الباحث القرآني
(p-٤١١)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١٨٢] ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا فَأصْلَحَ بَيْنَهم فَلا إثْمَ عَلَيْهِ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ .
﴿فَمَن خافَ﴾ أيْ: تَوَقَّعَ وعَلِمَ، وهَذا في كَلامِهِمْ شائِعٌ، ويَقُولُونَ: أخافُ أنْ تُرْسِلَ السَّماءُ، يُرِيدُونَ: التَّوَقُّعَ والظَّنَّ الغالِبَ الجارِي مَجْرى العِلْمِ: ﴿مِن مُوصٍ جَنَفًا﴾ مَيْلًا عَنِ الحَقِّ، بِالخَطَأِ في الوَصِيَّةِ، والتَّصَرُّفِ فِيما لَيْسَ لَهُ: ﴿أوْ إثْمًا﴾ أيْ: مَيْلًا فِيها عَمْدًا: ﴿فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ أيْ: بَيْنَهُ وبَيْنَ المُوصى لَهم - وهُمُ الوالِدانِ والأقْرَبُونَ - بِإجْرائِهِمْ عَلى طَرِيقِ الشَّرْعِ.
قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: بِأنْ يَأْمُرَهُ بِالعَدْلِ في وصِيَّتِهِ، وأنْ يَنْهاهم عَنْ مَنعِهِ فِيما أُذِنَ لَهُ فِيهِ وأُبِيحَ لَهُ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ أيْ: بِهَذا التَّبْدِيلِ، لِأنَّ تَبْدِيلَهُ تَبْدِيلٌ باطِلٌ إلى حَقٍّ!: ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: غَفُورٌ لِلْمُوصِي - فِيما كانَ حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الجَنَفِ والإثْمِ إذا تَرَكَ أنْ يَأْثَمَ ويَجْنَفَ في وصِيَّتِهِ - فَتَجاوَزَ لَهُ عَمّا كانَ حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الجَوْرِ إذْ لَمْ يَمْضِ ذَلِكَ، ﴿رَحِيمٌ﴾ بِالمُصْلِحِ بَيْنَ الوَصِيِّ وبَيْنَ مَن أرادَ أنْ يَحِيفَ عَلَيْهِ لِغَيْرِهِ أوْ يَأْثَمَ فِيهِ لَهُ..!.
تَنْبِيهٌ:
ما أفادَتْهُ الآيَةُ مِن فَرْضِيَّةِ الوَصِيَّةِ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ.
ذَكَرَ بَعْضُهُمْ: أنَّهُ كانَ واجِبًا قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ المَوارِيثِ. فَلَمّا نَزَلَتْ آيَةُ الفَرائِضِ نَسَخَتْ هَذِهِ، وصارَتِ المَوارِيثُ المُقَدَّرَةُ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ، يَأْخُذُهُ أهْلُوها حَتْمًا مِن غَيْرِ وصِيَّةٍ، ولا تَحْمِلُ مِنَّةَ المُوصِي. ولِهَذا جاءَ في الحَدِيثِ - الَّذِي في السُّنَنِ وغَيْرِها - عَنْ عَمْرِو بْنِ خارِجَةَ قالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَخْطُبُ وهو يَقُولُ: «إنَّ اللَّهَ قَدْ أعْطى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلا وصِيَّةَ لِوارِثٍ»» .
(p-٤١٢)ونَصَّ الإمامُ الشّافِعِيُّ عَلى أنَّ هَذا المَتْنَ مُتَواتِرٌ، فَقالَ: وجَدْنا أهْلَ الفُتْيا ومَن حَفِظْنا عَنْهم مِن أهْلِ العِلْمِ بِالمَغازِي مِن قُرَيْشٍ وغَيْرِهِمْ لا يَخْتَلِفُونَ في أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ عامَ الفَتْحِ: ««لا وصِيَّةَ لِوارِثٍ»» . ويَأْثِرُونَهُ عَمَّنْ حَفِظُوهُ عَنْهُ مِمَّنْ لَقُوهُ مِن أهْلِ العِلْمِ، فَكانَ نَقْلَ كافَّةٍ عَنْ كافَّةٍ. فَهو أقْوى مِن نَقْلِ واحِدٍ.
قالَ الإمامُ مالِكٌ في " المُوَطَّأِ ": السُّنَّةُ الثّابِتَةُ عِنْدَنا الَّتِي لا اخْتِلافَ فِيها: أنَّهُ لا تَجُوزُ وصِيَّةٌ لِوارِثٍ إلّا أنْ يُجِيزَ لَهُ ذَلِكَ ورَثَةُ المَيِّتِ.
وذَهَبَتْ طائِفَةٌ إلى أنَّ الآيَةَ مُحْكَمَةٌ لا تُخالِفُ آيَةَ المَوارِيثِ. والمَعْنى: كَتَبَ عَلَيْكم ما أوْصاكم بِهِ مِن تَوْرِيثِ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١] أوْ كُتِبَ عَلى المُحْتَضَرِ: أنْ يُوصِيَ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ بِتَوْفِيرِ ما أوْصى بِهِ اللَّهُ لَهم عَلَيْهِمْ، وأنْ لا يُنْقِصَ مِن أنْصِبائِهِمْ! فَلا مُنافاةَ بَيْنَ ثُبُوتِ المِيراثِ لِلْأقْرِباءِ، مَعَ ثُبُوتِ الوَصِيَّةِ بِالمِيراثِ عَطِيَّةً مِنَ اللَّهِ تَعالى، والوَصِيَّةُ عَطِيَّةٌ مِمَّنْ حَضَرَهُ المَوْتُ. فالوارِثُ جُمِعَ لَهُ بَيْنَ الوَصِيَّةِ والمِيراثِ بِحُكْمِ الآيَتَيْنِ. ولَوْ فُرِضَ المُنافاةُ، لَأمْكَنَ جَعْلُ آيَةِ المِيراثِ مُخَصَّصَةً لِهَذِهِ الآيَةِ. بِإبْقاءِ القَرِيبِ الَّذِي لا يَكُونُ وارِثًا لِأجْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ. فَقَدْ أكَّدَ تَعالى الإحْسانَ إلى الأرْحامِ وذَوِي القُرْبى في غَيْرِ ما آيَةٍ، فَتَكُونُ الوَصِيَّةُ لِلْأقارِبِ الَّذِينَ لا يَرِثُونَ عَصَبَةً، أوْ ذَوِي رَحِمٍ مَفْرُوضَةٍ..! قالُوا: ونَسْخُ وُجُوبِها لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ الوارِثِينَ لا يَسْتَلْزِمُ نَسْخَ وُجُوبِها في غَيْرِهِمْ..!.
ومِمّا اسْتُدِلَّ بِهِ عَلى وُجُوبِ الوَصِيَّةِ مِنَ السُّنَّةِ: خَبْرُ الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قالَ: (p-٤١٣)قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««ما حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلّا ووَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ»» . قالَ ابْنُ عُمَرَ: ما مَرَّتْ عَلَيَّ لَيْلَةٌ مُنْذُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ ذَلِكَ إلّا وعِنْدِي وصِيَّتِي..!. والآياتُ والأحادِيثُ - بِالأمْرِ بِبِرِّ الأقارِبِ والإحْسانِ إلَيْهِمْ - كَثِيرَةٌ جِدًّا..
ظَهَرَ لِي في آيَةِ: ﴿كُتِبَ عَلَيْكم إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ إنْ تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ بِالمَعْرُوفِ حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠] إلخ - وكانَ دَرْسُنا صَباحًا مِنَ البُخارِيِّ في كِتابِ " الوَصايا " - أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَيْسَتْ مَنسُوخَةً - كَما قِيلَ - بَلْ هي مُحْكَمَةٌ بِطَرِيقَةٍ لا أدْرِي هَلْ أحَدٌ سَبَقَنِي بِها أمْ لا؟ فَإنِّي في تَفْسِيرِي المُسَمّى بِمَحاسِنِ التَّأْوِيلِ نَقَلْتُ هُناكَ مَذاهِبَ العُلَماءِ، ولا يَحْضُرُنِي الآنَ أنَّ ما سَأذْكُرُهُ مَأْثُورٌ أمْ لا؟ وهو أنَّ هَذِهِ الآيَةَ مَعَ آيَةِ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١] مُتَلاقِيَتانِ في المَعْنى، مِن حَيْثُ إنَّ المُرادَ بِالوَصِيَّةِ: وصِيَّةُ اللَّهِ في إيتاءِ ذَوِي الحُقُوقِ حُقُوقَهُمْ، وعَدَمُ الغَضِّ مِنها، والحَذَرُ مِن تَبْدِيلِها، لِما يَلْحَقُ المُبَدِّلَ مِنَ الوَعِيدِ الشَّدِيدِ..! وخُلاصَةُ المَعْنى عَلى ما ظَهَرَ:
﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ١٨٠] أيْ: فُرِضَ عَلَيْكم فَرْضًا مُؤَكَّدًا بِمَثابَةِ المَكْتُوبِ الَّذِي لا يُمْحى ولا يَعْتَوِرُهُ تَغْيِيرٌ: ﴿إذا حَضَرَ أحَدَكُمُ المَوْتُ﴾ [البقرة: ١٨٠] أيْ: قُرْبَ نُزُولِهِ بِهِ، بِأنْ قَرُبَ مُفارَقَتُهُ الحَياةَ: ﴿إنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: ١٨٠] أيْ: مالًا يُورَثُ: الوَصِيَّةُ أيِ: المَعْهُودَةُ، وهي وصِيَّةُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى في إيتاءِ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، عَلى ما بَيَّنَتْهُ تِلْكَ الآيَةُ: ﴿لِلْوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠] أيْ: في إبْلاغِهِمْ فَرْضَهُمُ المُبَيَّنَ في آيَةِ: ﴿يُوصِيكُمُ اللَّهُ في أوْلادِكُمْ﴾ [النساء: ١١] فَإنَّهُ أجْمَعَ آيَةَ: ﴿حَقًّا عَلى المُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ١٨٠] تَأْكِيدٌ لِلْكِتابَةِ بِأنَّها أمْرٌ ثابِتٌ لا يَسُوغُ التَّسامُحُ فِيهِ بِوَجْهٍ ما: ﴿فَمَن بَدَّلَهُ﴾ [البقرة: ١٨١] (p-٤١٤)أيْ: هَذا المَكْتُوبَ الحَقَّ: ﴿بَعْدَما سَمِعَهُ﴾ [البقرة: ١٨١] أيْ: فَعَلِمَ الحَقَّ المَفْرُوضَ فِيهِ: ﴿فَإنَّما إثْمُهُ عَلى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ١٨١] أيْ: فَلا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِن حالِ المُمْتَثِلِ والمُبَدِّلِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا﴾ أيْ: مَيْلًا عَمّا فَرَضَهُ تَعالى: ﴿أوْ إثْمًا﴾ أيْ: بِقَطْعِ مَن يَسْتَحِقُّ عَنْ حَقِّهِ، لِما لا تَخْلُو عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الأنْفُسِ الَّتِي لَمْ يُدْرِكْها نُورُ التَّهْذِيبِ: ﴿فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ أيْ: بِأمْرٍ رَضِيَ بِهِ الكُلُّ: ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ أيْ: لِأنَّ الصُّلْحَ جائِزٌ، إلّا صُلْحًا أحَلَّ حَرامًا أوْ حَرَّمَ حَلالًا، واللَّهُ أعْلَمُ.اهـ المَنقُولُ مِنَ الدَّفْتَرِ.
{"ayah":"فَمَنۡ خَافَ مِن مُّوصࣲ جَنَفًا أَوۡ إِثۡمࣰا فَأَصۡلَحَ بَیۡنَهُمۡ فَلَاۤ إِثۡمَ عَلَیۡهِۚ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











