الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٣٨] ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لَكِنِ الظّالِمُونَ اليَوْمَ في ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ . ﴿أسْمِعْ بِهِمْ وأبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا﴾ تَعَجُّبٌ مِن حِدَّةِ سَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ يَوْمَئِذٍ. ومَعْناهُ أنَّ أسْماعَهم وأبْصارَهم يَوْمَ يَأْتُونَنا لِلْحِسابِ والجَزاءِ جَدِيرٌ بِأنْ يُتَعَجَّبَ مِنهُما بَعْدَ أنْ كانُوا في الدُّنْيا صُمًّا عُمْيًا. والآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَوْ تَرى إذِ المُجْرِمُونَ ناكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أبْصَرْنا وسَمِعْنا﴾ [السجدة: ١٢] الآيَةَ، أيْ: يَقُولُونَ ذَلِكَ حِينَ لا يُجْدِي عَنْهم شَيْئًا. ولَوْ كانَ هَذا قَبْلَ مُعايَنَةِ العَذابِ لَأجْدى: ﴿لَكِنِ الظّالِمُونَ اليَوْمَ﴾ أيْ: في الدُّنْيا: ﴿فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ (p-٤١٤٣)لِإغْفالِهِمْ الِاسْتِماعَ والنَّظَرَ. فَحَيْثُ يَطْلُبُ مِنهُمُ الهُدى لا يَهْتَدُونَ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أوْقَعَ الظّاهِرَ أعْنِي (الظّالِمِينَ) مَوْقِعَ الضَّمِيرِ، إشْعارًا بِأنْ لا ظُلْمَ أشَدَّ مِن ظُلْمِهِمْ، حَيْثُ أغْفَلُوا الِاسْتِماعَ والنَّظَرَ، حِينَ يُجْدِي عَلَيْهِمْ ويُسْعِدُهم. تَنْبِيهٌ: إنَّما أُوِّلَ التَّعَجُّبُ في الآيَةِ بِما ذُكِرَ، وأنَّهُ مَصْرُوفٌ لِلْعِبادِ الَّذِينَ يَصْدُرُ مِنهُمُ التَّعَجُّبُ، لِأنَّ صُدُورَهُ مِنَ اللَّهِ تَعالى مُحالٌ. إذْ هو كَيْفِيَّةٌ نَفْسانِيَّةٌ تَنْشَأُ عَنِ اسْتِعْظامِ ما لا يُدْرى سَبَبُهُ. ولِذا قِيلَ: إذا ظَهَرَ السَّبَبُ بَطَلَ العَجَبُ. والمَعْنى تَعَجَّبُوا مِن سَمْعِهِمْ وأبْصارِهِمْ حَيْثُ لا يَنْفَعُهم ذَلِكَ. فَهي كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ اليَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: ٢٢] أفادَهُ الشِّهابُ. وهَذِهِ طَرِيقَةُ المُتَكَلِّمِينَ في تَأْوِيلِ ما يَشْتَرِكُ في الإضافَةِ إلَيْهِ تَعالى وإلى خَلْقِهِ مِنَ الصِّفاتِ المَرْوِيَّةِ. وطَرِيقَةُ السَّلَفِ المُحَقِّقِينَ إثْباتُ ما ورَدَ بِهِ السَّمْعُ مَعَ نَفْيِ التَّشْبِيهِ. إذْ لا اتِّحادَ بَيْنَ صِفاتِ الخالِقِ وصِفاتِ المَخْلُوقِ. فَما يُضافُ إلَيْهِ تَعالى هو عَلى النَّحْوِ الَّذِي يَجِبُ أنْ يَكُونَ عَلَيْهِ جَلَّ جَلالُهُ. فَما يُقَدَّرُ في حَقِّ المَخْلُوقِينَ مِنَ الصِّفاتِ مُسْتَلْزِمًا لِلْمُحالِ، لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ في حَقِّهِ تَعالى مُسْتَلْزِمًا لِذَلِكَ. كَما أنَّ العِلْمَ والقُدْرَةَ والسَّمْعَ والبَصَرَ والكَلامَ فِينا، يَسْتَلْزِمُ النَّقْصَ والحاجَةَ، ما يَجِبُ تَنْزِيهُ اللَّهِ عَنْهُ. وكَذَلِكَ الوُجُودُ والقِيامُ بِالنَّفْسِ فِينا، يَسْتَلْزِمُ احْتِياجًا إلى خالِقٍ يَجْعَلُنا مَوْجُودِينَ. واللَّهُ مُنَزَّهٌ في وُجُودِهِ عَمّا يَحْتاجُ إلَيْهِ وُجُودُنا. فَنَحْنُ وصِفاتُنا وأفْعالُنا. مَقْرُونُونَ بِالحاجَةِ إلى الغَيْرِ. والحاجَةُ لَنا أمْرٌ ذاتِيٌّ لا يُمْكِنُ أنْ يَخْلُوَ عَنْهُ. وهو سُبْحانُهُ، الغَنِيُّ لَهُ أمْرٌ ذاتِيٌّ لا يُمْكِنُ أنْ يَخْلُوَ عَنْهُ. فَهو بِنَفْسِهِ حَيٌّ قَيُّومٌ واجِبُ الوُجُودِ، ونَحْنُ بِأنْفُسِنا مُحْتاجُونَ فُقَراءُ. فَإذا كانَتْ ذاتُنا وصِفاتُنا وأفْعالُنا وما اتَّصَفْنا بِهِ مِنَ الكَمالِ، مِنَ العِلْمِ والقُدْرَةِ وغَيْرِ ذَلِكَ، هو مَقْرُونٌ بِالحاجَةِ والحُدُوثِ والإمْكانِ، لَمْ يَجِبْ أنْ لا يَكُونَ لِلَّهِ ذاتٌ (p-٤١٤٤)ولا صِفاتٌ ولا أفْعالٌ، وأنْ لا يَقْدِرَ ولا يَعْلَمَ. لِكَوْنِ ذَلِكَ مُلازِمًا لِلْحاجَةِ فِينا. فَكَذَلِكَ كُلُّ ما جاءَ بِهِ السَّمْعُ مِنَ الصِّفاتِ، إذا قُدِّرَ أنَّهُ في حَقِّنا مُلازِمٌ لِحاجَةٍ وضَعْفٍ، لَمْ يَجِبْ أنْ يَكُونَ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى مُلازِمًا لِذَلِكَ. هَذا ما قَرَّرَهُ الإمامُ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَةَ في خِلالِ بَعْضِ فَتاوِيهِ. وكَلامُهُ هَذا بِمَثابَةِ القاعِدَةِ الكُلِّيَّةِ لِأمْثالِ هَذا المَوْضُوعِ. فاحْفَظْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب