الباحث القرآني
القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى:
[١٣٠ ] ﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيا وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾
﴿ومَن يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ إلا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ هَذا إنْكارٌ واسْتِبْعادٌ لِأنْ يَكُونَ في العُقَلاءِ مَن يَرْغَبُ عَنِ الحَقِّ الواضِحِ الَّذِي هو مِلَّةُ إبْراهِيمَ، وهو ما جاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ (p-٢٦١)ﷺ، وفي ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِمُعانِدِي أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكِينَ، أيْ لا يَرْغَبُ عَنْ مِلَّتِهِ الواضِحَةِ الغَرّاءِ إلّا مَن سَفِهَ نَفْسَهُ، أيْ: حَمَلَها عَلى السَّفَهِ وهو الجَهْلُ.
قالَ الرّاغِبُ: وسَفِهَ نَفْسَهُ أبْلَغُ مِن جَهِلَها، وذاكَ أنَّ الجَهْلَ ضَرْبانِ: جَهْلٌ بَسِيطٌ، وهو أنْ لا يَكُونَ لِلْإنْسانِ اعْتِقادٌ في الشَّيْءِ. وجَهْلٌ مُرَكَّبٌ وهو أنْ يَعْتَقِدَ في الحَقِّ أنَّهُ باطِلٌ، وفي الباطِلِ أنَّهُ حَقٌّ. والسَّفَهُ أنْ يَعْتَقِدَ ذَلِكَ ويَتَحَرّى بِالفِعْلِ مُقْتَضى ما اعْتَقَدَهُ. فَبَيَّنَ تَعالى أنَّ مَن رَغِبَ عَنْ مِلَّةِ إبْراهِيمَ، فَإنَّ ذَلِكَ لِسَفَهِ نَفْسِهِ، وذَلِكَ أعْظَمُ مَذَمَّةً، فَهو مَبْدَأُ كُلِّ نَقِيضَةٍ، وذاكَ أنَّ مَن جَهِلَ نَفْسَهُ، جَهِلَ أنَّهُ مَصْنُوعٌ، وإذا جَهِلَ كَوْنَهُ مَصْنُوعًا جَهِلَ صانِعَهُ، وإذا لَمْ يُعْلَمْ أنَّ لَهُ صانِعًا، فَكَيْفَ يَعْرِفُ أمْرَهُ ونَهْيَهُ، وما حَسَّنَهُ وقَبَّحَهُ ؟ ولِكَوْنِ مَعْرِفَتِها ذَرِيعَةً إلى مَعْرِفَةِ الخالِقِ جَلَّ ثَناؤُهُ، قالَ: ﴿وفِي أنْفُسِكم أفَلا تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات: ٢١] وقالَ: ﴿ولا تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأنْساهم أنْفُسَهُمْ﴾ [الحشر: ١٩]
وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدِ اصْطَفَيْناهُ في الدُّنْيا﴾ أيِ اخْتَرْناهُ مِن بَيْنِ سائِرِ الخَلْقِ بِالرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ والإمامَةِ، وتَكْثِيرِ الأنْبِياءِ مِن نَسْلِهِ، وإعْطاءِ الخُلَّةِ، وإظْهارِ المَناسِكِ عَلَيْهِ، وجَعْلِ بَيْتِهِ آمِنًا، ذا آياتٍ بَيِّناتٍ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ﴿وإنَّهُ في الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ﴾ الَّذِينَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ العُلى، وفي هَذا أكْبَرُ تَفْخِيمٍ لِرُتْبَةِ الصَّلاحِ، حَيْثُ جَعَلَهُ مِنَ المُتَّصِفِينَ بِها، فَهو حَقِيقٌ بِالإمامَةِ، لِعُلُوِّ رُتْبَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى في الدّارَيْنِ، فَفي ذَلِكَ أعْظَمُ تَرْغِيبٍ قِي اتِّباعِ دِينِهِ، والِاهْتِداءِ بِهَدْيِهِ. وأشَدُّ ذَمٍّ لِمَن خالَفَهُ.
قالَ الرّاغِبُ: إنْ قِيلَ كَيْفَ وصَفَهُ بِالِاصْطِفاءِ في الدُّنْيا، وبِالصَّلاحِ في الآخِرَةِ، والنَّظَرِ يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ. فَإنَّ الصَّلاحَ وصْفٌ يَرْجِعُ إلى الفِعْلِ، وذَلِكَ يَكُونُ في الدُّنْيا، والِاصْطِفاءُ (p-٢٦٢)حالٌ يَسْتَحِقُّهُ العَبْدُ بِكَوْنِهِ صالِحًا، فَحَقُّهُ أنْ يَكُونَ في الآخِرَةِ ؟
قِيلَ: الِاصْطِفاءُ ضَرْبانِ، أحَدُهُما كَما قُلْتُ، والآخَرُ في الدُّنْيا، وهو اخْتِصاصُ اللَّهِ بَعْضَ العَبِيدِ بِوِلايَتِهِ ونُبُوَّتِهِ بِخُصُوصِيَّةٍ فِيهِ، وهو المَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ: ﴿شاكِرًا لأنْعُمِهِ اجْتَباهُ﴾ [النحل: ١٢١] والصَّلاحُ وإنِ اعْتُبِرَ بِأحْوالِ الدُّنْيا، فَمُجازًى بِهِ في الآخِرَةِ، فَبَيَّنَ تَعالى أنَّهُ مُجْتَبًى في الدُّنْيا لِما عَلِمَ اللَّهُ مِن حِكْمَتِهِ فِيهِ، ومَحْكُومٌ لَهُ في الآخِرَةِ، بِصَلاحِهِ في الدُّنْيا، تَنْبِيهًا أنَّ الثَّوابَ في الآخِرَةِ لَمْ يَسْتَحِقَّهُ بِاصْطِفائِهِ في الدُّنْيا، وإنَّما اسْتَحَقَّهُ بِصَلاحِهِ فِيها. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ "فِي الآخِرَةِ" أيْ في أفْعالِ الآخِرَةِ لَمِنَ الصّالِحِينَ. ويَجُوزُ أنَّهُ عَنى بِقَوْلِهِ "فِي الدُّنْيا" حالَ بَقائِهِ، و"فِي الآخِرَةِ" أيْ حالَ وفاتِهِ، ويَكُونُ الإشارَةُ بِصَلاحِهِ إلى الثَّناءِ الحَسَنِ عَلَيْهِ، الَّذِي رَغِبَ إلى اللَّهِ تَعالى فِيهِ بِقَوْلِهِ: ﴿واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ﴾ [الشعراء: ٨٤] ويَجُوزُ أنَّهُ لَمّا كانَ النّاسُ ثَلاثَةَ أضْرُبٍ: ظالِمٍ، ومُقْتَصِدٍ، وسابِقٍ، عَبَّرَ عَنِ السّابِقِ بِالصّالِحِ، فَكُلُّ سابِقٍ إلى طاعَةِ اللَّهِ ورَحْمَتِهِ صالِحٌ. انْتَهى.
وكُلُّ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ لِأهْلِ الكِتابِ بِما عِنْدَهم مِنَ العِلْمِ بِأمْرِ هَذا النَّبِيِّ الكَرِيمِ، وإقامَةٌ لِلْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ، لِأنَّ أكْثَرَ ذَلِكَ مَعْطُوفٌ عَلى "اذْكُرُوا" في قَوْلِهِ: ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ﴾ [البقرة: ١٢٢]
(p-٢٦٣)ولَمّا ذَكَرَ إمامَتَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ، ذَكَرَ ما يُؤْتَمُّ بِهِ فِيهِ، وهو سَبَبُ اصْطِفائِهِ وصَلاحِهِ، وذَلِكَ دِينُهُ، وما أوْصى بِهِ بَنِيهِ، وما أوْصى بِهِ بَنُوهُ بَنِيهِمْ سَلَفًا عَنْ خَلَفٍ، ولا سِيَّما يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلامُ المُنَوَّهُ بِنِسْبَةِ أهْلِ الكِتابِ إلَيْهِ فَقالَ:
{"ayah":"وَمَن یَرۡغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبۡرَ ٰهِـۧمَ إِلَّا مَن سَفِهَ نَفۡسَهُۥۚ وَلَقَدِ ٱصۡطَفَیۡنَـٰهُ فِی ٱلدُّنۡیَاۖ وَإِنَّهُۥ فِی ٱلۡـَٔاخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّـٰلِحِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











