَ قَبْلَ انْتِساخِهِ، فَلا مُلابَسَةَ لَهُ بِالمَقامِ، والصّابِئُونَ لَيْسَ لَهم دِينٌ يَجُوزُ رِعايَتُهُ في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ. فَلْيَتَأمَّلْ. وقَوْلُهُ تَعالى "فَلَهم أجْرُهُمْ" أيِ: الَّذِي وعَدُوهُ عَلى تِلْكَ الأعْمالِ المَشْرُوطَةِ بِالإيمانِ، وهو في الأصْلِ جُعْلُ العامِلِ عَلى عَمَلِهِ. وفي قَوْلِهِ "عِنْدَ رَبِّهِمْ" مَزِيدُ لُطْفٍ بِهِمْ وإيذانٌ بِأنَّ أجْرَهم مُتَيَقِّنُ الثُّبُوتِ، مَأْمُونٌ مِنَ الفَواتِ. وقَوْلُهُ تَعالى "ولا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ" أيْ حِينَ يَخافُ الكُفّارُ العِقابَ ويَحْزَنُونَ عَلى تَفْوِيتِ الثَّوابِ. (تَنْبِيهٌ) قالَ العَلّامَةُ البِقاعِيُّ في تَفْسِيرِهِ: وحَسَّنَ وضْعَ هَذِهِ الآيَةِ، في أثْناءِ قِصَصِهِمْ، أنَّهم كانُوا مَأْمُورِينَ بِقَتْلِ كُلِّ ذَكَرٍ مِمَّنْ عَداهم. ورُبَّما أُمِرُوا بِقَتْلِ النِّساءِ أيْضًا. فَرُبَّما ظُنَّ مِن ذَلِكَ أنَّ مَن آمَنَ مِن غَيْرِهِمْ لا يُقْبَلُ. وقَدْ ذُكِرَ مِنهُ في سُورَةِ المائِدَةِ، وفي وضْعِها أيْضًا في أثْناءِ قِصَصِهِمْ، إشارَةٌ إلى تَكْذِيبِهِمْ في قَوْلِهِمْ: ﴿لَيْسَ عَلَيْنا في الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: ٧٥] وأنَّ المَدارَ في عِصْمَةِ الدَّمِ والمالِ إنَّما هو الإيمانُ والِاسْتِقامَةُ. وذَلِكَ مَوْجُودٌ في نَصِّ التَّوْراةِ في غَيْرِ مَوْضِعٍ. وفِيها تَهْدِيدُهم عَلى المُخالَفَةِ في ذَلِكَ بِالذُّلِّ والمَسْكَنَةِ. وسَيَأْتِي بَعْضُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿لا تَعْبُدُونَ إلا اللَّهَ﴾ [البقرة: ٨٣] الآيَةَ. بَلْ وفِيها ما يَقْتَضِي المَنعَ مِن مالِ المُخالِفِ (p-١٤٨)فِي الدِّينِ، فَإنَّهُ قالَ في وسَطِ السِّفْرِ الثّانِي: وإذا لَقِيتَ ثَوْرَ عَدُوِّكَ أوْ حِمارَهُ وعَلَيْهِ حُمُولَةٌ فارْدُدْها إلَيْهِ. وإذا رَأيْتَ حِمارَ عَدُوِّكَ جاثِمًا تَحْتَ حِمْلِهِ فَهَمَمْتَ أنْ لا تُوازِرَهُ فَوازِرْهُ وساعِدْهُ. ثُمَّ رَجَعَ إلى قِصَصِهِمْ عَلى أحْسَنِ وجْهٍ فَقالَ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب