الباحث القرآني

(p-٤٠٨٤)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٨٢] ﴿وأمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُما وكانَ أبُوهُما صالِحًا فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما ويَسْتَخْرِجا كَنْـزَهُما رَحْمَةً مِن رَبِّكَ وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ . ﴿وأمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ وكانَ تَحْتَهُ كَنْـزٌ لَهُما وكانَ أبُوهُما صالِحًا فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما﴾ أيْ: قُوَّتَهُما بِالعَقْلِ وكَمالِ الرَّأْيِ: ﴿ويَسْتَخْرِجا كَنْـزَهُما﴾ لِيَتَصَرَّفا فِيهِ: ﴿رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ أيْ: تَفَضَّلَ بِها عَلَيْهِما. و(رَحْمَةً) مَفْعُولٌ لَهُ. أوْ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِــ(أرادَ) فَإنَّ إرادَةَ الخَيْرِ رَحْمَةٌ: ﴿وما فَعَلْتُهُ﴾ أيْ ما رَأيْتَ مِنِّي: ﴿عَنْ أمْرِي﴾ أيْ: عَنِ اجْتِهادِي ورَأْيِي، وإنَّما فَعَلْتُهُ بِأمْرِ اللَّهِ تَعالى: ﴿ذَلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ أيْ: مِنَ الأُمُورِ الَّتِي رَأيْتَها. أيْ: مَآلُهُ وعاقِبَتُهُ. قالَ أبُو السُّعُودِ: (ذَلِكَ) إشارَةٌ إلى العَواقِبِ المَنظُومَةِ في سِلْكِ البَيانِ. وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلْإيذانِ بِبُعْدِ دَرَجَتِها في الفَخامَةِ. و: تَسْطِعْ مُخَفَّفُ (تَسْتَطِعْ) بِحَذْفِ التّاءِ. تَنْبِيهاتٌ: فِي بَعْضِ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ هَذا النَّبَأُ مِنَ الأحْكامِ واللَّطائِفِ والفَوائِدِ السّامِياتِ: الأوَّلُ: قالَ السُّيُوطِيُّ في (الإكْلِيلِ): في هَذِهِ الآياتِ أنَّهُ لا بَأْسَ بِالِاسْتِخْدامِ واتِّخاذِ الرَّفِيقِ والخادِمِ في السَّفَرِ. واسْتِحْبابِ الرِّحْلَةِ في طَلَبِ العِلْمِ. واسْتِزادَةِ العالِمِ مِنَ العِلْمِ واتِّخاذِ الزّادِ لِلسَّفَرِ، وأنَّهُ لا يُنافِي التَّوَكُّلَ. ونِسْبَةِ النِّسْيانِ، ونَحْوِهِ مِنَ الأُمُورِ المَكْرُوهَةِ، إلى الشَّيْطانِ، مَجازًا وتَأدُّبًا عَنْ نِسْبَتِهِما إلى اللَّهِ تَعالى. وتَواضُعِ المُتَعَلِّمِ لِمَن يَتَعَلَّمُ مِنهُ ولَوْ كانَ دُونَهُ في المَرْتَبَةِ. واعْتِذارِ العالِمِ إلى مَن يُرِيدُ الأخْذَ عَنْهُ في عَدَمِ تَعْلِيمِهِ مِمّا لا يَحْتَمِلُهُ طَبْعُهُ. وتَقْدِيمِ المَشِيئَةِ في الأمْرِ، واشْتِراطِ المَتْبُوعِ عَلى التّابِعِ. وأنَّهُ يَلْزَمُ الوَفاءُ بِالشُّرُوطِ. وأنَّ النِّسْيانَ غَيْرُ مُؤاخَذٍ بِهِ. (p-٤٠٨٥)وأنَّ (لِلثَّلاثِ) اعْتِبارًا في التَّكْرارِ ونَحْوِهِ. وأنَّهُ لا بَأْسَ بِطَلَبِ الغَرِيبِ الطَّعامَ والضِّيافَةَ. وأنَّ صُنْعَ الجَمِيلِ لا يُتْرَكُ ولَوْ مَعَ اللِّئامِ. وجَوازُ أخْذِ الأجْرِ عَلى الأعْمالِ. وأنَّ المِسْكِينَ لا يَخْرُجُ عَنِ المَسْكَنَةِ بِكَوْنِهِ لَهُ سَفِينَةٌ أوْ آلَةٌ يَكْتَسِبُ بِها، أوْ شَيْءٌ لا يَكْفِيهِ. وأنَّ الغَصْبَ حَرامٌ. وأنَّهُ يَجُوزُ إتْلافُ بَعْضِ مالِ الغَيْرِ، أوْ تَعْيِيبُهُ، لِوِقايَةِ باقِيهِ، كَمالِ المُودِعِ واليَتِيمِ. وإذا تَعارَضَ مَفْسَدَتانِ ارْتُكِبَ الأخَفُّ. وأنَّ الوَلَدَ يُحْفَظُ بِصَلاحِ أبِيهِ. وأنَّهُ تَجِبُ عِمارَةُ ما يَخافُ مِنهُ، ويَحْرُمُ إهْمالُها إلى أنْ تَخْرَبَ. وأنَّهُ يَجُوزُ دَفْنُ المالِ في الأرْضِ. انْتَهى. وقالَ البَيْضاوِيُّ: ومِن فَوائِدِ هَذِهِ القِصَّةِ أنْ لا يُعْجَبَ المَرْءُ بِعِلْمِهِ. ولا يُبادِرَ إنْكارَ ما لَمْ يَسْتَحْسِنْهُ، فَلَعَلَّ فِيهِ سِرًّا لا يَعْرِفُهُ. وأنْ يُداوِمَ عَلى التَّعَلُّمِ، ويَتَذَلَّلَ لِلْمُعَلِّمِ، ويُراعِيَ الأدَبَ في المَقالِ. وأنْ يُنَبِّهَ المُجْرِمَ عَلى جُرْمِهِ، ويَعْفُوَ عَنْهُ حَتّى يَتَحَقَّقَ إصْرارُهُ، ثُمَّ يُهاجِرَ عَنْهُ. انْتَهى. ومِن فَوائِدِ الآيَةِ -كَما في (فَتْحِ البارِي)- اسْتِحْبابُ الحِرْصِ عَلى لِقاءِ العُلَماءِ وتَجَشُّمِ المَشاقِّ في ذَلِكَ. وإطْلاقُ (الفَتى) عَلى التّابِعِ واسْتِخْدامُ الحُرِّ. وطَواعِيَةُ الخادِمِ لِمَخْدُومِهِ. وعُذْرُ النّاسِي. وجَوازُ الإخْبارِ بِالتَّعَبِ، ويَلْحَقُ بِهِ الألَمُ مِن مَرَضٍ ونَحْوِهِ. ومَحَلُّ ذَلِكَ إذا كانَ عَلى غَيْرِ سُخْطٍ مِنَ المَقْدُورِ. ومِنها أنَّ المُتَوَجِّهَ إلى رَبِّهِ يُعانُ فَلا يُسْرِعُ إلَيْهِ النَّصَبُ. وفِيها جَوازُ طَلَبِ القُوتِ. وطَلَبِ الضِّيافَةِ. وقِيامُ العُذْرِ بِالمَرَّةِ الواحِدَةِ، وقِيامُ الحُجَّةِ بِالثّانِيَةِ. وفِيها حُسْنُ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ وأنْ لا يُضافَ إلَيْهِ ما يُسْتَهْجَنُ لَفْظُهُ، وإنْ كانَ الكُلُّ بِتَقْدِيرِهِ وخَلْقِهِ، لِقَوْلِ الخِضْرِ عَنِ السَّفِينَةِ: ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ [الكهف: ٧٩] وعَنِ الجِدارِ: ﴿فَأرادَ رَبُّكَ﴾ ومِثْلُ هَذا قَوْلُهُ ﷺ: ««والخَيْرُ بِيَدَيْكَ والشَّرُّ لَيْسَ إلَيْكَ»» . انْتَهى. ومِن فَوائِدِها إطْلاقُ (القَرْيَةِ) عَلى (المَدِينَةِ) لِقَوْلِهِ: ﴿أهْلَ قَرْيَةٍ﴾ [الكهف: ٧٧] ثُمَّ قَوْلِهِ: ﴿لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ في المَدِينَةِ﴾ (p-٤٠٨٦)الثّانِي: ذَكَرَ النّاصِرُ في (الِانْتِصافِ): شَذَراتٍ مِن لَطائِفِ بَعْضِ الآيِ المَذْكُورَةِ فَنَأْثُرُها عَنْهُ. قالَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: ورَدَ في الحَدِيثِ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَنْصَبْ، ولَمْ يَقُلْ: ﴿لَقَدْ لَقِينا مِن سَفَرِنا هَذا نَصَبًا﴾ [الكهف: ٦٢] إلّا مُنْذُ جاوَزَ المَوْضِعَ الَّذِي حَدَّهُ اللَّهُ تَعالى لَهُ. فَلَعَلَّ الحِكْمَةَ في إنْساءِ يُوشِعَ أنْ يَتَيَقَّظَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، لِمِنَّةِ اللَّهِ تَعالى عَلى المُسافِرِ في طاعَةٍ وطَلَبِ عِلْمٍ، بِالتَّيْسِيرِ عَلَيْهِ وحَمْلِ الأعْباءِ عَنْهُ. وتِلْكَ سُنَّةُ اللَّهِ الجارِيَةُ في حَقِّ مَن صَحَّتْ لَهُ نِيَّةٌ في عِبادَةٍ مِنَ العِباداتِ، أنْ يُيَسِّرَها، ويَحْمِلَ عَنْهُ مُؤْنَتَها، ويَتَكَفَّلَ بِهِ ما دامَ عَلى تِلْكَ الحالَةِ. ومَوْضِعُ الإيقاظِ أنَّهُ وجَدَ بَيْنَ حالَةِ سَفَرِهِ لِلْمَوْعِدِ وحالَةِ مُجاوَزَتِهِ، بَوْنًا بَيِّنًا، واللَّهُ أعْلَمُ وإنْ كانَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ مُتَيَقِّظًا لِذَلِكَ، فالمَطْلُوبُ إيقاظُ غَيْرِهِ مِن أُمَّتِهِ، بَلْ مِن أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، إذا قَصَّ عَلَيْهِمُ القِصَّةَ. فَما أوْرَدَ اللَّهُ تَعالى قِصَصَ أنْبِيائِهِ لِيَسْمُرَ بِها النّاسُ، ولَكِنْ لِيُشَمِّرَ الخَلْقُ لِتَدَبُّرِها واقْتِباسِ أنْوارِها ومَنافِعِها، عاجِلًا وآجِلًا. واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ قالَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: ومِمّا يَدُلُّ عَلى أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما حَمَلَهُ عَلى المُبادَرَةِ بِالإنْكارِ، الِالتِهابُ والحَمِيَّةُ لِلْحَقِّ، أنَّهُ قالَ حِينَ خَرَقَ السَّفِينَةَ: ﴿أخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أهْلَها﴾ [الكهف: ٧١] ولَمْ يَقُلْ: (لِتُغْرِقَنا) فَنَسِيَ نَفْسَهُ واشْتَغَلَ بِغَيْرِهِ، في الحالَةِ الَّتِي كُلُّ أحَدٍ فِيها يَقُولُ: نَفْسِي نَفْسِي، لا يَلْوِي عَلى مالٍ ولا ولَدٍ. وتِلْكَ حالَةُ الغَرَقِ. فَسُبْحانَ مَن جَبَلَ أنْبِياءَهُ وأصْفِياءَهُ عَلى نُصْحِ الخَلْقِ والشَّفَقَةِ عَلَيْهِمْ والرَّأْفَةِ بِهِمْ. صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ وسَلامُهُ. ثُمَّ قالَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ عَلى قَوْلِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ قَوْلَهُ: ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ [الكهف: ٧٩] مُسَبَّبٌ عَنْ خَوْفِ الغَصْبِ عَلَيْها، فَكانَ حَقُّهُ أنْ يَتَأخَّرَ عَنِ السَّبَبِ، فَلِمَ قَدِمَ عَلَيْهِ؟ قُلْتُ: النِّيَّةُ بِهِ التَّأْخِيرُ. وإنَّما قُدِّمَ لِلْعِنايَةِ. ولِأنَّ خَوْفَ الغَصْبِ لَيْسَ هو السَّبَبَ وحْدَهُ، ولَكِنْ مَعَ كَوْنِها لِلْمَساكِينِ. فَكانَ بِمَنزِلَةِ قَوْلِكَ: (زَيْدٌ ظَنِّي مُقِيمٌ). فَقالَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: كَأنَّهُ جَعَلَ السَّبَبَ في إعابَتِها كَوْنَها لِمَساكِينَ. ثُمَّ بَيَّنَ مُناسَبَةَ هَذا (p-٤٠٨٧)السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ، بِذِكْرِ عادَةِ المَلِكِ في غَصْبِ السُّفُنِ. وهَذا هو حَدُّ التَّرْتِيبِ في التَّعْلِيلِ أنْ يُرَتِّبَ الحُكْمَ عَلى السَّبَبِ، ثُمَّ يُوَضِّحَ المُناسَبَةَ فِيما بَعْدُ. فَلا يَحْتاجُ إلى جَعْلِهِ مُقَدَّمًا، والنِّيَّةُ تَأْخِيرُهُ. واللَّهُ أعْلَمُ. ثُمَّ قالَ: ولَقَدْ تَأمَّلْتُ مِن فَصاحَةِ هَذِهِ الآيِ، والمُخالَفَةِ بَيْنَها في الأُسْلُوبِ عَجَبًا. ألا تَراهُ في الأُولى أسْنَدَ الفِعْلَ إلى ضَمِيرِهِ خاصَّةً بِقَوْلِهِ: ﴿فَأرَدْتُ أنْ أعِيبَها﴾ [الكهف: ٧٩] وأسْنَدَهُ في الثّانِيَةِ إلى ضَمِيرِ الجَماعَةِ والمُعَظِّمُ نَفْسَهُ في قَوْلِهِ: " فَأرَدْنا أنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما " فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما " ولَعَلَّ إسْنادَ الأوَّلِ إلى نَفْسِهِ خاصَّةً مِن بابِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعالى، لِأنَّ المُرادَ (ثُمَّ عِبْتَ) فَتَأدَّبَ بِأنْ نَسَبَ الإعابَةَ إلى نَفْسِهِ. وأمّا إسْنادُ الثّانِي إلى الضَّمِيرِ المَذْكُورِ فالظّاهِرُ أنَّهُ مِن بابِ قَوْلِ خَواصِّ المَلِكِ: (أمَرْنا بِكَذا أوْ دَبَّرْنا كَذا) وإنَّما يَعْنُونَ: (أمَرَ المَلِكُ ودَبَّرَ) ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ في الثّالِثَةِ: ﴿فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما﴾ فانْظُرْ كَيْفَ تَغايَرَتْ هَذِهِ الأسالِيبُ، ولَمْ تَأْتِ عَلى نَمَطٍ واحِدٍ مُكَرَّرٍ، يَمُجُّها السَّمْعُ ويَنْبُو عَنْها، ثُمَّ انْطَوَتْ هَذِهِ المُخالَفَةُ عَلى رِعايَةِ الأسْرارِ المَذْكُورَةِ. فَسُبْحانَ اللَّطِيفِ الخَبِيرِ. الثّالِثُ: قالَ الخَفاجِيُّ: في إعادَةِ لَفْظِ (الأهْلِ) هُنا، يَعْنِي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اسْتَطْعَما أهْلَها﴾ [الكهف: ٧٧] إثْرَ قَوْلِهِ: ﴿أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ﴾ [الكهف: ٧٧] سُؤالٌ مَشْهُورٌ. وقَدْ نَظَّمَهُ الصَّلاحُ الصَّفْدِيُّ سائِلًا عَنْهُ السُّبْكِيَّ في قَصِيدَةٍ مِنها: ؎رَأيْتُ كِتابَ اللَّهِ أعْظَمَ مُعْجِزٍ لِأفْضَلِ مَن يُهْدى بِهِ الثّقَلانِ ؎ومِن جُمْلَةِ الإعْجازِ كَوْنُ اخْتِصارِهِ ∗∗∗ بِإيجازِ ألْفاظٍ وبَسْطِ مَعانِي ؎ولَكِنَّنِي في (الكَهْفِ) أبْصَرْتُ آيَةً ∗∗∗ بِها الفِكْرُ، في طُولِ الزَّمانِ عَنانِي ؎وما هي إلّا (اسْتَطْعَما أهْلَها) فَقَدْ ∗∗∗ نَرى (اسْتَطْعَماهُمْ) مِثْلَهُ بِبَيانِ ؎فَما الحِكْمَةُ الغَرّاءُ في وضْعٍ ظاهِرٍ ∗∗∗ مَكانَ ضَمِيرٍ؟ إنَّ ذاكَ لِشانِ يَعْنِي أنَّهُ عَدَلَ عَنِ الظّاهِرِ بِإعادَةِ لَفْظِ (أهْلٍ) ولَمْ يَقُلِ اسْتَطْعَماها لِأنَّهُ صِفَةُ القَرْيَةِ. (p-٤٠٨٨)أوِ (اسْتَطْعَماهُمْ) لِأنَّهُ صِفَةُ (أهْلٍ) فَلا بُدَّ مِن وجْهٍ. وقَدْ أجابُوا عَنْهُ بِأجْوِبَةٍ مُطَوَّلَةٍ نَظْمًا ونَثْرًا. والَّذِي تَحَرَّرَ فِيهِ أنَّهُ ذَكَرَ (الأهْلَ) أوَّلًا ولَمْ يُحْذَفْ إيجازًا، سَواءٌ قُدِّرَ أوْ تَجَوَّزَ في القَرْيَةِ، كَقَوْلِهِ: ﴿واسْألِ القَرْيَةَ﴾ [يوسف: ٨٢] لِأنَّ الإتْيانَ يُنْسَبُ لِلْمَكانِ. نَحْوَ (أتَيْتُ عَرَفاتٍ) ولِمَن فِيهِ نَحْوَ (أتَيْتُ بَغْدادَ) فَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ كانَ فِيهِ التِباسٌ مُخِلٌّ. فَلَيْسَ ما هُنا نَظِيرَ تِلْكَ الآيَةِ لِامْتِناعِ سُؤالِ نَفْسِ القَرْيَةِ، فَلا يُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمالَها. وأمّا الأهْلُ الثّانِي فَأُعِيدَ لِأنَّهُ غَيْرُ الأوَّلِ. ولَيْسَتْ كُلُّ مَعْرِفَةٍ أُعِيدَتْ عَيْنًا كَما بَيَّنُوهُ. لِأنَّ المُرادَ بِهِ بَعْضُهم. إذْ سُؤالُهم فَرْدًا فَرْدًا مُسْتَبْعَدٌ. فَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ، فُهِمَ غَيْرُ المُرادِ. أمّا لَوْ قِيلَ: (اسْتَطْعَماهُمْ) فَظاهِرٌ. وأمّا لَوْ قِيلَ (اسْتَطْعَماها) فَإنَّ النِّسْبَةَ إلى المَحَلِّ تُفِيدُ الِاسْتِيعابَ، كَما أثْبَتُوهُ في مَحَلِّهِ. وأمّا إتْيانُ جَمِيعِ القَرْيَةِ فَهو حَقِيقَةٌ في الوُصُولِ إلى بَعْضٍ مِنها. كَما يُقالُ: (زَيْدٌ في البَلَدِ) أوْ (فِي الدّارِ) وقِيلَ: إنَّ الأهْلَ أُعِيدَ لِلتَّأْكِيدِ كَقَوْلِهِ: ؎لَيْتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعَبُ بَيْنَنا ∗∗∗ كانَ الغُرابُ مُقَطَّعَ الأوْداجِ أوْ لِكَراهَةِ اجْتِماعِ ضَمِيرَيْنِ مُتَّصِلَيْنِ، لِبَشاعَتِهِ واسْتِطالَتِهِ، وثَمَّةَ أجْوِبَةٌ أُخْرى. الرّابِعُ: أبْدى بَعْضُهم سِرًّا لِلتَّعْبِيرِ أوَّلًا (بِتَسْتَطِعْ) ثُمَّ أخِيرًا (بِتَسْطِعْ) بِحَذْفِ التّاءِ قالَ: لَمّا أنْ فَسَّرَ الخِضْرُ لِمُوسى، وبَيَّنَ لَهُ تَأْوِيلَ ما لَمْ يَصْبِرْ مَعَهُ، ووَضَّحَهُ وأزالَ المُشْكَلَ، قالَ (تَسْطِعْ) بِحَذْفِ التّاءِ. وقِيلَ ذَلِكَ كانَ الإشْكالُ قَوِيًّا ثَقِيلًا. فَقالَ: ﴿سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف: ٧٨] فَقابَلَ الأثْقَلَ بِالأثْقَلِ والأخَفَّ بِالأخَفِّ. كَما قالَ: ﴿فَما اسْطاعُوا أنْ يَظْهَرُوهُ﴾ [الكهف: ٩٧] وهو الصُّعُودُ إلى أعْلاهُ ﴿وما اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْبًا﴾ [الكهف: ٩٧] وهو أشَقُّ مِن ذَلِكَ. (p-٤٠٨٩)فَقابَلَ كُلًّا بِما يُناسِبُهُ لَفْظًا ومَعْنًى. انْتَهى. وقالَ الشِّهابُ: وإنَّما خَصَّ هَذا بِالتَّخْفِيفِ لِأنَّهُ لَمّا تَكَرَّرَ في القِصَّةِ ناسَبَ تَخْفِيفَ الأخِيرِ مِنهُ. وأمّا كَوْنُهُ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ خَفَّ عَلى مُوسى ﷺ ما لَقِيَهُ بِبَيانِ سَبَبِهِ- فَيَبْعُدُ أنَّهُ في الحِكايَةِ، لا المَحْكِيِّ. انْتَهى. وما ألْطَفَ قَوْلَ الشِّهابِ في مِثْلِهِ: هَذِهِ زَهْرَةٌ لا تَحْتَمِلُ هَذا الفَرْكَ. الخامِسُ: قالَ الإمامُ السُّبْكِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: ما فَعَلَهُ الخِضْرُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِن قَتْلِ الغُلامِ لِكَوْنِهِ طُبِعَ كافِرًا، مَخْصُوصٌ بِهِ. لِأنَّهُ أُوحِيَ إلَيْهِ أنْ يَعْمَلَ بِالباطِنِ، وخِلافِ الظّاهِرِ المُوافِقِ لِلْحِكْمَةِ. فَلا إشْكالَ فِيهِ. وإنْ عَلِمَ مِنَ الشَّرِيعَةِ أنَّهُ لا يَجُوزُ قَتْلُ صَغِيرٍ لا سِيَّما بَيْنَ أبَوَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ. ولَوْ فَرَضْنا أنَّ اللَّهَ أطْلَعَ بَعْضَ أوْلِيائِهِ، كَما أطْلَعَ الخِضْرَ عَلَيْهِ السَّلامُ، لَمْ يَجُزْ لَهُ ذَلِكَ، وما ورَدَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ (لَمّا كَتَبَ إلَيْهِ نَجْدَةُ الحَرُورِيُّ: كَيْفَ قَتَلَهُ وقَدْ نَهى النَّبِيُّ ﷺ عَنْ قَتْلِ الوِلْدانِ؟ فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنْ كُنْتَ عَلِمْتَ مِن حالِ الوِلْدانِ، ما عَلِمَهُ عالِمُ مُوسى، فَلَكَ أنْ تَقْتُلَ (فَإنَّما قَصَدَ بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ المُحاجَّةَ والإحالَةَ عَلى ما لَمْ يُمْكِنْ قَطْعًا، لِطَمَعِهِ في الِاحْتِجاجِ بِقِصَّةِ الخِضْرِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. ولَيْسَ مَقْصُودُهُ أنَّهُ إنْ حَصَلَ ذَلِكَ يَجُوزُ. لِأنَّهُ لا تَقْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ. وكَيْفَ يُقْتَلُ بِسَبَبٍ لَمْ يَحْصُلْ؟ والمَوْلُودُ لا يُوصَفُ بِكُفْرٍ حَقِيقِيٍّ ولا إيمانٍ حَقِيقِيٍّ. وقِصَّةُ الخِضْرِ تُحْمَلُ عَلى أنَّهُ كانَ شَرْعًا مُسْتَقِلًّا بِهِ. وهو نَبِيٌّ. ولَيْسَ في شَرِيعَةِ مُوسى أيْضًا، ولِذا أنْكَرَهُ. انْتَهى. وقالَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في (الفَتْحِ): وأمّا مَنِ اسْتَدَلَّ بِهِ عَلى جَوازِ دَفْعِ أغْلَظِ الضَّرَرَيْنِ بِأخَفِّهِما، فَصَحِيحٌ. لَكِنْ فِيما لا يُعارِضُ مَنصُوصَ الشَّرْعِ. فَلا يَسُوغُ الإقْدامُ عَلى قَتْلِ النَّفْسِ مِمَّنْ يَتَوَقَّعُ مِنهُ أنْ يَقْتُلَ أنْفُسًا كَثِيرَةً، قَبْلَ أنْ يَتَعاطى شَيْئًا مِن ذَلِكَ. وإنَّما فَعَلَ الخِضْرُ ذَلِكَ لِإطْلاعِ اللَّهِ تَعالى عَلَيْهِ. (p-٤٠٩٠)وقالَ ابْنُ بَطّالٍ: قَوْلُ الخِضْرِ: (وأمّا الغُلامُ فَكانَ كافِرًا) هو بِاعْتِبارِ ما يَؤُولُ إلَيْهِ أمْرُهُ أنْ لَوْ عاشَ حَتّى يَبْلُغَ. واسْتِحْبابُ مِثْلِ هَذا القَتْلِ لا يَعْلَمُهُ إلّا اللَّهُ. ولِلَّهِ أنْ يَحْكُمَ في خَلْقِهِ بِما يَشاءُ قَبْلَ البُلُوغِ وبَعْدَهُ. أقُولُ: مَفادُ الآيَةِ، أنَّ إنْكارَ مُوسى لِقَتْلِ الغُلامِ لِكَوْنِهِ جِنايَةً بِغَيْرِ مُوجِبٍ. ولِذا قالَ: (بِغَيْرِ نَفْسٍ)، لا لِكَوْنِهِ صَغِيرًا لَمْ يَبْلُغِ الحِنْثَ. لِأنَّ الآيَةَ لا تُفِيدُهُ. وقَدْ يَكُونُ كَبِيرًا. فَقَدْ قالَ اللُّغَوِيُّونَ: الغُلامُ الطّارُّ الشّابُّ، أوْ مِن حِينِ يُولَدُ إلى أنْ يَشِبَّ، والكَهْلُ أيْضًا. ومِنَ الأخِيرِ قَوْلُ مُوسى في قِصَّةِ الإسْراءِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: أبْكِي لِأنَّ غُلامًا بُعِثَ بَعْدِي. إلَخْ، نَعَمْ رُبَّما يُشْعِرُ بِصِغَرِهِ حَدِيثُ البُخارِيِّ: وجَدَ غِلْمانًا يَلْعَبُونَ فَأخَذَ غُلامًا فَذَبَحَهُ قالَ مُوسى: أقَتَلْتَ نَفْسًا لَمْ تَعْمَلْ بِالحِنْثِ. ولَكِنْ لا نَصَّ فِيهِ، فَتَأمَّلْ. السّادِسُ: أكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّ مُوسى المَذْكُورَ في الآيَةِ، هو مُوسى بْنُ عِمْرانَ صاحِبُ الآياتِ الشَّهِيرَةِ وصاحِبُ التَّوْراةِ. وذَهَبَ نَوْفٌ البَكّالِيُّ -تابِعِيٌّ صَدُوقٌ ابْنُ امْرَأةِ كَعْبِ الأحْبارِ أوِ ابْنُ أخِيهِ- إلى أنَّهُ لَيْسَ بِمُوسى بْنِ عِمْرانَ كَما في البُخارِيِّ. ووَقَعَ في رِوايَةِ ابْنِ إسْحاقَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عِنْدَ (النَّسائِيِّ) قالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبّاسٍ وعِنْدَهُ قَوْمٌ مِن أهْلِ الكِتابِ، فَقالَ بَعْضُهُمْ: يا أبا عَبّاسٍ! إنَّ نَوْفًا يَزْعُمُ عَنْ كَعْبِ الأحْبارِ أنَّ مُوسى الَّذِي طَلَبَ العِلْمَ إنَّما هو مُوسى بْنُ مُنِسّا. أيِ: ابْنُ إفْراثِيمَ بْنِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: أسَمِعْتَ ذَلِكَ مِنهُ يا سَعِيدُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قالَ: كَذَبَ نَوْفٌ. وفي رِوايَةِ البُخارِيِّ: كَذِبَ عَدُوُّ اللَّهِ. وإنَّما قالَ ذَلِكَ مُبالَغَةً في الإنْكارِ والتَّنْفِيرِ مِن تَصْدِيقِ مَقالَتِهِ. (p-٤٠٩١)قالَ الرّازِيُّ: كانَ لِيُوسُفَ ولَدانِ إفْراثِيمَ. ومُنِسّا. فَوَلَدُ إفْراثِيمَ نُونٌ ووَلَدَ نُونٍ يُوشِعُ صاحِبُ مُوسى ووَلِيُّ عَهْدِهِ بَعْدَ وفاتِهِ. وأمّا ولَدُ مُنِسّا، قِيلَ إنَّهُ جاءَتْهُ النُّبُوَّةُ قَبْلَ مُوسى بْنِ عِمْرانَ. ويَزْعُمُ أهْلُ التَّوْراةِ أنَّهُ هو الَّذِي طَلَبَ هَذا العِلْمَ لِيَتَعَلَّمَ. والخِضْرُ هو الَّذِي خَرَقَ السَّفِينَةَ وقَتَلَ الغُلامَ وأقامَ الجِدارَ، ومُوسى بْنُ مُنِسّا مَعَهُ. هَذا هو قَوْلُ جُمْهُورِ اليَهُودِ. واحْتَجَّ القَفّالُ عَلى صِحَّةِ القَوْلِ بِأنَّهُ مُوسى صاحِبُ التَّوْراةِ أنَّهُ لَمْ يُذْكَرْ في القُرْآنِ وهو المُرادُ. فَإطْلاقُ هَذا الِاسْمِ يُوجِبُ الِانْصِرافَ إلَيْهِ. ولَوْ كانَ المُرادُ غَيْرَهُ لَوَجَبَ تَعْرِيفُهُ بِصِفَةٍ تُمَيِّزُهُ وتُزِيلُ الِاشْتِباهَ عَنْهُ، واللَّهُ أعْلَمُ. انْتَهى. وأمّا ابْنُ عَبّاسٍ فَكانَ سَنَدُهُ في ذَلِكَ، كَما في البُخارِيِّ، ما حَدَّثَهُ بِهِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ورَفَعَهُ إلى النَّبِيِّ ﷺ؛ «أنَّ مُوسى سُئِلَ هَلْ في الأرْضِ أحَدٌ أعْلَمُ مِنكَ؟ فَقالَ: لا». أوْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ بِذَلِكَ. فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ. وأرادَ تَعْرِيفَهُ أنَّ مِن عِبادِهِ في الأرْضِ مَن هو أعْلَمُ مِنهُ، لِئَلّا يُحَتِّمَ عَلى ما لا عِلْمَ لَهُ بِهِ. وإذا صَحَّ أنَّ مُوسى هو صاحِبُ التَّوْراةِ، فَيَكُونُ المُرادُ بِفَتاهُ يُوشِعَ. وكانَ مُوسى اخْتَصَّهُ بِرُفْقَتِهِ لِكَوْنِهِ صادِقًا في خِدْمَتِهِ، والغَيْرَةِ عَلى كَرامَتِهِ، والحُبِّ لَهُ. ولِذا صارَ خَلِيفَتَهُ بَعْدَهُ، وفُتِحَ عَلَيْهِ بَيْتُ المَقْدِسِ ونُصِرَ عَلى الجَبّارِينَ، كَما هو مَعْرُوفٌ. السّابِعُ: قالَ الأكْثَرُونَ: إنَّ صاحِبَ مُوسى المُعَبَّرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَبْدًا مِن عِبادِنا﴾ [الكهف: ٦٥] هو الخِضْرُ. قالُوا: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّهُ ما جَلَسَ عَلى الأرْضِ إلّا اخْضَرَّتْ. وقَدْ صَحَّ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ تَمارى هو والحُرُّ بْنُ قَيْسِ بْنِ حِصْنٍ الفَزارِيُّ في صاحِبِ مُوسى. فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو خِضْرٌ، فَمَرَّ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ. فَدَعاهُ ابْنُ عَبّاسٍ فَقالَ: إنِّي تَمارَيْتُ أنا وصاحِبِي هَذا، في صاحِبِ مُوسى الَّذِي سَألَ السَّبِيلَ إلى لُقِيِّهِ. فَهَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قالَ: إنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «بَيْنا مُوسى في مَلَأٍ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، إذْ جاءَهُ رَجُلٌ فَقالَ: تَعْلَمُ مَكانَ أحَدٍ أعْلَمَ مِنكَ؟ قالَ مُوسى: لا. فَأوْحى اللَّهُ إلى مُوسى: بَلى. عَبْدُنا خِضْرٌ. (p-٤٠٩٢)فَسَألَ مُوسى السَّبِيلَ إلى لُقِيِّهِ، فَجَعَلَ اللَّهُ لَهُ الحُوتَ آيَةً، وقِيلَ لَهُ: إذا فَقَدْتَ فارْجِعْ فَإنَّكَ سَتَلْقاهُ. فَكانَ مُوسى يَتْبَعُ أثَرَ الحُوتِ في البَحْرِ. فَقالَ مُوسى: ذَلِكَ ما كُنّا نَبْغِ فارْتَدّا عَلى آثارِهِما قَصَصًا فَوَجْدا خِضْرًا.وكانَ مِن شَأْنِهِما ما قَصَّ اللَّهُ في كِتابِهِ»» . الثّامِنُ: اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ في نَسَبِ الخِضْرِ وفي كَوْنِهِ نَبِيًّا وفي طُولِ عُمُرِهِ وبَقاءِ حَياتِهِ عَلى أقْوالٍ كَثِيرَةٍ. فَمِن قائِلٍ بِأنَّهُ ابْنُ آدَمَ لِصُلْبِهِ أوِ ابْنُ قابِيلَ أوِ ابْنُ اليَسَعِ، أوْ غَيْرُ ذَلِكَ، وكُلُّهُ مِمّا لَيْسَ فِيهِ أثارَةٌ مِن عِلْمٍ، وقَدِ احْتَجَّ مَن قالَ إنَّهُ نَبِيٌّ بِقَوْلِهِ تَعالى: وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي لِأنَّ الظّاهِرَ مِن هَذا أنَّهُ فَعَلَهُ بِأمْرِ اللَّهِ. والأصْلُ عَدَمُ الواسِطَةِ. وقِيلَ: كانَ ولِيًّا. وقِيلَ: مَقامُهُ دُونَ النُّبُوَّةِ وفَوْقَ الصِّدِّيقِيَّةِ فَهو مَقامٌ بَرْزَخِيٌّ، لَهُ وجْهٌ إلى النُّبُوَّةِ ووَجْهٌ إلى الوِلايَةِ. وقِيلَ: إنَّهُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ. وأمّا تَعْمِيرُهُ فَيُرْوى عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ أُنْسِئَ لِلْخِضْرِ في أجَلِهِ حَتّى يُكَذِّبَ الدَّجّالَ. قالَ النَّوَوِيُّ في (التَّهْذِيبِ) قالَ الأكْثَرُونَ: هو حَيٌّ مَوْجُودٌ بَيْنَ أظْهُرِنا. وذَلِكَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الصُّوفِيَّةِ وأهْلِ الصَّلاحِ والمَعْرِفَةِ. وحِكاياتُهم في رُؤْيَتِهِ، والِاجْتِماعِ بِهِ، والأخْذِ عَنْهُ، وسُؤالِهِ، ووُجُودِهِ في المَواضِعِ الشَّرِيفَةِ، أكْثَرُ مِن أنْ تُحْصى وأشْهَرُ مِن أنْ تُذْكَرَ. وقالَ البُخارِيُّ وطائِفَةٌ مِن أهْلِ الحَدِيثِ: إنَّهُ ماتَ. وقالَ الحافِظُ أبُو الخَطّابِ بْنُ دِحْيَةَ: وأمّا رِوايَةُ اجْتِماعِهِ مَعَ النَّبِيِّ ﷺ وتَعْزِيَتِهِ لِأهْلِ البَيْتِ، فَلا يَصِحُّ مِن طُرُقِها شَيْءٌ. ولا يَثْبُتُ اجْتِماعُهُ مَعَ أحَدٍ مِنَ الأنْبِياءِ، إلّا مَعَ مُوسى. وجَمِيعُ ما ورَدَ في حَياتِهِ لا يَصِحُّ مِنهُ شَيْءٌ، بِاتِّفاقِ أهْلِ النَّقْلِ. وأمّا ما جاءَ مِنَ المَشايِخِ فَهو مِمّا يُتَعَجَّبُ مِنهُ. كَيْفَ يَجُوزُ لِعاقِلٍ أنْ يَلْقى شَيْخًا لا يَعْرِفُهُ فَيَقُولُ لَهُ: أنا فُلانٌ فَيُصَدِّقُهُ؟ انْتَهى كَلامُهُ مُلَخَّصًا. وتَمَسَّكَ مَن قالَ بِتَعْمِيرِهِ بِقِصَّةِ عَيْنِ الحَياةِ، واسْتَنَدَ إلى ما وقَعَ مِن ذِكْرِها في صَحِيحِ البُخارِيِّ (p-٤٠٩٣)وجامِعِ التِّرْمِذِيِّ. ولَكِنْ لَمْ يَثْبُتْ ذَلِكَ مَرْفُوعًا. وقالَ أبُو حَيّانَ في (تَفْسِيرِهِ): الجُمْهُورُ عَلى أنَّ الخِضْرَ ماتَ. وبِهِ قالَ ابْنُ أبِي الفَضْلِ المَرْسِيِّ. لِأنَّهُ لَوْ كانَ حَيًّا لَزِمَهُ المَجِيءُ إلى النَّبِيِّ ﷺ والإيمانُ بِهِ واتِّباعُهُ. وقَدْ رُوِيَ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««لَوْ كانَ مُوسى حَيًّا ما وسِعَهُ إلّا اتِّباعِي»» . وبِذَلِكَ جَزَمَ ابْنُ المَناوِيِّ وإبْراهِيمُ الحَرْبِيُّ وأبُو طاهِرٍ العِبادِيُّ. ومِمَّنْ جَزَمَ بِأنَّهُ غَيْرُ مَوْجُودٍ الآنَ، أبُو يَعْلى الحَنْبَلِيُّ وأبُو الفَضْلِ بْنُ ناصِرٍ والقاضِي أبُو بَكْرِ بْنُ العَرَبِيِّ، وأبُو بَكْرِ بْنُ النَّقّاشِ وابْنُ الجَوْزِيِّ. واسْتُدِلَّ عَلى ذَلِكَ بِأدِلَّةٍ. مِنها قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ﴾ [الأنبياء: ٣٤] قالَ أبُو الحُسَيْنِ بْنُ المَناوِيِّ: بَحَثْتُ عَنْ تَعْمِيرِ الخِضْرِ، وهَلْ هو باقٍ أمْ لا! فَإذا أكْثَرُ المُغَفَّلِينَ مُفْتَرُونَ بِأنَّهُ باقٍ مِن أجْلِ ما رُوِيَ في ذَلِكَ، والأحادِيثُ المَرْفُوعَةُ في ذَلِكَ واهِيَةٌ. والسَّنَدُ إلى أهْلِ الكِتابِ ساقِطٌ لِعَدَمِ ثِقَتِهِمْ. وخَبَرُ مَسْلَمَةَ بْنِ مِصْقَلَةَ كالخُرافَةِ. وخَبَرُ رِياحٍ كالرِّيحِ. وما عَدا ذَلِكَ مِنَ الأخْبارِ، كُلُّها واهِيَةُ الصَّدْرِ والأعْجازِ. لا يَخْلُو حالُها مِن أمْرَيْنِ: إمّا أنْ تَكُونَ أُدْخِلَتْ عَلى الثِّقاتِ اسْتِغْفالًا، أوْ يَكُونُ بَعْضُهم تَعَمَّدَ ذَلِكَ. وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿وما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِن قَبْلِكَ الخُلْدَ﴾ [الأنبياء: ٣٤] قالَ صاحِبُ (فَتْحِ البَيانِ): والحَقُّ ما ذَكَرْناهُ عَنِ البُخارِيِّ وأضْرابِهِ في ذَلِكَ. ولا حُجَّةَ في قَوْلِ أحَدٍ كائِنًا مَن كانَ إلّا اللَّهُ سُبْحانَهُ ورَسُولُهُ ﷺ. ولَمْ يَرِدْ في ذَلِكَ نَصٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ، ولا حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ إلَيْهِ ﷺ، حَتّى يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ ويُصارَ إلَيْهِ. وظاهِرُ الكِتابِ والسُّنَّةِ نَفْيُ الخُلْدِ، وطُولُ التَّعْمِيرِ لِأحَدٍ مِنَ البَشَرِ. وهُما قاضِيانِ عَلى غَيْرِهِما ولا يَقْضِي غَيْرُهُما عَلَيْهِما. ومَن قالَ إنَّهُ نَبِيٌّ أوْ مُرْسَلٌ أوْ حَيٌّ باقٍ، لَمْ يَأْتِ بِحُجَّةٍ نَيِّرَةٍ ولا سُلْطانٍ مُبِينٍ. وإذا جاءَ نَهْرُ اللَّهِ بَطَلَ نَهْرُ مَعْقِلٍ. انْتَهى. (p-٤٠٩٤)وقالَ تَقِيُّ الدِّينِ بْنُ تَيْمِيَةَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ والرِّضْوانُ في بَعْضِ فَتاوِيهِ، في تَرائِي الجِنِّ لِلْإنْسِ في بَعْضِ البِلادِ، ما مِثالُهُ: وفِيهِ كَثِيرٌ مِنَ الجِنِّ وهم رِجالُ الغَيْبِ الَّذِينَ يُرَوْنَ أحْيانًا في هَذِهِ البِقاعِ قالَ تَعالى: ﴿وأنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الجِنِّ فَزادُوهم رَهَقًا﴾ [الجن: ٦] وكَذَلِكَ الَّذِينَ يَرَوْنَ الخِضْرَ أحْيانًا هو جِنِّيٌّ رَأوْهُ. وقَدْ رَآهُ غَيْرُ واحِدٍ مِمَّنْ أعْرِفُهُ وقالَ (إنَّنِي) وكانَ ذَلِكَ جِنِّيًّا لَبَّسَ عَلى المُسْلِمِينَ الَّذِينَ رَأوْهُ. وإلّا فالخِضْرُ الَّذِي كانَ مَعَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ماتَ. ولَوْ كانَ حَيًّا عَلى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، لَوَجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَأْتِيَ إلى النَّبِيِّ ﷺ ويُؤْمِنَ بِهِ ويُجاهِدَ مَعَهُ. فَإنَّ اللَّهَ فَرَضَ عَلى كُلِّ نَبِيٍّ أدْرَكَ مُحَمَّدًا، أنْ يُؤْمِنَ بِهِ ويُجاهِدَ مَعَهُ. كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وإذْ أخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكم مِن كِتابٍ وحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكم رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكم لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أأقْرَرْتُمْ وأخَذْتُمْ عَلى ذَلِكم إصْرِي قالُوا أقْرَرْنا قالَ فاشْهَدُوا وأنا مَعَكم مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: ٨١] قالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إلّا أخَذَ عَلَيْهِ المِيثاقَ عَلى أُمَّتِهِ؛ لَئِنْ بُعِثَ مُحَمَّدٌ وهم أحْياءٌ لِيُؤْمِنُنَّ بِهِ ولَيَنْصُرُنَّهُ. ولَمْ يَذْكُرْ أحَدٌ مِنَ الصَّحابَةِ أنَّهُ رَأى الخِضْرَ، ولا أنَّهُ أتى إلى النَّبِيِّ ﷺ. فَإنَّ الصَّحابَةَ كانُوا أعْلَمَ وأجَلَّ قَدْرًا، مِن أنْ يُلَبِّسَ الشَّيْطانُ عَلَيْهِمْ. ولَكِنْ لَبَّسَ عَلى كَثِيرٍ مِن بَعْدِهِمْ. فَصارَ يَتَمَثَّلُ لِأحَدِهِمْ في صُورَةِ النَّبِيِّ ويَقُولُ: أنا الخِضْرُ. وإنَّما هو الشَّيْطانُ. كَما أنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يَرى مَيِّتَهُ خَرَجَ، وجاءَ إلَيْهِ، وكَلَّمَهُ في أُمُورٍ، وقَضاءِ حَوائِجَ، فَيَظُنُّهُ المَيِّتَ نَفْسَهُ. وإنَّما هو شَيْطانٌ. تَصَوَّرَ بِصُوَرٍ. انْتَهى. التّاسِعُ: دَلَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ [الكهف: ٦٥] عَلى أنَّ مِنَ العِلْمِ عِلْمًا غَيْبِيًّا وهو المُسَمّى بِالعِلْمِ اللَّدُنِّي. فالآيَةُ أصْلٌ فِيهِ. وقَدْ ألَّفَ حُجَّةُ الإسْلامِ الغَزالِيُّ، عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، رِسالَةً في إثْباتِ هَذا العِلْمِ. رَدَّ عَلى مَن أنْكَرَ وُجُودَهُ. وذَكَرَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ أوَّلًا طَرَفًا مِن مَراتِبِ العُلُومِ الظّاهِرِيَّةِ المَعْرُوفَةِ. ثُمَّ جَوَّدَ الكَلامَ في إثْباتِهِ. ولا بَأْسَ بِإيرادِ شَذْرَةٍ مِمّا قَرَّرَهُ فِيهِ. قالَ (p-٤٠٩٥)قُدِّسَ سِرُّهُ. اعْلَمْ أنَّ العِلْمَ الإنْسانِيَّ يَحْصُلُ مِن طَرِيقَيْنِ: أحَدُهُما مِنَ التَّعْلِيمِ الإنْسانِيِّ والثّانِي مِنَ التَّعْلِيمِ الرَّبّانِيِّ. أمّا الطَّرِيقُ الأوَّلُ، وهو التَّعْلِيمُ الإنْسانِيُّ، فَطَرِيقٌ مَعْهُودٌ مَسْلُوكٌ مَحْسُوسٌ. ويَكُونُ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: مِن خارِجٍ وهو التَّحْصِيلُ بِالتَّعَلُّمِ. والآخَرُ: مِن داخِلٍ وهو الِاشْتِغالُ بِالتَّفَكُّرِ. والتَّفَكُّرُ في الباطِنِ بِمَنزِلَةِ التَّعْلِيمِ في الظّاهِرِ. فَإنَّ التَّعَلُّمَ اسْتِفادَةُ الشَّخْصِ مِنَ الشَّخْصِ الجُزْئِيِّ. والتَّفَكُّرُ اسْتِفادَةُ النَّفْسِ مِنَ النَّفْسِ الكُلِّيِّ. والنَّفْسُ الكُلِّيُّ أشَدُّ تَأْثِيرًا وأقْوى تَعْلِيمًا مِن جَمِيعِ العُقَلاءِ والعُلَماءِ. والعُلُومُ مَرْكُوزَةٌ في أصْلِ النُّفُوسِ بِالقُوَّةِ. كالبَذْرِ في الأرْضِ والجَوْهَرِ في قَعْرِ البَحْرِ، أوْ في قَلْبِ المَعْدِنِ. والتَّعَلُّمُ هو طَلَبُ خُرُوجِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الَّذِي بِالقُوَّةِ إلى الفِعْلِ. والتَّعْلِيمُ هو إخْراجُهُ مِنَ القُوَّةِ إلى الفِعْلِ. فَنَفْسُ المُتَعَلِّمِ تَتَشَبَّهُ بِنَفْسِ العالِمِ وتَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ. فالعالِمُ بِالإفادَةِ كالزّارِعِ. والمُتَعَلِّمُ بِالِاسْتِفادَةِ كالأرْضِ. والعِلْمُ الَّذِي هو بِالقُوَّةِ كالبَذْرِ. والَّذِي هو بِالفِعْلِ، كالنَّباتِ. وإذا كَمُلَتْ نَفْسُ المُتَعَلِّمِ يَكُونُ كالشَّجَرِ المُثْمِرِ أوْ كالجَوْهَرِ الظّاهِرِ مِن قَعْرِ البَحْرِ. وإذا غَلَبَتِ القُوى البَدَنِيَّةُ عَلى النَّفْسِ يَحْتاجُ المُتَعَلِّمُ إلى زِيادَةِ التَّعَلُّمِ في طُولِ المُدَّةِ. ويَحْمِلُ التَّعَبَ في طَلَبِ الفائِدَةِ، وإذا غَلَبَ نُورُ العَقْلِ عَلى أوْصافِ الحِسِّ يَسْتَغْنِي الطّالِبُ بِقَلِيلِ التَّفَكُّرِ عَنْ كَثِيرِ التَّعَلُّمِ، فَإنَّ نَفْسَ العاقِلِ تَجِدُ مِنَ الفَوائِدِ بِتَفَكُّرِ ساعَةٍ، ما لا تَجِدُ نَفْسُ الجاهِلِ بِتَعَلُّمِ سَنَةٍ. فَإذَنْ بَعْضُ النّاسِ يُحَصِّلُونَ العِلْمَ بِالتَّعَلُّمِ وبَعْضُهم بِالتَّفَكُّرِ. ثُمَّ قالَ قُدِّسَ سِرُّهُ: والطَّرِيقُ الثّانِي وهو التَّعْلِيمُ الرَّبّانِيُّ. وذَلِكَ عَلى وجْهَيْنِ: إلْقاءُ الوَحْيِ وهو النَّفْسُ إذا كَمُلَتْ بِذاتِها تَزُولُ عَنْها دَنَسُ الطَّبِيعَةِ ودَرَنُ الحِرْصِ والأمَلِ. ويَنْفَصِلُ نَظَرُها عَنْ شَهَواتِ الدُّنْيا ويَنْقَطِعُ نَسَبُها عَنِ الأمانِي الفانِيَةِ. وتُقْبِلُ بِوَجْهِها عَلى بارِئِها ومُنْشِئِها. وتَتَمَسَّكُ بِجُودِ مُبْدِعِها. وتَعْتَمِدُ عَلى إفادَتِهِ وفَيْضِ نُورِهِ. فاللَّهُ تَعالى بِحُسْنِ عِنايَتِهِ يُقْبِلُ عَلى تِلْكَ النَّفْسِ إقْبالًا كُلِّيًّا، ويَنْظُرُ إلَيْها نَظَرًا إلَهِيًّا، ويَتَّخِذُ مِنها لَوْحًا، ومِنَ النَّفْسِ الكُلِّيِّ قَلَمًا ويَنْقُشُ فِيها عُلُومَهُ. ويَصِيرُ العَقْلُ الكُلِّيُّ كالمُعَلِّمِ والنَّفْسُ القُدْسِيُّ كالمُتَعَلِّمِ. فَتَحْصُلُ جَمِيعُ العُلُومِ لِتِلْكَ النَّفْسِ وتَنْتَقِشُ فِيها جَمِيعُ الصُّوَرِ (p-٤٠٩٦)مِن غَيْرِ تَعَلُّمٍ وتَفَكُّرٍ. ومِصْداقُ هَذا قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿وعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: ١١٣] فَعِلْمُ الأنْبِياءِ أشْرَفُ مَرْتَبَةً مِن جَمِيعِ عُلُومِ الخَلائِقِ. لِأنَّ مَحْصُولَهُ عَنِ اللَّهِ تَعالى بِلا واسِطَةٍ ووَسِيلَةٍ. وبَيانُ هَذِهِ الكَلِمَةِ يُوجَدُ في قِصَّةِ آدَمَ والمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. فَإنَّهم طُولَ عُمْرِهِمْ حَصَّلُوا بِفُنُونِ الطُّرُقِ كَثِيرَ العُلُومِ. حَتّى صارُوا أعْلَمَ المَخْلُوقِينَ وأعْرَفَ المَوْجُوداتِ. آدَمُ لَمّا جاءَ، ما كانَ عالِمًا. لِأنَّهُ ما تَعَلَّمَ ولا رَأى مُعَلِّمًا. فَتَفاخَرَتِ المَلائِكَةُ عَلَيْهِ وتَجَبَّرُوا وتَكَبَّرُوا وقالُوا: ﴿ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة: ٣٠] ونَعْلَمُ حَقائِقَ الأشْياءِ. فَرَجَعَ آدَمُ إلى بابِ خالِقِهِ وأخْرَجَ قَلْبَهُ عَنْ جُمْلَةِ المُكَوِّناتِ، وأقْبَلَ بِالِاسْتِعانَةِ عَلى الرَّبِّ تَعالى، فَعَلَّمَهُ الأسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهم عَلى المَلائِكَةِ فَقالَ: ﴿أنْبِئُونِي بِأسْماءِ هَؤُلاءِ﴾ [البقرة: ٣١] أوْ صَغَرَ حالُهم عِنْدَ آدَمَ وقَلَّ عِلْمُهم وانْكَسَرَتْ سَفِينَةُ جَبَرُوتِهِمْ، فَغَرِقُوا في بَحْرِ العَجْزِ: ﴿قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إلا ما عَلَّمْتَنا﴾ [البقرة: ٣٢] فَقالَ تَعالى: ﴿يا آدَمُ أنْبِئْهم بِأسْمائِهِمْ﴾ [البقرة: ٣٣] فَأنْبَأهم آدَمُ عَنْ مَكْنُوناتِ العِلْمِ ومُسْتَتِراتِ الأمْرِ. فَتَقَرَّرَ الأمْرُ عِنْدَ العُقَلاءِ؛ أنَّ العِلْمَ الغَيْبِيَّ المُتَوَلَّدَ عَنِ الوَحْيِ، أقْوى وأكْمَلُ مِنَ العُلُومِ المُكْتَسَبَةِ. صارَ عِلْمُ الوَحْيِ إرْثَ الأنْبِياءِ وحَقَّ الرُّسُلِ، حَتّى أغْلَقَ اللَّهُ بابَ الوَحْيِ في عَهْدِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ﷺ. فَكانَ رَسُولُ اللَّهِ خاتَمَ النَّبِيِّينَ، وكانَ أعْلَمَ النّاسِ وأفْصَحَ العَرَبِ والعَجَمِ، وكانَ يَقُولُ: ««أدَّبَنِي رَبِّي فَأحْسَنَ تَأْدِيبِي»» وقالَ لِقَوْمِهِ: ««أنا أعْلَمُكم بِاللَّهِ وأخْشاكم لِلَّهِ»» وإنَّما كانَ عِلْمُهُ أكْمَلَ وأشْرَفَ وأقْوى، لِأنَّهُ حَصَلَ عَنِ التَّعْلِيمِ الرَّبّانِيِّ، وما اشْتَغَلَ قَطُّ بِالتَّعَلُّمِ والتَّعْلِيمِ الإنْسانِيِّ فَقالَ تَعالى: ﴿عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوى﴾ [النجم: ٥] (p-٤٠٩٧)والوَجْهُ الثّانِي: هو الإلْهامُ. والإلْهامُ تَنْبِيهُ النَّفْسِ الكُلِّيِّ لِلنَّفْسِ الجُزْئِيِّ عَلى قَدْرِ صِفاتِهِ وقَبُولِهِ وقُوَّتِهِ واسْتِعْدادِهِ. والإلْهامُ أثَرُ الوَحْيِ فَإنَّ الوَحْيَ هو تَصْرِيحُ الأمْرِ الغَيْبِيِّ. والإلْهامُ هو تَعْرِيضُهُ. والعِلْمُ الحاصِلُ عَنِ الوَحْيِ يُسَمّى عِلْمًا نَبَوِيًّا. والَّذِي عَنِ الإلْهامِ يُسَمّى عِلْمًا لَدُنِّيًّا. والعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ هو الَّذِي لا واسِطَةَ في حُصُولِهِ بَيْنَ النَّفْسِ وبَيْنَ البارِّي. وإنَّما هو كالضَّوْءِ مِن سِراجِ الغَيْبِ يَقَعُ عَلى قَلْبٍ صافٍ فارِغٍ لَطِيفٍ. وذَلِكَ أنَّ العُلُومَ كُلَّها مَحْصُولَةٌ في جَوْهَرِ النَّفْسِ الكُلِّيِّ الأوَّلِيِّ الَّذِي هو مِنَ الجَواهِرِ المُفارِقَةِ الأوَّلِيَّةِ المَحْضَةِ، بِالنِّسْبَةِ إلى العَقْلِ الأوَّلِ كَنِسْبَةِ حَوّاءَ إلى آدَمَ عَلَيْهِما السَّلامُ. وقَدْ تَبَيَّنَ أنَّ العَقْلَ الكُلِّيَّ أشْرَفُ وأكْمَلُ وأقْوى وأقْرَبُ إلى البارِئِ تَعالى مِنَ النَّفْسِ الكُلِّيِّ. والنَّفْسُ الكُلِّيِّ أعَزُّ وأشْرَفُ مِن سائِرِ المَخْلُوقاتِ. فَمِن إفاضَةِ العَقْلِ الكُلِّيِّ يَتَوَلَّدُ الإلْهامُ. فالوَحْيُ حِلْيَةُ الأنْبِياءِ، والإلْهامُ زِينَةُ الأوْلِياءِ. فَكَما أنَّ النَّفْسَ دُونَ العَقْلِ، فالوَحْيُ دُونَ النَّبِيِّ. وكَذَلِكَ الإلْهامُ دُونَ الوَحْيِ. فَهو ضَعِيفٌ بِنِسْبَةِ الوَحْيِ، قَوِيَ بِإضافَةِ الرُّؤْيا. والإلْهامُ عِلْمُ الأنْبِياءِ والأوْلِياءِ. فَإنَّ عِلْمَ الوَحْيِ خاصٌّ بِالرُّسُلِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِمْ. كَما كانَ لِآدَمَ ومُوسى وإبْراهِيمَ ومُحَمَّدٍ وغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وفَرَّقَ بَيْنَ الرِّسالَةِ والنُّبُوَّةِ. فالنُّبُوَّةُ هي قَبُولُ النَّفْسِ القُدْسِيِّ حَقائِقَ المَعْلُوماتِ والمَعْقُولاتِ عَنْ جَوْهَرِ العَقْلِ الأوَّلِ. والرِّسالَةُ تَبْلِيغُ تِلْكَ المَعْلُوماتِ والمَعْقُولاتِ إلى المُسْتَفِيدِينَ والمُتابِعِينَ. ورُبَّما يَتَّفِقُ القَبُولُ لِنَفْسٍ مِنَ النُّفُوسِ، ولا يَتَأتّى لَها التَّبْلِيغُ لِعُذْرٍ مِنَ الأعْذارِ وسَبَبٍ مِنَ الأسْبابِ. والعِلْمُ اللَّدُنِّيُّ يَكُونُ لِأهْلِ النُّبُوَّةِ والوِلايَةِ، كَما حَصَلَ لِلْخِضْرِ عَلَيْهِ السَّلامُ حَيْثُ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى فَقالَ: ﴿وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ [الكهف: ٦٥] ثُمَّ قالَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: فَإذا أرادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا رَفَعَ الحِجابَ بَيْنَ نَفْسِهِ وبَيْنَ النَّفْسِ الكُلِّيِّ الَّذِي هو اللَّوْحُ. فَيَظْهَرُ فِيها أسْرارُ بَعْضِ المُكَوِّناتِ. ويَنْتَقِشُ فِيها مَعانِي تِلْكَ المُكَوِّناتِ. فَيُعَبِّرُ النَّفْسُ عَنْها كَما يَشاءُ إلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ. (p-٤٠٩٨)وحَقِيقَةُ الحِكْمَةِ تَنالُ مِنَ العِلْمِ اللَّدُنِّيِّ. وما لَمْ تَبْلُغِ النَّفْسُ هَذِهِ الرُّتْبَةَ لا يَكُونُ حَكِيمًا. لِأنَّ الحِكْمَةَ مِن مَواهِبِ اللَّهِ تَعالى: و: ﴿يُؤْتِي الحِكْمَةَ مَن يَشاءُ﴾ [البقرة: ٢٦٩] مِن عِبادِهِ: ﴿ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وما يَذَّكَّرُ إلا أُولُو الألْبابِ﴾ [البقرة: ٢٦٩] وهُمُ الواصِلُونَ مَرْتَبَةَ العِلْمِ اللَّدُنِّيِّ، المُسْتَغْنُونَ عَنْ كَثْرَةِ التَّحْصِيلِ وتَعَبِ التَّعَلُّمِ. فَيَتَعَلَّمُونَ قَلِيلًا ويَعْلَمُونَ كَثِيرًا، ويَتْعَبُونَ يَسِيرًا ويَسْتَرِيحُونَ طَوِيلًا. ثُمَّ قالَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: اعْلَمْ أنَّ العِلْمَ اللَّدُنِّيَّ هو سَرَيانُ نُورِ الإلْهامِ. والإلْهامُ يَكُونُ بَعْدَ التَّسْوِيَةِ. كَما قالَ تَعالى: ﴿ونَفْسٍ وما سَوّاها﴾ [الشمس: ٧] والتَّسْوِيَةُ تَصْحِيحُ النَّفْسِ والرُّجُوعُ إلى فِطْرَتِها. وهَذا الرُّجُوعُ يَكُونُ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: تَحْصِيلُ جَمِيعِ العُلُومِ وأخْذُ الحَظِّ الأوْفَرِ مِن أكْثَرِها. والثّانِي: الرِّياضَةُ الصّادِقَةُ والمُراقَبَةُ الصَّحِيحَةُ. فَإنَّ النَّبِيَّ ﷺ أشارَ إلى هَذِهِ الحَقِيقَةِ فَقالَ: ««مَن عَمِلَ بِما عَلِمَ، أوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ ما لَمْ يَعْلَمْ»» . والثّالِثُ: التَّفَكُّرُ. فَإنَّ النَّفْسَ، إذا تَعَلَّمَتْ وارْتاضَتْ بِالعِلْمِ والعَمَلِ، ثُمَّ أخَذَتْ تَتَفَكَّرُ بِمَعْلُوماتِها، بِشَرْطِ التَّفَكُّرِ، يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ بابُ الغَيْبِ. كالتّاجِرِ الَّذِي يَتَصَرَّفُ في مالِهِ بِشَرْطِ التِّجارَةِ، يَنْفَتِحُ عَلَيْهِ أبْوابُ الرِّبْحِ. وإذا سَلَكَ طَرِيقَ الخَطَأِ يَقَعُ في مَهالِكِ الخُسْرانِ. فالمُتَفَكِّرُ إذا سَلَكَ سَبِيلَ الصَّوابِ يَصِيرُ مِن ذَوِي الألْبابِ، وتَنْفَتِحُ رَوْزَنَةٌ مِن عالِمِ الغَيْبِ في قَلْبِهِ فَيَصِيرُ عالِمًا كامِلًا عاقِلًا مُلْهَمًا مُؤَيَّدًا. كَما قالَ ﷺ: ««تَفَكُّرُ ساعَةٍ خَيْرٌ مِن عِبادَةِ سَبْعِينَ سَنَةً»» انْتَهى مُلَخَّصًا. وفِي خِلالِ كَلامِهِ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، جُمَلٌ مِن إشاراتِ الصُّوفِيَّةِ وعِباراتِهِمْ. ولا يَأْباها العَقْلُ (p-٤٠٩٩)السَّلِيمُ ولا قَواعِدُ العِلْمِ الظّاهِرِ. لِأنَّها في هَذِهِ المَثابَةِ بِدَرَجَةِ الِاعْتِدالِ والتَّوَسُّطِ. كَذَلِكَ كانَ مَشْرَبُهُ قَدَّسَ اللَّهُ سِرَّهُ. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب