الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٧٩] ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ . ﴿ومِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ﴾ أمْرٌ لَهُ بِصَلاةِ اَللَّيْلِ، إثْرَ أمْرِهِ بِالصَّلَواتِ اَلْخَمْسِ وفي: { مِن } وجْهانِ: أحَدُهُما: أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِـ (تَهَجُّدْ) أيْ: تَهَجَّدْ بِالقُرْآنِ بَعْضَ اَللَّيْلِ. والثّانِي: أنَّها مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ عُطِفَ عَلَيْهِ (فَتَهَجَّدْ) أيْ: قُمْ مِنَ اَللَّيْلِ، أيْ: في بَعْضِهِ فَتَهَجَّدْ بِالقُرْآنِ. والتَّهَجُّدُ تَرْكُ اَلْهُجُودِ وهو اَلنَّوْمُ، و(تَفَعَّلَ) يَأْتِي لِلسَّلْبِ: كَـ (تَأثَّمَ وتَحَرَّجَ) بِمَعْنى تَرَكَ اَلْإثْمَ والحَرَجَ. قالَ اَلْأزْهَرِيُّ: اَلْمَعْرُوفُ في كَلامِ اَلْعَرَبِ أنَّ اَلْهاجِدَ اَلنّائِمُ. وأمّا اَلْمُتَهَجِّدُ فَهو اَلْقائِمُ إلى اَلصَّلاةِ مِنَ اَلنَّوْمِ. وكَأنَّهُ قِيلَ لَهُ: (مُتَهَجِّدٌ) لِإلْقائِهِ اَلْهُجُودَ عَنْ نَفْسِهِ، كَما يُقالُ لِلْعابِدِ (مُتَحَنِّثٌ) لِإلْقائِهِ اَلْحِنْثَ عَنْ نَفْسِهِ. اِنْتَهى. (p-٣٩٦٩)ونُقِلَ عَنِ اِبْنِ فارِسٍ: أنَّ مَعْناهُ: صَلِّ لَيْلًا. وكَذا عَنِ اِبْنِ اَلْأعْرابِيِّ قالَ: هَجَدَ اَلرَّجُلُ وتَهَجَّدَ، إذا صَلّى بِاللَّيْلِ. والمَعْرُوفُ اَلْأوَّلُ. والضَّمِيرُ في (بِهِ) لِلْقُرْآنِ مِن حَيْثُ هو، لا بِقَيْدِ إضافَتِهِ إلى اَلْفَجْرِ، أوْ لِلْبَعْضِ اَلْمَفْهُومِ مِن (مِن) والباءُ بِمَعْنى (في) أيْ: تَهَجَّدْ في ذَلِكَ اَلْبَعْضِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿نافِلَةً لَكَ﴾ أيْ: عِبادَةً زائِدَةٌ لَكَ عَلى اَلصَّلَواتِ اَلْخَمْسِ. قالَ اَلزَّمَخْشَرِيُّ: وضَعَ (نافِلَةً) مَوْضِعَ ( تَهَجُّدًا) لِأنَّ اَلتَّهَجُّدَ عِبادَةٌ زائِدَةٌ. فَكانَ اَلتَّهَجُّدُ والنّافِلَةُ يَجْمَعُهُما مَعْنًى واحِدٌ. والمَعْنى: أنَّ اَلتَّهَجُّدَ زِيدَ لَكَ عَلى اَلصَّلَواتِ اَلْمَفْرُوضَةِ، فَرِيضَةً عَلَيْكَ خاصَّةً دُونَ غَيْرِكَ؛ لِأنَّهُ تَطَوُّعٌ لَهُمُ. اِنْتَهى. قالَ أبُو اَلسُّعُودِ: ولَعَلَّهُ هو اَلْوَجْهُ في تَأْخِيرِ ذِكْرِها عَنْ ذِكْرِ صَلاةِ اَلْفَجْرِ، مَعَ تَقَدُّمِ وقْتِها عَلى وقْتِها. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ أيْ: يَحْمَدُهُ اَلْقائِمُ فِيهِ وكُلُّ مَن رَآهُ وعَرَفَهُ. وهو مُطْلَقٌ في كُلِّ ما يَجْلِبُ اَلْحَمْدَ مِن أنْواعِ اَلْكَراماتِ. والمَشْهُورُ أنَّهُ مَقامُ اَلشَّفاعَةِ اَلْعُظْمى؛ لِلْفَصْلِ بَيْنَ اَلْخَلائِقِ اَلَّذِي يَحْمَدُهُ فِيهِ اَلْأوَّلُونَ والآخِرُونَ. كَما ورَدَتْ بِهِ اَلْأخْبارُ اَلصَّحِيحَةُ. ومَعْنى اَلنَّظْمِ اَلْكَرِيمِ عَلى هَذا: كَما اِنْبَعَثْتَ مِنَ اَلنَّوْمِ اَلَّذِي هو اَلْمَوْتُ اَلْأصْغَرُ، بِالصَّلاةِ والعِبادَةِ، فَسَيَبْعَثُكَ رَبُّكَ مِن بَعْدِ اَلْمَوْتِ اَلْأكْبَرِ، مَقامًا مَحْمُودًا عِنْدَكَ وعِنْدَ جَمِيعِ اَلنّاسِ. وفِيهِ تَهْوِينٌ لِمَشَقَّةِ قِيامِ اَللَّيْلِ. أشارَ لَهُ أبُو اَلسُّعُودِ. تَنْبِيهٌ: قالَ اِبْنُ جَرِيرٍ: ذَهَبَ آخَرُونَ إلى أنَّ ذَلِكَ اَلْمَقامَ اَلْمَحْمُودَ، اَلَّذِي وعَدَ اَللَّهُ نَبِيَّهُ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنْ يَبْعَثَهُ إيّاهُ، هو أنْ يُجْلِسَهُ مَعَهُ عَلى عَرْشِهِ. رَواهُ لَيْثٌ عَنْ مُجاهِدٍ. وقَدْ شَنَّعَ اَلْواحِدِيُّ عَلى اَلْقائِلِ بِهِ، مَعَ أنَّهُ رَواهُ عَنِ اِبْنِ مَسْعُودٍ أيْضًا. وعِبارَتُهُ - عَلى ما نَقَلَها اَلرّازِيُّ -: (p-٣٩٧٠)وهَذا قَوْلٌ رَذْلٌ مُوحِشٌ فَظِيعٌ، ونَصُّ اَلْكِتابِ يُنادِي بِفَسادِ هَذا اَلتَّفْسِيرِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: اَلْأوَّلُ: أنَّ اَلْبَعْثَ ضِدُّ اَلْإجْلاسِ، يُقالُ: بَعَثْتُ اَلنّازِلَ والقاعِدَ فانْبَعَثَ، ويُقالُ: بَعَثَ اَللَّهُ اَلْمَيِّتَ، أيْ: أقامَهُ مِن قَبْرِهِ. فَتَفْسِيرُ اَلْبَعْثِ بِالإجْلاسِ تَفْسِيرٌ لِلضِّدِّ بِالضِّدِّ وهو فاسِدٌ. اَلثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿مَقامًا مَحْمُودًا﴾ ولَمْ يَقُلْ مَقْعَدًا. والمَقامُ مَوْضِعُ اَلْقِيامِ لا مَوْضِعُ اَلْقُعُودِ. اَلثّالِثُ: لَوْ كانَ تَعالى جالِسًا عَلى اَلْعَرْشِ، بِحَيْثُ يَجْلِسُ عِنْدَهُ مُحَمَّدٌ عَلَيْهِ اَلصَّلاةُ والسَّلامُ لَكانَ مَحْدُودًا مُتَناهِيًا. ومَن كانَ كَذَلِكَ فَهو مُحْدَثٌ. اَلرّابِعُ: يُقالُ: إنَّ جُلُوسَهُ مَعَ اَللَّهِ عَلى اَلْعَرْشِ لَيْسَ فِيهِ كَثِيرُ إعْزازٍ؛ لِأنَّ هَؤُلاءِ اَلْجُهّالَ والحَمْقى يَقُولُونَ (في كُلِّ أهْلِ اَلْجَنَّةِ): إنَّهم يَزُورُونَ اَللَّهَ تَعالى وإنَّهم يَجْلِسُونَ مَعَهُ وإنَّهُ تَعالى يَسْألُهم عَنْ أحْوالِهِمُ اَلَّتِي كانُوا عَلَيْها في اَلدُّنْيا، وإذا كانَتْ هَذِهِ اَلْحالَةُ حاصِلَةً عِنْدَهم لِكُلِّ اَلْمُؤْمِنِينَ، لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ مُحَمَّدٍ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِها مَزِيدُ شَرَفٍ ورُتْبَةٍ. اَلْخامِسُ: أنَّهُ إذا قِيلَ: اَلسُّلْطانُ بَعَثَ فُلانًا، فُهِمَ مِنهُ أنَّهُ أرْسَلَهُ إلى قَوْمٍ لِإصْلاحِ مُهِمّاتِهِمْ. ولا يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ أجْلَسَهُ مَعَ نَفْسِهِ. فَثَبَتَ أنَّ هَذا اَلْقَوْلَ كَلامٌ رَذْلٌ سَقْطٌ، لا يَمِيلُ إلَيْهِ إلّا إنْسانٌ قَلِيلُ اَلْعَقْلِ عَدِيمُ اَلدِّينِ. اِنْتَهى كَلامُ اَلْواحِدِيِّ. ولَيْتَهُ اِطَّلَعَ عَلى ما كَتَبَهُ اِبْنُ جَرِيرٍ حَتّى يُمْسِكَ مِن جِماحٍ يُراعِهِ، ويُبْصِرَ اَلْأدَبَ مَعَ اَلسَّلَفِ مَعَ اَلْمَخارِجِ اَلْعِلْمِيَّةِ لَهم. وهاكَ ما قالَهُ اِبْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اَللَّهُ (بَعْدَ ما نَقَلَ عَنْ مُجاهِدٍ قَوْلَهُ اَلْمُتَقَدِّمَ): وأوْلى اَلْقَوْلَيْنِ بِالصَّوابِ، ما صَحَّ بِهِ اَلْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ مَقامُ اَلشَّفاعَةِ - ثُمَّ قالَ -: وهَذا وإنْ كانَ هو اَلصَّحِيحَ في اَلْقَوْلِ، في تَأْوِيلِ اَلْمَقامِ اَلْمَحْمُودِ، لِما ذَكَرْنا مِنَ اَلرِّوايَةِ عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأصْحابِهِ والتّابِعِينَ. فَإنَّ ما قالَهُ مُجاهِدٌ مِن أنَّ اَللَّهَ يُقْعِدُ مُحَمَّدًا صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى عَرْشِهِ، قَوْلٌ غَيْرُ مَدْفُوعٍ صِحَّتُهُ. لا مِن جِهَةِ خَبَرٍ ولا نَظَرٍ. وذَلِكَ لِأنَّهُ لا خَبَرَ (p-٣٩٧١)عَنْ رَسُولِ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ولا عَنْ أحَدٍ مِن أصْحابِهِ، ولا عَنِ اَلتّابِعِينَ، بِإحالَةِ ذَلِكَ. فَأمّا مِن جِهَةِ اَلنَّظَرِ فَإنَّ جَمِيعَ مَن يَنْتَحِلُ اَلْإسْلامَ، إنَّما اِخْتَلَفُوا في مَعْنى ذَلِكَ عَلى أوْجُهٍ ثَلاثَةٍ: فَقالَتْ فِرْقَةٌ مِنهُمُ: اَللَّهُ عَزَّ وجَلَّ بائِنٌ مِن خَلْقِهِ، كانَ قَبْلَ خَلْقِهِ اَلْأشْياءَ، ثُمَّ خَلَقَ اَلْأشْياءَ فَلَمْ يُماسَّها، وهو كَما لَمْ يَزَلْ، غَيْرَ أنَّ اَلْأشْياءَ اَلَّتِي خَلَقَها، إذا لَمْ يَكُنْ هو لَها مُماسًّا، وجَبَ أنْ يَكُونَ لَها مُبايِنًا؛ إذْ لا فِعالٌ لِلْأشْياءِ إلّا وهو مُماسٌّ لِلْأجْسامِ أوْ مُبايِنٌ لَها. قالُوا: فَإذا كانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وكانَ اَللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فاعِلُ اَلْأشْياءِ، ولَمْ يَجُزْ في قَوْلِهِمْ إنَّهُ يُوصَفُ بِأنَّهُ مُماسٌّ لِلْأشْياءِ، وجَبَ بِزَعْمِهِمْ أنَّهُ لَها مُبايِنٌ. فَعَلى مَذْهَبِ هَؤُلاءِ سَواءٌ أقَعَدَ مُحَمَّدًا صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى عَرْشِهِ أوْ عَلى اَلْأرْضِ (إذْ كانَ مِن قَوْلِهِمْ: إنَّ بَيْنُونَتَهُ مِن عَرْشِهِ وبَيْنُونَتَهُ مِن أرْضِهِ بِمَعْنًى واحِدٍ، في أنَّهُ بائِنٌ مِنهُما كِلَيْهِما غَيْرُ مُماسٍّ لِواحِدٍ مِنهُما) . وقالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرى: كانَ اَللَّهُ تَعالى ذِكْرُهُ قَبْلَ خَلْقِهِ اَلْأشْياءَ لا شَيْءَ يُماسُّهُ ولا شَيْءَ يُبايِنُهُ، ثُمَّ خَلَقَ اَلْأشْياءَ فَأقامَها بِقُدْرَتِهِ، وهو كَما لَمْ يَزَلْ قَبْلَ خَلْقِهِ اَلْأشْياءَ، لا شَيْءَ يُماسُّهُ ولا شَيْءَ يُبايِنُهُ. فَعَلى قَوْلِ هَؤُلاءِ أيْضًا: سَواءٌ أقْعَدَ مُحَمَّدًا صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى عَرْشِهِ أوْ عَلى أرْضِهِ ) إذْ كانَ سَواءٌ عَلى قَوْلِهِمْ: عَرْشُهُ وأرْضُهُ، في أنَّهُ لا مُماسَّ ولا مُبايِنَ لِهَذا، كَما أنَّهُ لا مُماسَّ ولا مُبايِنَ لِهَذِهِ ) . وقالَتْ فِرْقَةٌ أُخْرى: كانَ اَللَّهُ عَزَّ ذِكْرُهُ قَبْلَ خَلْقِهِ اَلْأشْياءَ لا شَيْءَ يُماسُّهُ ولا شَيْءَ يُبايِنُهُ، ثُمَّ أحْدَثَ اَلْأشْياءَ وخَلَقَها، فَخَلَقَ لِنَفْسِهِ عَرْشًا اِسْتَوى عَلَيْهِ جالِسًا وصارَ لَهُ مُماسًّا، كَما أنَّهُ قَدْ كانَ قَبْلَ خَلْقِهِ اَلْأشْياءَ لا شَيْءَ يَرْزُقُهُ رِزْقًا ولا شَيْءَ يَحْرِمُهُ ذَلِكَ. ثُمَّ خَلَقَ اَلْأشْياءَ فَرَزَقَ هَذا وحَرَمَ هَذا وأعْطى هَذا ومَنَعَ هَذا. قالُوا: فَكَذَلِكَ كانَ قَبْلَ خَلْقِهِ اَلْأشْياءَ، لا شَيْءَ يُماسُّهُ ولا يُبايِنُهُ. وخَلَقَ اَلْأشْياءَ فَماسَّ اَلْعَرْشَ بِجُلُوسِهِ عَلَيْهِ دُونَ سائِرِ خَلْقِهِ، فَهو مُماسٌّ ما شاءَ مِن خَلْقِهِ ومُبايِنٌ ما شاءَ مِنهُ. فَعَلى مَذْهَبِ هَؤُلاءِ أيْضًا سَواءٌ أقْعَدَ مُحَمَّدًا عَلى عَرْشِهِ أوْ أقْعَدَهُ عَلى مِنبَرٍ مِن نُورٍ، إذْ كانَ مِن قَوْلِهِمْ: أنَّ جُلُوسَ اَلرَّبِّ عَلى عَرْشِهِ لَيْسَ بِجُلُوسٍ يَشْغَلُ جَمِيعَ اَلْعَرْشِ، ولا في إقْعادِ مُحَمَّدٍ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُوجِبًا لَهُ صِفَةَ اَلرُّبُوبِيَّةِ، ولا مُخْرِجَهُ مِن صِفَةِ اَلْعُبُودِيَّةِ لِرَبِّهِ. كَما أنَّ مُبايَنَةَ مُحَمَّدٍ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ ما كانَ (p-٣٩٧٢)مُبايِنًا لَهُ مِنَ اَلْأشْياءِ، غَيْرَ مُوجِبَةٍ لَهُ صِفَةَ اَلرُّبُوبِيَّةِ ولا مُخْرِجَتَهُ مِن صِفَةِ اَلْعُبُودِيَّةِ لِرَبِّهِ. مِن أجْلِ أنَّهُ مَوْصُوفٌ بِأنَّهُ مُبايِنٌ لَهُ، كَما أنَّ اَللَّهَ عَزَّ وجَلَّ مَوْصُوفٌ - عَلى قَوْلِ قائِلِ هَذِهِ اَلْمَقالَةِ بِأنَّهُ مُبايِنٌ لَها. هو مُبايِنٌ لَهُ. قالُوا: فَإذا كانَ مَعْنى (مُبايِنٌ ومُبايِنٌ) لا يُوجِبُ لِمُحَمَّدٍ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ اَلْخُرُوجَ مِن صِفَةِ اَلْعُبُودِيَّةِ، والدُّخُولَ في مَعْنى اَلرُّبُوبِيَّةِ فَكَذَلِكَ لا يُوجِبُ لَهُ ذَلِكَ قُعُودَهُ عَلى عَرْشِ اَلرَّحْمَنِ. فَقَدْ تَبَيَّنَ إذًا بِما قُلْنا أنَّهُ غَيْرُ مُحالٍ في قَوْلِ أحَدٍ مِمَّنْ يَنْتَحِلُ اَلْإسْلامَ ما قالَهُ مُجاهِدٌ، مِن أنَّ اَللَّهَ تَبارَكَ وتَعالى يُقْعِدُ مُحَمَّدًا عَلى عَرْشِهِ، فَإنْ قالَ قائِلٌ: فَإنّا لا نُنْكِرُ إقْعادَ اَللَّهِ مُحَمَّدًا عَلى عَرْشِهِ، وإنَّما نُنْكِرُ إقْعادَهُ مَعَهُ. (حَدَّثَنِي ) عَبّاسُ بْنُ عَبْدِ اَلْعَظِيمِ قالَ: حَدَّثَنا يَحْيى بْنُ كَثِيرٍ عَنِ اَلْجَرِيرِيِّ، عَنْ سَيْفٍ اَلسُّدُوسِيِّ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ سَلامٍ قالَ: إنَّ مُحَمَّدًا صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَوْمَ اَلْقِيامَةِ، عَلى كُرْسِيِّ اَلرَّبِّ، بَيْنَ يَدَيِ اَلرَّبِّ تَبارَكَ وتَعالى. وإنَّما يُنْكِرُ إقْعادَهُ إيّاهُ مَعَهُ. قِيلَ: أفَجائِزٌ عِنْدَكَ أنْ يُقْعِدَهُ عَلَيْهِ لا مَعَهُ ؟ فَإنْ أجازَ ذَلِكَ صارَ إلى اَلْإقْرارِ بِأنَّهُ إمّا مَعَهُ أوْ إلى أنَّهُ يُقْعِدُهُ، واَللَّهُ لِلْعَرْشِ مُبايِنٌ، أوْ لا مُماسٌّ ولا مُبايِنٌ، وبِأيِّ ذَلِكَ قالَ، كانَ مِنهُ دُخُولًا في بَعْضِ ما كانَ يُنْكِرُهُ. وإنْ قالَ: ذَلِكَ غَيْرُ جائِزٍ مِنهُ، خُرُوجًا مِن قَوْلِ جَمِيعِ اَلْفِرَقِ اَلَّتِي حَكَيْنا قَوْلَهم، وذَلِكَ فِراقٌ لِقَوْلِ جَمِيعِ مَن يَنْتَحِلُ اَلْإسْلامَ؛ إذْ كانَ لا قَوْلَ في ذَلِكَ إلّا اَلْأقْوالُ اَلثَّلاثَةُ اَلَّتِي حَكَيْناها. وغَيْرُ مُحالٍ في قَوْلٍ مِنها ما قالَ مُجاهِدٌ في ذَلِكَ. اِنْتَهى كَلامُ اِبْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اَللَّهُ. وأقُولُ: لَكَ أنْ تُجِيبَ أيْضًا عَنْ إيراداتِ اَلْواحِدِيِّ اَلْخَمْسَةِ، اَلَّتِي أفْسَدَ بِها قَوْلَ مُجاهِدٍ. أمّا جَوابُ إيرادِهِ اَلْأوَّلِ، فَإنَّ مُجاهِدًا لَمْ يُفَسِّرْ مادَّةَ اَلْبَعْثِ وحْدَها بِالإجْلاسِ. وإنَّما فَسَّرَ بَعْثَهُ اَلْمَقامَ اَلْمَحْمُودَ بِما ذَكَرَ. وعَنِ اَلثّانِي: بِأنَّ اَلْمَقامَ هو اَلْمَنزِلَةُ والقُدْرَةُ والرِّفْعَةُ، مَعْرُوفٌ ذَلِكَ في اَللُّغَةِ. وعَنِ اَلثّالِثِ: بِدَفْعِ اَللّازِمِ اَلْمَذْكُورِ؛ لِأنَّهُ كَما اِتُّفِقَ عَلى أنَّ لَهُ ذاتًا لا تُماثِلُها اَلذَّواتُ، فَكَذَلِكَ كُلُّ ما يُوصَفُ بِهِ مِمّا ورَدَ في اَلْكِتابِ والآثارِ فَإنَّهُ لا يُماثِلُ اَلصِّفاتِ، ولا يَجُوزُ قِياسُ اَلْخالِقِ عَلى اَلْمَخْلُوقِ. (p-٣٩٧٣)وعَنِ اَلرّابِعِ: بِأنَّهُ مُكابَرَةٌ؛ إذْ كُلَّ أحَدٍ يَعْرِفُ - في اَلشّاهِدِ - لَوْ أنَّ مَلِكًا اِسْتَدْعى جَماعَةً لِلْحُضُورِ لَدَيْهِ، ورَفَعَ أفْضَلَهم عَلى عَرْشِهِ، أنَّ اَلْمَرْفُوعَ ذُو مَقامٍ يَفُوقُ بِهِ اَلْكُلَّ. وعَنِ اَلْخامِسِ: بِأنَّهُ مِن وادٍ آخَرَ غَيْرَ ما نَحْنُ فِيهِ؛ إذْ لا بَعْثَ لِإصْلاحِ اَلْمُهِمّاتِ في اَلْآخِرَةِ، وإنَّما مَعْنى اَلْآيَةِ: إنَّهُ يَرْفَعُكَ مَقامًا مَحْمُودًا. وذَلِكَ يُصَدِّقُ عَلى ما قالَهُ مُجاهِدٌ وما قالَ اَلْأكْثَرُ. فَتَأمَّلْ وأنْصِفْ. وقَدْ أنْشَدَ اَلْحافِظُ اَلذَّهَبِيُّ في كِتابِهِ " اَلْعُلُوِّ لِلَّهِ اَلْعَظِيمِ " لِلْإمامِ الدّارَقُطْنِيِّ في تَرْجَمَتِهِ، قَوْلُهُ: ؎حَدِيثُ اَلشَّفاعَةِ في أحْمَدَ إلى أحْمَدَ اَلْمُصْطَفى نُسْنِدُهْ ؎وأمّا حَدِيثٌ بِإقْعادِهِ ∗∗∗ عَلى اَلْعَرْشِ أيْضًا فَلا نَجْحَدُهْ ؎أمِرُّوا اَلْحَدِيثَ عَلى وجْهِهِ ∗∗∗ ولا تُدْخِلُوا فِيهِ ما يُفْسِدُهْ وقالَ اَلذَّهَبِيُّ في كِتابِهِ اَلْمُنَوَّهِ بِهِ، في تَرْجَمَةِ (مُحَمَّدِ بْنِ مُصْعَبٍ) اَلْعابِدِ شَيْخِ بَغْدادَ ما مِثالُهُ: وقالَ المَرْوَذِيُّ: سَمِعْتُ أبا عَبْدِ اَللَّهِ اَلْخَفّافَ. سَمِعْتُ اِبْنَ مُصْعَبٍ وتَلا: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ قالَ: نَعَمْ يُقْعِدُهُ عَلى اَلْعَرْشِ. ذَكَرَ اَلْإمامُ أحْمَدُ، مُحَمَّدَ بْنَ مُصْعَبٍ فَقالَ: قَدْ كَتَبْتُ عَنْهُ. وأيُّ رَجُلٍ هو ؟ ! قالَ اَلذَّهَبِيُّ: فَأمّا قَضِيَّةُ قُعُودِ نَبِيِّنا عَلى اَلْعَرْشِ، فَلَمْ يَثْبُتْ في ذَلِكَ نَصٌّ، بَلْ في اَلْبابِ حَدِيثٌ واهٍ. وما فَسَّرَ بِهِ مُجاهِدٌ اَلْآيَةَ، كَما ذَكَرْناهُ. فَقَدْ أنْكَرَهُ بَعْضُ أهْلِ اَلْكَلامِ. فَقامَ المَرْوَذِيُّ وقَدْ بالَغَ في اَلِانْتِصارِ لِذَلِكَ وجَمَعَ فِيهِ كِتابًا وطُرُقَ قَوْلِ مُجاهِدٍ، مِن رِوايَةِ لَيْثِ بْنِ أبِي سُلَيْمٍ، وعَطاءِ بْنِ اَلسّائِبِ، وأبِي يَحْيى اَلْقَتّاتِ وجابِرِ بْنِ يَزِيدَ. ومِمَّنْ أفْتى في ذَلِكَ اَلْعَصْرِ، بِأنَّ هَذا اَلْأثَرَ يَسْلَمُ ولا يُعارَضُ. أبُو داوُدَ اَلسِّجِسْتانِيُّ صاحِبُ اَلسُّنَنِ وإبْراهِيمُ اَلْحَرْبِيُّ وخَلْقٌ. بِحَيْثُ إنَّ اِبْنَ اَلْإمامِ أحْمَدَ قالَ عُقَيْبَ قَوْلِ مُجاهِدٍ: أنا مُنْكِرٌ عَلى كُلِّ مَن رَدَّ هَذا اَلْحَدِيثَ. وهو عِنْدِي رَجُلُ سَوْءٍ مُتَّهَمٌ. سَمِعْتُهُ مِن جَماعَةٍ. وما رَأيْتُ مُحَدِّثًا يُنْكِرُهُ. وعِنْدَنا إنَّما تُنْكِرُهُ الجَهْمِيَّةُ. وقَدْ حَدَّثَنا هارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ ثَنا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿عَسى أنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقامًا مَحْمُودًا﴾ (p-٣٩٧٤)قالَ: يُعْقِدُهُ عَلى اَلْعَرْشِ. فَحَدَّثْتُ بِهِ أبِي رَحِمَهُ اَللَّهُ فَقالَ: لَمْ يُقَدَّرْ لِي أنْ أسْمَعَهُ مِنِ اِبْنِ فُضَيْلٍ: بِحَيْثُ إنَّ المَرْوَذِيَّ رَوى حِكايَةً بِنُزُولٍ، عَنْ إبْراهِيمَ بْنِ عَرَفَةَ. وسَمِعْتُ اِبْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ أحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ يَقُولُ: هَذا قَدْ تَلَقَّتْهُ اَلْعُلَماءُ بِالقَبُولِ. وقالَ المَرْوَذِيُّ: قالَ أبُو داوُدَ اَلسِّجِسْتانِيُّ: ثَنا اِبْنُ أبِي صَفْوانَ اَلثَّقَفِيُّ، ثَنا يَحْيى بْنُ أبِي كَثِيرٍ، ثَنا سَلْمُ بْنُ جَعْفَرٍ، وكانَ ثِقَةً، ثَنا اَلْجَرِيرِيُّ، ثَنا سَيْفٌ اَلسُّدُوسِيُّ عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ سَلامٍ، قالَ: إذا كانَ يَوْمُ اَلْقِيامَةِ جِيءَ بِنَبِيِّكم صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ حَتّى يَجْلِسَ بَيْنَ يَدَيِ اَللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَلى كُرْسِيِّهِ. اَلْحَدِيثَ. وقَدْ رَواهُ اِبْنُ جَرِيرٍ في تَفْسِيرِهِ. (أعْنِي قَوْلَ مُجاهِدٍ) وكَذَلِكَ أخْرَجَهُ اَلنَّقّاشُ في تَفْسِيرِهِ. وكَذَلِكَ رَدَّ شَيْخُ اَلشّافِعِيَّةِ اِبْنُ سُرَيْجٍ عَلى مَن أنْكَرَهُ. بِحَيْثُ إنَّ اَلْإمامَ أبا بَكْرٍ اَلْخَلّالَ قالَ في كِتابِ (اَلسُّنَّةِ) مِن جَمْعِهِ: أخْبَرَنِي اَلْحَسَنُ بْنُ صالِحٍ اَلْعَطّارُ. عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ اَلسَّرّاجِ. قالَ: رَأيْتُ اَلنَّبِيَّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ في اَلنَّوْمِ فَقُلْتُ: إنَّ فُلانًا اَلتِّرْمِذِيَّ يَقُولُ: إنَّ اَللَّهَ لا يُقْعِدُكَ مَعَهُ عَلى اَلْعَرْشِ. ونَحْنُ نَقُولُ: بَلْ يُقْعِدُكَ، فَأقْبَلَ عَلَيَّ شِبْهَ اَلْمُغْضَبِ وهو يَقُولُ: بَلى، واَللَّهِ ! بَلى، واَللَّهِ ! يُقْعِدُنِي عَلى اَلْعَرْشِ. فانْتَبَهْتُ. بِحَيْثُ إنَّ اَلْفَقِيهَ أبا بَكْرٍ أحْمَدَ بْنَ سُلَيْمانَ اَلنَّجّادَ اَلْمُحَدِّثَ قالَ (فِيما نَقَلَهُ عَنْهُ اَلْقاضِي أبُو يَعْلى اَلْفَرّاءُ): لَوْ أنَّ حالِفًا حَلَفَ بِالطَّلاقِ ثَلاثًا؛ إنَّ اَللَّهَ يُقْعِدُ مُحَمَّدًا صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلى اَلْعَرْشِ. واسْتَفْتانِي، لَقُلْتُ لَهُ: صَدَقْتَ وبَرَرْتَ. قالَ اَلذَّهَبِيُّ: فَأبْصِرْ، حَفِظَكَ اَللَّهُ مِنَ اَلْهَوى، كَيْفَ آلَ اَلْغُلُوُّ بِهَذا اَلْمُحَدِّثِ إلى وُجُوبِ اَلْأخْذِ بِأثَرٍ مُنْكَرٍ. واليَوْمَ يَرِدُونَ اَلْأحادِيثَ اَلصَّرِيحَةَ في اَلْعُلُوِّ. بَلْ يُحاوِلُ بَعْضُ اَلطُّغّامِ أنْ يَرُدَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلى العَرْشِ اسْتَوى﴾ [طه: ٥] اِنْتَهى. وقَوْلُهُ تَعالى: (p-٣٩٧٥)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب