الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٣٩ ] ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا وكَذَّبُوا بِآياتِنا﴾ بِالكِتابِ والرَّسُولِ: ﴿أُولَئِكَ أصْحابُ النّارِ هم فِيها خالِدُونَ﴾ لا يَمُوتُونَ ولا يَخْرُجُونَ. (p-١١١)تَنْبِيهٌ: إنَّما كَرَّرَ الأمْرَ بِالهُبُوطِ لِلتَّأْكِيدِ والإيذانِ بِتَحَتُّمِ مُقْتَضاهُ. وتَحَقُّقِهِ لا مَحالَةَ. أوْ لِاخْتِلافِ المَقْصُودِ. فَإنَّ الأوَّلَ دَلَّ عَلى أنَّ هُبُوطَهم إلى دارِ بَلِيَّةٍ يَتَعادُّونَ فِيها ولا يَخْلُدُونَ. والثّانِي أشْعَرَ بِأنَّهم أُهْبِطُوا لِلتَّكْلِيفِ. فَمَنِ اتَّبَعَ الهُدى نَجا، ومَن ضَلَّهُ هَلَكَ. فَوائِدُ: الأُولى: ذَهَبَ كَثِيرُونَ إلى أنَّ الجَنَّةَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنها آدَمُ عَلَيْهِ السَّلامُ، كانَتْ في الأرْضِ. قالَ بَعْضُهم: هي عَلى رَأْسِ جَبَلٍ بِالمَشْرِقِ تَحْتَ خَطِّ الِاسْتِواءِ. وحَمَلُوا الهُبُوطِ عَلى الِانْتِقالِ مِن بُقْعَةٍ إلى بُقْعَةٍ، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ [البقرة: ٦١] واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ هَذِهِ الجَنَّةَ: لَوْ كانَتْ هي دارَ الثَّوابِ، لَكانَتْ جَنَّةَ الخُلْدِ، ولَوْ كانَ آدَمُ في جَنَّةِ الخُلْدِ، لَما لَحِقَهُ الغُرُورُ مِنَ الشَّيْطانِ بِقَوْلِهِ: ﴿هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى﴾ [طه: ١٢٠] ولَما صَحَّ قَوْلُهُ: ﴿ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلا أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ﴾ [الأعراف: ٢٠] وثانِيها: أنَّ مَن دَخَلَ هَذِهِ الجَنَّةَ لا يَخْرُجُ مِنها لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما هم مِنها بِمُخْرَجِينَ﴾ [الحجر: ٤٨] (p-١١٢)وثالِثُها: لا نِزاعَ في أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ في الأرْضِ، ولَمْ يَذْكُرْ في هَذِهِ القِصَّةِ أنَّهُ نَقَلَهُ إلى السَّماءِ، ولَوْ كانَ تَعالى قَدْ نَقَلَهُ إلى السَّماءِ، لَكانَ ذَلِكَ أوْلى بِالذِّكْرِ، لِأنَّ نَقْلَهُ مِنَ الأرْضِ إلى السَّماءِ، مِن أعْظَمِ النِّعَمِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلى أنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ. وذَلِكَ يُوجِبُ أنَّ المُرادَ مِنَ الجَنَّةِ غَيْرُ جَنَّةِ الخُلْدِ. ورابِعُها: رَوى مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: ««سَيَحانُ وجِيحانُ والفُراتُ والنِّيلُ، كُلٌّ مِن أنْهارِ الجَنَّةِ»» . قالَ ابْنُ مُفْلِحٍ: أكْثَرُ النّاسِ عَلى أنَّ المُرادَ بِالجَنَّةِ الَّتِي أسْكَنَها آدَمَ جَنَّةَ الخُلْدِ، دارَ الثَّوابِ. ثُمَّ قالَ: قالَ شَيْخُ الإسْلامِ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَّةَ: وهَذا قَوْلُ أهْلِ السُّنَّةِ والجَماعَةِ، ومَن قالَ إنَّها جَنَّةٌ في الأرْضِ بِالهِنْدِ أوْ جُدَّةَ، أوْ غَيْرَ ذَلِكَ، فَهو مِنَ المُلْحِدَةِ المُبْتَدِعِينَ. والكِتابُ والسُّنَّةُ يَرِدانِ هَذا القَوْلَ. وقَدِ اسْتَوْفى الكَلامُ فِيها في " مِفْتاحِ دارِ السَّعادَةِ " وكِتابِ " حادِي الأرْواحِ إلى بِلادِ الأفْراحِ " . الفائِدَةُ الثّانِيَةُ: اتَّفَقَ النّاسُ أنَّ الشَّيْطانَ كانَ مُتَوَلِّيًا إغْواءَ آدَمَ، واخْتُلِفَ في الكَيْفِيَّةِ. فَقالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وابْنُ عَبّاسٍ وجُمْهُورُ العُلَماءِ: أغْواهُما مُشافَهَةً، ودَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هَلْ أدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الخُلْدِ ومُلْكٍ لا يَبْلى﴾ [طه: ١٢٠] وقَوْلُهُ: ﴿ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إلا أنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أوْ تَكُونا مِنَ الخالِدِينَ﴾ [الأعراف: ٢٠] ومُقاسَمَتُهُ لَهُما (p-١١٣)﴿إنِّي لَكُما لَمِنَ النّاصِحِينَ﴾ [الأعراف: ٢١] والمُقاسَمَةُ ظاهِرُها المُشافَهَةُ، ومِنهم مَن قالَ: كانَ ذَلِكَ بِالوَسْوَسَةِ، كَما قالَ: ﴿فَوَسْوَسَ لَهُما الشَّيْطانُ﴾ [الأعراف: ٢٠] فَإغْواؤُهُ إغْراؤُهُ بِوَسْواسِهِ وسُلْطانِهِ الَّذِي جَعَلَ لَهُ، كَما قالَ ﷺ: ««إنَّ الشَّيْطانَ يَجْرِي مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرى الدَّمِ»» . وزَعَمُوا أنَّ الشَّيْطانَ لَمْ يَدْخُلِ الجَنَّةَ إلى آدَمَ بَعْدَ ما أُخْرِجَ مِنها. والوَسْوَسَةُ: لُغَةً، حَدِيثُ النَّفْسِ والأفْكارِ. وحَدِيثُ الشَّيْطانِ بِما لا نَفْعَ فِيهِ ولا خَيْرَ، والكَلامُ الخَفِيُّ. وظاهِرُ الآياتِ يُؤَيِّدُ القَوْلَ الأوَّلَ. الفائِدَةُ الثّالِثَةُ: لَمْ يُسَمَّ الشَّيْطانُ في الآيَةِ، إذْ لا حاجَةَ ماسَّةً إلى اسْمِهِ، كَما تَقَدَّمَ في الشَّجَرَةِ. ولَمّا قَدَّمَ اللَّهُ تَعالى دَعْوَةَ النّاسِ عُمُومًا، وذَكَرَ مَبْدَأهم - دَعا بَنِي إسْرائِيلَ خُصُوصًا، وهُمُ اليَهُودُ، لِأنَّهم كانُوا أوْلى النّاسِ بِالإيمانِ بِالنَّبِيِّ ﷺ، لِأنَّهم يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ، وقَدْ جَرى الكَلامُ مَعَهم (مِن هُنا إلى الآيَةِ رَقْمِ ١٤٢) فَتارَةً دَعاهم بِالمُلاطَفَةِ، وذِكْرِ الإنْعامِ عَلَيْهِمْ وعَلى آبائِهِمْ. وتارَةً بِالتَّخْوِيفِ، وتارَةً بِإقامَةِ الحُجَّةِ وتَوْبِيخِهِمْ عَلى سُوءِ أعْمالِهِمْ، وذِكْرِ عُقُوباتِهِمُ الَّتِي عاقَبَهم بِها، كَما سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ، فَقالَ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب