الباحث القرآني

(p-٢٣٢)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١١٦ ] ﴿وقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ ﴿وقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ يُرِيدُ الَّذِينَ قالُوا: المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وعُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، والمَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ، فَأكْذَبَ اللَّهُ تَعالى جَمِيعَهم في دَعْواهم وقَوْلِهِمْ: إنَّ لِلَّهِ ولَدًا. فَقالَ "سُبْحانَهُ" أيْ تَقَدَّسَ وتَنَزَّهَ عَمّا زَعَمُوا تَنَزُّهًا بَلِيغًا. وكَلِمَةُ "بَلْ" لِلْإضْرابِ عَمّا تَقْتَضِيهِ مَقالَتُهُمُ الباطِلَةُ مِن مُجانَسَتِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى لِشَيْءٍ مِنَ المَخْلُوقاتِ. أيْ لَيْسَ الأمْرُ كَما زَعَمُوا، بَلْ هو خالِقُ جَمِيعِ المَوْجُوداتِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها عُزَيْرٌ والمَسِيحُ والمَلائِكَةُ، والتَّنْوِينُ في "كُلٌّ" عِوَضٌ عَنِ المُضافِ إلَيْهِ. أيْ كُلُّ ما فِيهِما، كائِنًا ما كانَ مِن أُولِي العِلْمِ وغَيْرِهِمْ "لَهُ قانِتُونَ" مُنْقادُونَ، لا يَسْتَعْصِي شَيْءٌ مِنهم عَلى تَكْوِينِهِ وتَقْدِيرِهِ ومَشِيئَتِهِ، ومَن كانَ هَذا شَأْنُهُ لَمْ يُتَصَوَّرْ مُجانَسَتُهُ لِشَيْءٍ، ومِن حَقِّ الوَلَدِ أنْ يَكُونَ مِن جِنْسِ الوالِدِ. قالَ الرّاغِبُ في تَفْسِيرِهِ: نَبَّهَ عَلى أقْوى حُجَّةٍ عَلى نَفْيِ ذَلِكَ. وبَيانُها: هو أنَّ لِكُلِّ مَوْجُودٍ في العالَمِ، مَخْلُوقًا طَبِيعِيًّا، أوْ مَعْمُولًا صِناعِيًّا، غَرَضًا وكَمالًا أُوجِدَ لِأجْلِهِ. وإنْ كانَ قَدْ يَصْلُحُ لِغَيْرِهِ عَلى سَبِيلِ العَرْضِ، كاليَدِ لِلْبَطْشِ، والرِّجْلِ لِلْمَشْيِ، والسِّكِّينِ لِقَطْعٍ مَخْصُوصٍ، والمِنشارِ لِلنَّشْرِ، وإنْ كانَتِ اليَدُ قَدْ تَصْلُحُ لِلْمَشْيِ في حالٍ، والرِّجْلُ لِلتَّناوُلِ، لَكِنْ لَيْسَ عَلى التَّمامِ. والغَرَضُ في الوَلَدِ لِلْإنْسانِ إنَّما هو لِأنْ يَبْقى بِهِ نَوْعُهُ، وجُزْءٌ مِنهُ، لَمّا لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ سَبِيلًا إلى بَقائِهِ بِشَخْصِهِ، فَجَعَلَ لَهُ بَذْرًا لِحِفْظِ نَوْعِهِ. ويُقَوِّي ذَلِكَ، أنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ لِلشَّمْسِ والقَمَرِ وسائِرِ الأجْرامِ السَّماوِيَّةِ بَذْرًا واسْتِخْلافًا، لَمّا لَمْ يَجْعَلْ لَها فَناءَ النَّباتِ والحَيَوانِ. ولِما كانَ اللَّهُ تَعالى هو الباقِيَ الدّائِمَ، بِلا ابْتِداءٍ ولا انْتِهاءٍ، لَمْ يَكُنْ لِاتِّخاذِهِ الوَلَدَ لِنَفْسِهِ مَعْنًى، ولِهَذا قالَ: ﴿سُبْحانَهُ أنْ يَكُونَ لَهُ ولَدٌ﴾ [النساء: ١٧١] أيْ هو مُنَزَّهٌ عَنِ السَّبَبِ المُقْتَضِي لِلْوَلَدِ. (p-٢٣٣)ثُمَّ لَمّا كانَ اقْتِناءُ الوَلَدِ لِفَقْرٍ ما، وذَلِكَ لِما تَقَدَّمَ، أنَّ الإنْسانَ افْتَقَرَ إلى نَسْلٍ يَخْلُفُهُ لِكَوْنِهِ غَيْرَ كامِلٍ إلى نَفْسِهِ - بَيَّنَ تَعالى بِقَوْلِهِ: ﴿لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ أنَّهُ لا يُتَوَهَّمُ لَهُ فَقَرٌ، فَيَحْتاجُ إلى اتِّخاذِ ما هو سَدٌّ لِفَقْرِهِ، فَصارَ في قَوْلِهِ "لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ" دَلالَةٌ ثانِيَةٌ، ثُمَّ زادَ حُجَّةً بِقَوْلِهِ "قانِتُونَ" وهو أنَّهُ لَمّا كانَ الوَلَدُ يُعْتَقَدُ فِيهِ خِدْمَةُ الأبِ، ومُظاهَرَتُهُ كَما قالَ: ﴿وجَعَلَ لَكم مِن أزْواجِكم بَنِينَ وحَفَدَةً﴾ [النحل: ٧٢] بَيَّنَ أنَّ كُلَّ ما في السَّماواتِ والأرْضِ، مَعَ كَوْنِهِ مُلْكًا لَهُ، قانِتٌ أيْضًا، إمّا طائِعًا، وإمّا كارِهًا، وإمّا مُسَخَّرًا. كَقَوْلِهِ: ﴿ولِلَّهِ يَسْجُدُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ طَوْعًا وكَرْهًا﴾ [الرعد: ١٥] وقَوْلِهِ: ﴿وإنْ مِن شَيْءٍ إلا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ [الإسراء: ٤٤] وهَذا أبْلَغُ حُجَّةً لِمَن هو عَلى المَحَجَّةِ. ثُمَّ قالَ الرّاغِبُ: إنْ قِيلَ مِن أيْنَ وقَعَ لَهُمُ الشُّبْهَةُ في نِسْبَةِ الوَلَدِ إلى اللَّهِ تَعالى ؟ قِيلَ قَدْ ذُكِرَ في الشَّرائِعِ المُتَقَدِّمَةِ: كانُوا يُطْلِقُونَ عَلى البارِئِ تَعالى اسْمَ الأبِ وعَلى الكَبِيرِ مِنهُمُ اسْمَ الإلَهِ، حَتّى إنَّهم قالُوا: إنَّ الأبَ هو الرَّبُّ الأصْغَرُ وإنَّ اللَّهَ هو الأبُ الأكْبَرُ، وكانُوا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أنَّهُ تَعالى هو السَّبَبُ الأوَّلُ في وُجُودِ الإنْسانِ، وإنَّ الأبَ هو السَّبَبُ الأخِيرُ في وُجُودِهِ وإنَّ الأبَ هو مَعْبُودُ الِابْنِ مِن وجْهٍ أيْ مَخْدُومُهُ. وكانُوا يَقُولُونَ لِلْمَلائِكَةِ: آلِهَةٌ. كَما (p-٢٣٤)قالَتِ العَرَبُ لِلشَّمْسِ: إلاهَةٌ، وكانُوا يَقْصِدُونَ مَعْنًى صَحِيحًا كَما يَقْصِدُ عُلَماؤُنا بِقَوْلِهِمُ: اللَّهُ مُحِبٌّ ومَحْبُوبٌ، ومُرِيدٌ ومُرادٌ ونَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الألْفاظِ. كَما يُقالُ لِلسُّلْطانِ: المَلِكُ، وقَوْلُ النّاسِ: رَبُّ الأرْبابِ وإلَهُ الآلِهَةِ ومَلِكُ المُلُوكِ، مِمّا يَكْشِفُ عَنْ تَقَدُّمِ ذَلِكَ التَّعارُفِ، ويُقَوِّي ذَلِكَ ما يُرْوى أنَّ يَعْقُوبَ كانَ يُقالُ لَهُ بِكْرُ اللَّهِ، وأنَّ عِيسى كانَ يَقُولُ: أنا ذاهِبٌ إلى أبِي. ونَحْوَ ذَلِكَ مِنَ الألْفاظِ، ثُمَّ تَصَوَّرَ الجَهَلَةُ مِنهم، بِأُخَرَةٍ، مَعْنى الوِلادَةِ الطَّبِيعِيَّةِ. فَصارَ ذَلِكَ مَنهِيًّا عَنِ التَّفَوُّهِ بِهِ في شَرْعِنا، تَنَزُّهًا عَنْ هَذا الِاعْتِقادِ، حَتّى صارَ إطْلاقُهُ، وإنْ قَصَدَ بِهِ ما قَصَدَهُ هَؤُلاءِ، قَرِينُ الكُفْرِ، اهـ كَلامُ الرّاغِبِ رَحِمَهُ اللَّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب