الباحث القرآني

(p-١٣١)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٥٧ ] ﴿وظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الغَمامَ وأنْـزَلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكم وما ظَلَمُونا ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ ﴿وظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الغَمامَ وأنْـزَلْنا عَلَيْكُمُ المَنَّ والسَّلْوى كُلُوا مِن طَيِّباتِ ما رَزَقْناكم وما ظَلَمُونا ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ﴾ لَمّا ذَكَرَ تَعالى ما دَفَعَهُ عَنْهم مِنَ النِّقَمِ شَرَعَ يُذَكِّرُهم أيْضًا بِما أسْبَغَ عَلَيْهِمْ مِنَ النِّعَمِ، فَمِنها تَظْلِيلُ الغَمامِ عَلَيْهِمْ، وذَلِكَ أنَّهم كانَتْ تُظِلُّهم سَحابَةٌ إذا ارْتَحَلُوا. لِئَلّا تُؤْذِيهِمْ حَرارَةُ الشَّمْسِ، وقَدْ ذَكَرَ تَفْصِيلَ شَأْنِها في تَوْراتِهِمْ في الفَصْلِ التّاسِعِ مِن سِفْرِ العَدَدِ، ومِنها إنْزالُ المَنِّ. وقَدْ رُوِيَ في التَّوْراةِ أنَّهم لَمّا ارْتَحَلُوا مِن إيلِيمَ وأتَوْا إلى بَرِّيَّةِ سِينَ، الَّتِي بَيْنَ إيلِيمَ وسَيْناءَ، في مُنْتَصَفِ الشَّهْرِ الثّانِي بَعْدَ خُرُوجِهِمْ مِن مِصْرَ، تَذَمَّرُوا عَلى مُوسى وهارُونَ في البَرِّيَّةِ، وقالُوا لَهُما: لَيْتَنا مُتْنا في أرْضِ مِصْرَ إذْ كُنّا نَأْكُلُ خُبْزًا ولَحْمًا، فَأخْرَجْتُمانا إلى هَذِهِ البَرِّيَّةِ لِتُهْلِكا هَذا الجَمْعَ بِالجُوعِ. فَأوْحى تَعالى لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إنِّي أُمْطِرُ عَلَيْكم خُبْزًا مِنَ السَّماءِ. فَلْيَخْرُجِ الشَّعْبُ، ويَلْتَقِطُوا حاجَةَ اليَوْمِ بِيَوْمِها طَعامَهم مِن أجْلِ أنِّي أمْتَحِنُهم، هَلْ يَمْشُونَ في شَرِيعَتِي أمْ لا، ولْيَكُونُوا في اليَوْمِ السّادِسِ أنَّهم يُهَيِّئُونَ ضِعْفَ ما يَلْتَقِطُونَهُ يَوْمًا فَيَوْمًا. لِأنَّ اليَوْمَ السّابِعَ يَوْمُ عِيدٍ لا يُشْخَصُ فِيهِ لِأمْرِ المَعِيشَةِ ولا لِطُلْبَةِ شَيْءٍ. فَقالَ لَهم مُوسى: إنَّ الرَّبَّ تَعالى يُعْطِيكم عِنْدَ المَساءِ لَحْمًا تَأْكُلُونَ، وبِالغَداةِ تَشْبَعُونَ خُبْزًا. فَكانَ في المَساءِ أنَّ السَّلْوى صَعِدَتْ وغَطَّتِ المَحَلَّةَ، وبِالغَداةِ أيْضًا وقَعَ النَّدى حَوْلَ المَحَلَّةِ. ولَمّا غَطّى وجْهَ الأرْضِ تَبايَنَ في البَرِّيَّةِ شَيْءٌ رَقِيقٌ كَأنَّهُ مَدْقُوقٌ بِالمِدَقَّةِ، يُشْبِهُ الجَلِيدَ عَلى الأرْضِ. فَلَمّا نَظَرَ إلَيْهِ بَنُو إسْرائِيلَ قالُوا: ما هَذا ؟ لِأنَّهم لَمْ يَعْرِفُوهُ. فَقالَ لَهم مُوسى: هَذا هو الخُبْزُ الَّذِي أعْطاكُمُ الرَّبُّ لِتَأْكُلُوا. وقَدْ أمَرَكم أنْ يَلْقُطَ كُلُّ واحِدٍ عَلى قَدْرِ ما في بَيْتِهِ، وقَدَرِ مَأْكَلِهِ. فَفَعَلَ بَنُو إسْرائِيلَ كَذَلِكَ، ولَقَطُوا ما بَيْنَ مُكَثِّرٍ ومُقَلِّلٍ، وقالَ لَهم مُوسى: لا تُبْقُوا مِنهُ شَيْئًا إلى الغَدِ. فَلَمْ يُطِيعُوا (p-١٣٢)مُوسى، واسْتَفْضَلَ مِنهُ رِجالٌ إلى الغَدِ، فَضَرَبَ فِيهِ الدُّودُ ونَتِنَ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ مُوسى، وكانُوا يَلْقُطُونَ غَدْوَةً، كُلُّ إنْسانٍ يَلْقُطُ عَلى قَدْرِ ما يَأْكُلُ، فَإذا أصابَهُ حَرُّ الشَّمْسِ ذابَ. وقَدْ أُعْطُوا في اليَوْمِ السّادِسِ خُبْزَ يَوْمَيْنِ لِيَجْلِسَ كُلُّ رَجُلٍ مِنهم في مَكانِهِ في اليَوْمِ السّابِعِ، راحَةً وتَقْدِيسًا لَهُ. وكانَ إذا خَرَجَ بَعْضُ الشَّعْبِ لِيَلْقُطَ، يَوْمَ السّابِعِ، لا يَجِدُ في الأرْضِ مِنهُ شَيْئًا. ودَعا آلُ إسْرائِيلَ اسْمَهُ المَنَّ، وكانَ مِثْلَ حَبِّ الكُزْبُرَةِ أبْيَضَ، وطَعْمُهُ كَرُقاقٍ بِعَسَلٍ، وأكَلَ بَنُو إسْرائِيلَ المَنَّ أرْبَعِينَ سَنَةً حَتّى أتَوْا إلى الأرْضِ العامِرَةِ، ودَنَوْا مِن تُخُومِ أرْضِ كَنْعانَ. ورُوِيَ في تَرْجَمَةِ التَّوْراةِ أيْضًا أنَّ المَنَّ كانَ يُشْبِهُ لَوْنَ اللُّؤْلُؤِ. وكانَ يَطُوفُ الشَّعْبُ ويَلْتَقِطُونَهُ ويَطْحَنُونَهُ بِالرَّحى. ويَدُقُّونَهُ في الهاوُنِ ويَطْبُخُونَهُ في القُدُورِ، ويَعْمَلُونَ مِنهُ رُغُفًا طَعْمُها كالخُبْزِ المَعْجُونِ بِالدُّهْنِ. ومَتى نَزَلَ النَّدى عَلى المَحَلَّةِ لَيْلًا كانَ يَنْزِلُ المَنُّ مَعَهُ اهـ. هَذا ما كانَ مِن أمْرِ المَنِّ. وأمّا السَّلْوى فَرُوِيَ أيْضًا: أنَّ جَماعَةً مِمَّنْ صَعِدَ مَعَ بَنِي إسْرائِيلَ مِن مِصْرَ تاقَتْ أنْفُسُهم لِلَحْمٍ وجَلَسُوا يَبْكُونَ، ووافَقَهم بَنُو إسْرائِيلَ عَلى اشْتِهائِهِ أيْضًا. وقالُوا: مَن يَطْعَمُنا لَحْمًا لِنَأْكُلَ ؟ قَدْ تَذَكَّرْنا السَّمَكَ الَّذِي كُنّا نَأْكُلُهُ بِمِصْرَ مِن غَيْرِ ثَمَنٍ، والقِثّاءِ والبِطِّيخَ والكُرّاثَ والبَصَلَ والثُّومَ. والآنَ قَدْ يَبِسَتْ نُفُوسُنا ولا تَنْظُرُ عُيُونُنا إلّا المَنَّ. فَلَمّا سَمِعَ مُوسى الشَّعْبَ يَبْكُونَ بِعَشائِرِهِمْ، وعَلِمَ غَضَبَ الرَّبِّ عَلَيْهِمْ؛ لِذَلِكَ، ابْتَهَلَ إلى رَبِّهِ وقالَ: مِن أيْنَ لِي لَحْمٌ أُطْعِمُ مِنهُ هَذا الجَمْعَ وهم يَبْكُونَ عَلَيَّ ويَقُولُونَ أعْطِنا لَحْمًا لِنَأْكُلَ ؟ فَأوْحى إلَيْهِ رَبُّهُ أنْ يَجْمَعَ سَبْعِينَ رَجُلًا مِن شُيُوخِ شَعْبِهِ وعُرَفائِهِ، ويُقْبِلُ بِهِمْ إلى خَيْمَةِ الِاجْتِماعِ فَيَكُونُوا مَعَهُ، ثُمَّ كَلَّمَهُ رَبُّهُ ووَعَدَهُ أنْ يُعْطِيَهُ لَحْمًا يَأْكُلُونَ مِنهُ شَهْرًا حَتّى يَأْنَفُوا مِنهُ. فَأخْبَرَ مُوسى الشَّعْبَ بِذَلِكَ. ثُمَّ انْحازَ إلى المَحَلَّةِ هو وشُيُوخُ قَوْمِهِ، فَخَرَجَتْ رِيحٌ وحَمَلَتِ السَّلْوى مِنَ البَحْرِ وألْقَتْها عَلى المَحَلَّةِ مَسِيرَةَ يَوْمٍ حَوْلَ المَحَلَّةِ مِن كُلِّ جانِبٍ، وكانَتْ تَطِيرُ بِالجَوِّ ذِراعَيْنِ عَلى الأرْضِ، وقامَ الشَّعْبُ يَوْمَهم ذَلِكَ كُلَّهُ واللَّيْلَ. وفي غَدِ اليَوْمِ الثّانِي، فَجَمَعُوا السَّلْوى أقَلَّ مِن جَمْعِ عَشَرَةِ أكْرارٍ، سَطَحُوهُ سَطِيحًا ويَبِسُوهُ حَوْلَ المَحَلَّةِ. (p-١٣٣)وقَبْلَ أنْ يَنْقَطِعَ اللَّحْمُ مِن عِنْدِهِمْ غَضِبَ الرَّبُّ تَعالى عَلى الشَّعْبِ؛ فَضَرَبَهُ ضَرْبَةً عَظِيمَةً جِدًّا، ودُعِيَ اسْمُ ذَلِكَ المَوْضِعِ قُبُورَ الشَّهْوَةِ. لِأنَّهم هُناكَ دَفَنُوا القَوْمَ الَّذِينَ اشْتَهَوْا. ثُمَّ خَرَجُوا مِن قُبُورِ الشَّهْوَةِ، وارْتَحَلُوا لِغَيْرِهِ. انْتَهى. وقَوْلُهُ تَعالى "كُلُوا" عَلى إرادَةِ القَوْلِ أيْ قائِلِينَ لَهم أوْ قِيلَ لَهم كُلُوا. وقَوْلُهُ "وما ظَلَمُونا" كَلامٌ عَدَلَ بِهِ عَنْ نَهْجِ الخِطابِ السّابِقِ لِلْإيذانِ بِاقْتِضاءِ جِناياتِ المُخاطَبِينَ لِلْإعْراضِ عَنْهم وتَعْدادِ قَبائِحِهِمْ عِنْدَ غَيْرِهِمْ عَلى طَرِيقِ المُباثَّةِ. مَعْطُوفٌ عَلى مُضْمَرٍ قَدْ حُذِفَ لِلْإيجازِ، والإشْعارِ بِأنَّهُ أمْرٌ مُحَقَّقٌ غَنِيٌّ عَنِ التَّصْرِيحِ بِهِ. أيْ: فَظَلَمُوا بِأنْ أكْثَرُوا مِنَ التَّضَجُّرِ والتَّذَمُّرِ عَلى رَبِّهِمْ وشَكْوى سُكْناهم في البَرِّيَّةِ وفِراقِهِمْ مِصْرَ، وما ظَلَمُونا بِذَلِكَ، ولَكِنْ كانُوا أنْفُسَهم يَظْلِمُونَ، بِالعِصْيانِ. إذْ لا يَتَخَطّاهم ضَرَرُهُ، وبِذَلِكَ حَقَّ عَلَيْهِمُ العَذابُ الَّذِي ضُرِبُوا بِهِ كَما ذَكَرْناهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب