الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٢١٠] ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ وقُضِيَ الأمْرُ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ﴾ أيْ: يَنْتَظِرُونَ، فِـ " نَظَرَ " كَ " انْتَظَرَ "، يُقالُ: نَظَرْتُهُ وانْتَظَرْتُهُ إذا ارْتَقَبَتْ حُضُورَهُ. وهَذا الِاسْتِفْهامُ إنْكارِيٌّ في مَعْنى النَّفْيِ؛ أيْ: ما يَنْتَظِرُونَ بِما يَفْعَلُونَ مِنَ العِنادِ والمُخالَفَةِ - في الِامْتِثالِ بِما أُمِرُوا بِهِ، والِانْتِهاءِ عَمّا نُهُوا عَنْهُ - بَعْدَ طُولِ الحِلْمِ عَنْهُمْ: ﴿إلا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ﴾ جَمْعُ ظُلَّةٍ - كَقُلَلٍ في جَمْعِ قُلَّةٍ - أيْ: في ظُلَّةٍ داخِلَ ظُلَّةٍ - وهي ما يَسْتُرُ مِنَ الشَّمْسِ، فَهي في غايَةِ الإظْلامِ والهَوْلِ والمَهابَةِ لِما لَها مِنَ الكَثافَةِ الَّتِي تَغُمُّ عَلى الرّائِي ما فِيها: ﴿والمَلائِكَةِ﴾ [البقرة: ١٦١] عَطْفٌ عَلى الِاسْمِ الجَلِيلِ، أيْ: ويَأْتِي جُنْدُهُ الَّذِينَ لا يَعْلَمُ كَثْرَتَهم إلّا هو. هَذا عَلى قِراءَةِ الجَماعَةِ. وعَلى قِراءَةِأبِي جَعْفَرٍ (p-٥١٦)بِالخَفْضِ. فَهو عَطْفٌ عَلى ظُلَلٍ أوِ الغَمامِ: ﴿وقُضِيَ الأمْرُ﴾ أيْ: أتَمَّ أمْرَ إهْلاكِهِمْ وفَرَغَ مِنهُ. قالَ الرّاغِبُ: نَبَّهَ بِهِ عَلى أنَّهُ لا يُمْكِنُ تَلافِي الفارِطِ... وهو عَطْفٌ عَلى: ﴿يَأْتِيَهُمُ﴾ داخِلٌ في حَيِّزِ الِانْتِظارِ. وإنَّما عَدَلَ إلى صِيغَةِ الماضِي دَلالَةً عَلى تَحَقُّقِهِ، فَكَأنَّهُ قَدْ كانَ. أوْ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ جِيءَ بِها إنْباءً عَنْ وُقُوعِ مَضْمُونِها ﴿وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ أيْ: فَمَن كانُوا نافِذِي المُلْكِ والتَّصَرُّفِ في الدُّنْيا، فَإنَّ مُلْكَهم وتَصَرُّفَهم مُسْتَرَدٌّ مِنهم يَوْمَ القِيامَةِ وراجِعٌ إلَيْهِ تَعالى. يُقالُ: رَجَعَ الأمْرُ إلى الأمِيرِ، أيِ: اسْتَرَدَّ ما كانَ فَوَّضَهُ إلَيْهِمْ. أوْ عَنى بِـ: ﴿الأُمُورُ﴾ الأرْواحَ والأنْفُسَ دُونَ الأجْسامِ، وسَمّاها أُمُورًا مِن حَيْثُ إنَّها إبْداعاتٌ مُشارٌ إلَيْها بِقَوْلِهِ: ﴿ألا لَهُ الخَلْقُ والأمْرُ﴾ [الأعراف: ٥٤] فَهي مِنَ الإبْداعِ الَّذِي لا يُمْكِنُ مِنَ البَشَرِ تَصَوُّرُهُ؛ فَنَبَّهَ أنَّ الأرْواحَ كُلَّها مَرْجُوعَةٌ إلَيْهِ وراجِعَةٌ. وعَلى نَحْوِ ذَلِكَ قالَ: ﴿كَما بَدَأكم تَعُودُونَ﴾ [الأعراف: ٢٩] ويَكُونُ رُجُوعُها إمّا بِرِبْحٍ وغِبْطَةٍ، وإمّا بِنَدامَةٍ وحَسْرَةٍ. قالَهُ الإمامُ الرّاغِبُ. قالَ أبُو مُسْلِمٍ: إنَّهُ تَعالى قَدْ مَلَّكَ كُلَّ أحَدٍ في دارِ الِاخْتِبارِ والبَلْوى أُمُورًًا، امْتِحانًا، فَإذا انْقَضى أمْرُ هَذِهِ الدّارِ ووَصَلْنا إلى دارِ الثَّوابِ والعِقابِ كانَ الأمْرُ كُلُّهُ لِلَّهِ وحْدَهُ. وإذا كانَ كَذَلِكَ فَهو أهْلٌ أنْ يُتَّقى ويُطاعَ ويُدْخَلَ في السِّلْمِ - كَما أمَرَ - ويَحْتَرِزَ عَنْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ كَما نَهى. وقَدْ قُرِئَ في السَّبْعِ تُرْجَعُ بِضَمِّ التّاءِ بِمَعْنى تُرَدُّ، وبِفَتْحِها بِمَعْنى تَصِيرُ، كَقَوْلِهِ تَعالى: (p-٥١٧)﴿ألا إلى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ﴾ [الشورى: ٥٣] قالَ القَفّالُ: والمَعْنى في القِراءَتَيْنِ مُتَقارِبٌ، لِأنَّها تَرْجِعُ إلَيْهِ تَعالى، وهو سُبْحانُهُ يُرْجِعُها إلى نَفْسِهِ بِإفْناءِ الدُّنْيا وإقامَةِ القِيامَةِ. تَنْبِيهانِ: الأوَّلُ: لِهَذِهِ الآيَةِ أشْباهٌ ونَظائِرُ تَدُلُّ عَلى أنَّ هَذا الوَعِيدَ أُخْرَوِيٌّ. ولِذا قالَ ابْنُ كَثِيرٍ في مَعْنى الآيَةِ: يَقُولُ تَعالى مُهَدِّدًا لِلْكافِرِينَ بِمُحَمَّدٍ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ والمَلائِكَةُ﴾ يَعْنِي: يَوْمَ القِيامَةِ لِفَصْلِ القَضاءِ بَيْنَ الأوَّلِينَ والآخَرِينَ، فَيُجْزى كُلُّ عامِلٍ بِعَمَلِهِ: إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ...! ولِهَذا قالَ تَعالى: ﴿وقُضِيَ الأمْرُ وإلى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ﴾ كَما قالَ تَعالى: ﴿كَلا إذا دُكَّتِ الأرْضُ دَكًّا دَكًّا﴾ [الفجر: ٢١] ﴿وجاءَ رَبُّكَ والمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾ [الفجر: ٢٢] ﴿وجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنْسانُ وأنّى لَهُ الذِّكْرى﴾ [الفجر: ٢٣] وقالَ: ﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إلا أنْ تَأْتِيَهُمُ المَلائِكَةُ أوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ﴾ [الأنعام: ١٥٨] الآيَةَ. (p-٥١٨)الثّانِي: وصْفُهُ تَعالى نَفْسَهُ بِالإتْيانِ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ كَوَصْفِهِ بِالمَجِيءِ في آياتٍ آخُرَ ونَحْوِهِما مِمّا وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ في كِتابِهِ، أوْ صَحَّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. والقَوْلُ في جَمِيعِ ذَلِكَ مِن جِنْسٍ واحِدٍ. وهُوَ مَذْهَبُ سَلَفِ الأُمَّةِ وأئِمَّتِها: إنَّهم يَصِفُونَهُ سُبْحانَهُ بِما وصَفَ بِهِ نَفْسَهُ ووَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ ﷺ مِن غَيْرِ تَحْرِيفٍ ولا تَعْطِيلٍ ولا تَكْيِيفٍ ولا تَمْثِيلٍ. والقَوْلُ في صِفاتِهِ كالقَوْلِ في ذاتِهِ. واللَّهُ تَعالى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ لا في ذاتِهِ، ولا في صِفاتِهِ، ولا في أفْعالِهِ. فَلَوْ سَألَ سائِلٌ: كَيْفَ يَجِيءُ سُبْحانَهُ أوْ كَيْفَ يَأْتِي..؟ فَلْيَقُلْ لَهُ: كَيْفَ هو في نَفْسِهِ؟ فَإذا قالَ: لا أعْلَمُ كَيْفِيَّةَ ذاتِهِ! فَلْيَقُلْ لَهُ: وكَذَلِكَ لا تَعْلَمُ كَيْفِيَّةَ صِفاتِهِ..! فَإنَّ العِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ الصِّفَةِ يَتْبَعُ العِلْمَ بِكَيْفِيَّةِ المَوْصُوفِ. وقَدْ أطْلَقَ غَيْرُ واحِدٍ، مِمَّنْ حَكى إجْماعَ السَّلَفِ، مِنهُمُ الخَطّابِيُّ: مَذْهَبُ السَّلَفِ أنَّ صِفاتِهِ تَعالى تَجْرِي عَلى ظاهِرِها مَعَ نَفْيِ الكَيْفِيَّةِ والتَّشْبِيهِ عَنْها. وبَعْضُ النّاسِ يَقُولُ: مَذْهَبُ السَّلَفِ إنَّ الظّاهِرَ غَيْرُ مُرادٍ. ويَقُولُ: أجْمَعْنا عَلى أنَّ الظّاهِرَ غَيْرُ مُرادٍ. وهَذِهِ العِبارَةُ خَطَأٌ إمّا لَفْظًا ومَعْنًى، أوْ لَفْظًا لا مَعْنى؛ لِأنَّ لَفْظَ الظّاهِرِ فِيهِ إجْمالٌ واشْتِراكٌ. فَإنْ كانَ القائِلُ يَعْتَقِدُ أنَّ ظاهِرَها التَّمْثِيلُ بِصِفاتِ المَخْلُوقِينَ أوْ ما هو مِن خَصائِصِهِمْ، فَلا رَيْبَ أنَّ هَذا غَيْرُ مُرادٍ؛ ولَكِنَّ السَّلَفَ والأئِمَّةَ لَمْ يَكُونُوا يُسَمُّونَ هَذا ظاهَرَها؛ فَهَذا القائِلُ أخْطَأ حَيْثُ ظَنَّ أنَّ هَذا المَعْنى الفاسِدَ ظاهِرُ اللَّفْظِ، حَتّى جَعَلَهُ مُحْتاجًا إلى تَأْوِيلٍ، وحَيْثُ حَكى عَنِ السَّلَفِ ما لَمْ يُرِيدُوهُ. وإنْ كانَ القائِلُ يَعْتَقِدُ أنَّ ظاهِرَ النُّصُوصِ المُتَنازَعِ في مَعْناها مِن جِنْسِ ظاهِرِ النُّصُوصِ المُتَّفَقِ عَلى مَعْناها. والظّاهِرُ هو المُرادُ في الجَمِيعِ، فَإنَّ اللَّهَ لَمّا أخْبَرَ أنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وأنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، واتَّفَقَ أهْلُ السُّنَّةِ وأئِمَّةُ المُسْلِمِينَ عَلى أنَّ هَذا عَلى ظاهِرِهِ، أنَّ ظاهِرَ ذَلِكَ مُرادٌ - كانَ مِنَ المَعْلُومِ أنَّهم لَمْ يُرِيدُوا بِهَذا الظّاهِرِ أنْ يَكُونَ عِلْمُهُ كَعِلْمِنا وقُدْرَتُهُ كَقُدْرَتِنا. وكَذَلِكَ لَمّا اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ حَيٌّ عالِمٌ حَقِيقَةً، قادِرٌ حَقِيقَةً لَمْ يَكُنْ مُرادُهم أنَّهُ مِثْلُ المَخْلُوقِ الَّذِي هو حَيٌّ عَلِيمٌ قَدِيرٌ. فَإنْ كانَ المُسْتَمِعُ يَظُنُّ أنَّ ظاهِرَ الصِّفاتِ تُماثِلُ صِفاتِ المَخْلُوقِينَ لَزِمَهُ أنْ لا يَكُونَ (p-٥١٩)شَيْءٌ مِن ظاهِرِ ذَلِكَ مُرادًا، وإنْ كانَ يُعْتَقَدُ أنَّ ظاهِرَها ما يَلِيقُ بِالخالِقِ ويَخْتَصُّ بِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ نَفْيُ هَذا الظّاهِرِ، ونَفْيُ أنْ يَكُونَ مُرادًا إلّا بِدَلِيلٍ يَدُلُّ عَلى النَّفْيِ. ولَيْسَ في العَقْلِ ولا السَّمْعِ ما يَنْفِي هَذا إلّا مِن جِنْسِ ما يَنْفِي بِهِ سائِرَ الصِّفاتِ، فَيَكُونُ الكَلامُ في الجَمِيعِ واحِدًا. وحِينَئِذٍ فَلا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّ الظّاهِرَ غَيْرُ مُرادٍ بِهَذا التَّفْسِيرِ. وبِالجُمْلَةِ، فَمَن قالَ: إنَّ الظّاهِرَ غَيْرُ مُرادٍ - بِمَعْنى أنَّ صِفاتِ المَخْلُوقِينَ غَيْرُ مُرادَةٍ - قُلْنا لَهُ: أصَبْتَ في المَعْنى ولَكِنْ أخْطَأْتَ في اللَّفْظِ، وأوْهَمْتَ البِدْعَةَ، وجَعَلْتَ لِلْجَهْمِيَّةِ طَرِيقًا إلى غَرَضِهِمْ، وكانَ يُمْكِنُكَ أنْ تَقُولَ: تَمُرُّ كَما جاءَتْ عَلى ظاهِرِها مَعَ العِلْمِ بِأنَّ صِفاتِ اللَّهِ لَيْسَتْ كَصِفاتِ المَخْلُوقِينَ، وأنَّهُ مُنَزَّهٌ مُقَدَّسٌ عَنْ كُلِّ ما يَلْزَمُ مِنهُ حُدُوثُهُ أوْ نَقْصُهُ. ومَن قالَ: الظّاهِرُ غَيْرُ مُرادٍ بِالتَّفْسِيرِ الثّانِي: وهو مُرادُ الجَهْمِيَّةِ ومَن تَبِعَهم؛ فَقَدْ أخْطَأ. وإنَّما أُتِيَ مَن أخْطَأ مِن قَبْلِ أنَّهُ يَتَوَهَّمُ - في بَعْضِ الصِّفاتِ أوْ في كَثِيرٍ مِنها أوْ أكْثَرِها أوْ كُلِّها - أنَّها تُماثِلُ صِفاتِ المَخْلُوقِينَ، ثُمَّ يُرِيدُ أنْ يَنْفِيَ ذَلِكَ الَّذِي فَهِمَهُ، فَيَقَعُ في أرْبَعَةِ أنْواعٍ مِنَ المَحاذِيرِ: أحَدُها: كَوْنُهُ مِثْلَ ما فَهِمَهُ مِنَ النُّصُوصِ بِصِفاتِ المَخْلُوقِينَ، وظَنَّ أنَّ مَدْلُولَ النُّصُوصِ هو التَّمْثِيلُ. الثّانِي: أنَّهُ إذا جَعَلَ ذَلِكَ هو مَفْهُومُها وعَطَّلَهُ، بَقِيَتِ النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً عَمّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن إثْباتِ الصِّفاتِ اللّائِقَةِ بِاللَّهِ. فَيَبْقى مَعَ جِنايَتِهِ عَلى النُّصُوصِ وظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ - حَيْثُ ظَنَّ أنَّ الَّذِي يُفْهَمُ مِن كَلامِهِما هو التَّمْثِيلُ الباطِلُ - قَدْ عَطَّلَ ما أوْدَعَ اللَّهُ ورَسُولُهُ في كَلامِهِما مِن إثْباتِ الصِّفاتِ لِلَّهِ والمَعانِي الإلَهِيَّةِ اللّائِقَةِ بِجَلالِ اللَّهِ تَعالى. الثّالِثُ: أنَّهُ يَنْفِي تِلْكَ الصِّفاتِ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَيَكُونُ مُعَطِّلًا لِما يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ. الرّابِعُ: أنَّهُ يَصِفُ الرَّبَّ بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفاتِ - مِن صِفاتِ الأمْواتِ والجَماداتِ أوْ صِفاتِ المَعْدُوماتِ - فَيَكُونُ قَدْ عَطَّلَ بِهِ صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّها الرَّبُّ، ومَثَّلَهُ (p-٥٢٠)بِالمَنقُوصاتِ والمَعْدُوماتِ، وعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفاتِ، وجَعَلَ مَدْلُولَها هو التَّمْثِيلُ بِالمَخْلُوقاتِ، فَيَجْمَعُ في كَلامِ اللَّهِ وفي اللَّهِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ والتَّمْثِيلِ، فَيَكُونُ مُلْحِدًا في أسْماءِ اللَّهِ وآياتِهِ. وحاصِلُ الكَلامِ: أنَّ هَذِهِ الصِّفاتِ إنَّما هي صِفاتُ اللَّهِ سُبْحانَهُ عَلى ما يَلِيقُ بِجَلالِهِ نِسْبَتُها إلى ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ كَنِسْبَةِ صِفاتِ كُلِّ شَيْءٍ إلى ذاتِهِ. هَذا مُلَخَّصُ ما قَرَّرَهُ شَيْخُ الإسْلامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في رِسالَتَيْهِ " التَّدْمِرِيَّةِ " و" المَدَنِيَّةِ ". قالَ الحافِظُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ: أهْلُ السُّنَّةِ مُجْمِعُونَ عَلى الإقْرارِ بِالصِّفاتِ الوارِدَةِ كُلِّها في القُرْآنِ والسُّنَّةِ والإيمانِ بِها، وحَمْلِها عَلى الحَقِيقَةِ لا عَلى المَجازِ؛ إلّا أنَّهم لا يُكَيِّفُونَ شَيْئًًا مِن ذَلِكَ، ولا يَحُدُّونَ فِيهِ صِفَةً مَحْصُورَةً. وأمّا أهْلُ البِدَعِ الجَهْمِيَّةُ والمُعْتَزِلَةُ والخَوارِجُ فَكُلُّهم يُنْكِرُها ولا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنها عَلى الحَقِيقَةِ، ويَزْعُمُ أنَّ مَن أقَرَّ بِها شَبَّهَ. وهُمْ، عِنْدَ مَن أقَرَّ بِها، نافُونَ لِلْمَعْبُودِ. والحَقُّ فِيما قالَهُ القائِلُونَ بِما نَطَقَ بِهِ كِتابُ اللَّهِ وسُنَّةُ رَسُولِهِ، وهم أئِمَّةُ الجَماعَةِ. وقالَ القاضِي أبُو يَعْلى في كِتابِ " إبْطالِ التَّأْوِيلِ ": لا يَجُوزُ رَدُّ هَذِهِ الأخْبارِ، ولا التَّشاغُلُ بِتَأْوِيلِها؛ والواجِبُ حَمْلُها عَلى ظاهِرِها، وأنَّها صِفاتُ اللَّهِ لا تُشَبَّهُ بِسائِرِ المَوْصُوفِينَ بِها مِنَ الخَلْقِ، ولا يُعْتَقَدُ التَّشْبِيهُ فِيها. وقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ: إذا نَطَقَ الكِتابُ بِشَيْءٍ قُلْنا بِهِ، وإذا جاءَتِ الآثارُ بِشَيْءٍ جَسَرْنا عَلَيْهِ. واعْلَمْ أنَّهُ لَيْسَ في العَقْلِ الصَّحِيحِ ولا في النَّقْلِ الصَّرِيحِ ما يُوجِبُ مُخالَفَةَ الطَّرِيقَةِ السَّلَفِيَّةِ. والمُخالِفُونَ لِلْكِتابِ والسُّنَّةِ وسَلَفِ الأُمَّةِ، مِنَ المُتَأوِّلِينَ لِهَذا البابِ، في أمْرٍ مَرِيجٍ، وسُبْحانَ اللَّهِ! بِأيِّ عَقْلٍ يُوزَنُ الكِتابُ والسُّنَّةُ. ورَضِيَ اللَّهُ عَنِ الإمامِ مالِكٍ حَيْثُ قالَ: أوَكُلَّما جاءَنا رَجُلٌ أجْدَلُ مِن رَجُلٍ تَرَكْنا ما جاءَ بِهِ جِبْرِيلُ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ، لِجَدَلٍ هَذا؟ وكُلٌّ مِن هَؤُلاءِ مَخْصُومٌ بِمِثْلِ ما خُصِمَ بِهِ الآخَرُ. وهو مِن وُجُوهٍ: (p-٥٢١)أحَدُها: بَيانٌ أنَّ العَقْلَ لا يُحِيلُ ذَلِكَ. والثّانِي: أنَّ النُّصُوصَ الوارِدَةَ لا تَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ. الثّالِثُ: أنَّ عامَّةَ هَذِهِ الأُمُورِ قَدْ عَلِمَ أنَّ الرَّسُولَ جاءَ بِها بِالِاضْطِرارِ، كَما أنَّهُ جاءَ بِالصَّلَواتِ الخَمْسِ وصَوْمِ شَهْرِ رَمَضانَ. فالتَّأْوِيلُ الَّذِي يُحِيلُها عَنْ هَذا بِمَنزِلَةِ تَأْوِيلاتِ القَرامِطَةِ والباطِنِيَّةِ في الحَجِّ والصَّوْمِ والصَّلاةِ وسائِرِ ما جاءَتْ بِهِ النُّبُوّاتُ، عَلى أنَّ الأساطِينَ مِن هَؤُلاءِ الفُحُولِ مُعْتَرِفُونَ بِأنَّ العَقْلَ لا سَبِيلَ لَهُ إلى اليَقِينِ في عامَّةِ المَطالِبِ الإلَهِيَّةِ. فَإذا كانَ هَكَذا، فالواجِبُ تَلَقِّي عِلْمِ ذَلِكَ مِنَ النُّبُوّاتِ عَلى ما هو عَلَيْهِ، واللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وهو يَهْدِي السَّبِيلَ. قالَ البِقاعِيُّ: وتَجَلِّي المَلائِكَةِ في ظُلَلٍ مِنَ الغَمامِ أمْرٌ مَأْلُوفٌ. مِنهُ ما في الصَّحِيحِ عَنِ البَراءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: «كانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الكَهْفِ وإلى جانِبِهِ حِصانٌ مَرْبُوطٌ بِشَطَنَيْنِ، فَتَغَشَّتْهُ سَحابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدْنُو وتَدْنُو، وجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ، فَلَمّا أصْبَحَ أتى النَّبِيَّ ﷺ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقالَ: «تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ بِالقُرْآنِ»» !. «وعَنْ أُسَيْدِ بْنِ حُضَيْرٍ قالَ: بَيْنَما هو يَقْرَأُ مِنَ اللَّيْلِ سُورَةَ البَقَرَةِ وفَرَسُهُ مَرْبُوطٌ عِنْدَهُ إذْ جالَتِ الفَرَسُ. فَسَكَتَ فَسَكَتَتْ. فَقَرَأ فَجالَتِ الفَرَسُ، فَسَكَتَ وسَكَتَتِ الفَرَسُ، ثُمَّ قَرَأ فَجالَتِ الفَرَسُ. فانْصَرَفَ. وكانَ ابْنُهُ يَحْيى قَرِيبًا مِنها، فَأشْفَقَ أنْ تُصِيبَهُ. فَلَمّا اجْتَرَّهُ رَفَعَ رَأْسَهُ إلى السَّماءِ حَتّى ما يَراها. فَلَمّا أصْبَحَ حَدَّثَ النَّبِيَّ ﷺ. فَقالَ: «اقْرَأْ يا ابْنَ حُضَيْرٍ، اقْرَأْ يا ابْنَ حُضَيْرٍ» . قالَ: فَأشْفَقْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ أنْ تَطَأ يَحْيى وكانَ مِنها قَرِيبًا فَرَفَعْتُ رَأْسِي فانْصَرَفْتُ إلَيْهِ. فَرَفَعْتُ رَأْسِي إلى السَّماءِ فَإذا مِثْلُ الظُّلَّةِ فِيها أمْثالُ المَصابِيحِ فَخَرَجْتُ حَتّى لا أراها. (p-٥٢٢)قالَ: «وتَدْرِي ما ذاكَ؟» قالَ: لا. قالَ: «تِلْكَ المَلائِكَةُ دَنَتْ لِصَوْتِكَ، ولَوْ قَرَأْتَ لَأصْبَحَتْ يَنْظُرُ النّاسُ إلَيْها. لا تَتَوارى مِنهُمْ»» . وقالَ البِقاعِيُّ أيْضًا: لَمّا كانَ بَنُو إسْرائِيلَ أعْلَمَ النّاسِ بِظُهُورِ مَجْدِ اللَّهِ في الغَمامِ لِما رَأى أسْلافُهم مِنهُ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِن مِصْرَ وفي جَبَلِ الطُّورِ وقُبَّةِ الزَّمانِ وما في ذَلِكَ - عَلى ما نُقِلْ إلَيْهِمْ - مِن وُفُورِ الهَيْئَةِ وتَعاظُمِ الجَلالِ، قالَ تَعالى جَوابًا لِمَن كانَ قالَ: كَيْفَ يَكُونُ هَذا؟
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب