الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٦٣-٦٥] ﴿قالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنهم فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكم جَزاءً مَوْفُورًا﴾ ﴿واسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنهم بِصَوْتِكَ وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ وشارِكْهم في الأمْوالِ والأوْلادِ وعِدْهم وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلا غُرُورًا﴾ [الإسراء: ٦٤] ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وكَفى بِرَبِّكَ وكِيلا﴾ [الإسراء: ٦٥] . ﴿قالَ اذْهَبْ﴾ أيِ: اِمْضِ لِشَأْنِكَ اَلَّذِي اِخْتَرْتَهُ: ﴿فَمَن تَبِعَكَ مِنهم فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكم جَزاءً مَوْفُورًا﴾ أيْ: جَزاءً مُكَمَّلًا. ﴿واسْتَفْزِزْ﴾ [الإسراء: ٦٤] أيِ: اِسْتَخِفَّ وأزْعِجْ: ﴿مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنهُمْ﴾ [الإسراء: ٦٤] أيْ: أنْ تَسْتَفِزَّهُ فَتَخْدَعَهُ: ﴿بِصَوْتِكَ﴾ [الإسراء: ٦٤] أيْ: بِدُعائِكَ إلى اَلْفَسادِ. وعَبَّرَ عَنِ اَلدُّعاءِ بِالصَّوْتِ تَحْقِيرًا لَهُ حَتّى كَأنَّهُ لا مَعْنى لَهُ: ﴿وأجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ ورَجِلِكَ﴾ [الإسراء: ٦٤] أيْ: صِحْ عَلَيْهِمْ، مِنَ اَلْجَلَبَةِ (بِفَتَحاتٍ) وهي اَلصِّياحُ. و(اَلْخَيْلُ) اَلْخَيّالَةُ، أيْ: رُكْبانُ اَلْخَيْلِ مَجازًا. وأصْلُ مَعْنى اَلْخَيْلِ اَلْأفْراسُ. (والرَّجِلُ) اِسْمُ جَمْعٍ لِلرّاجِلِ وهو خِلافُ اَلْفارِسِ، والمُرادُ اَلْأعْوانُ والأتْباعُ مُطْلَقًا. قالَ اَلزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: ما مَعْنى اِسْتِفْزازِ إبْلِيسَ بِصَوْتِهِ وإجْلابِهِ بِخَيْلِهِ ورَجِلِهِ ؟ . قُلْتُ: هو كَلامٌ ورَدَ مَوْرِدَ اَلتَّمْثِيلِ، مُثِّلَتْ حالُهُ في تَسَلُّطِهِ عَلى مَن يُغْوِيهِ، بِمِغْوارٍ - بِكَسْرِ اَلْمِيمِ، اَلْكَثِيرِ اَلْغارَةِ وهي اَلْحَرْبُ والنَّهْبُ - أُوقِعَ عَلى قَوْمٍ فَصَوَّتَ بِهِمْ صَوْتًا يَسْتَفِزُّهم مِن أماكِنِهِمْ، ويُقْلِقُهم عَنْ مَراكِزِهِمْ. وأجْلَبَ عَلَيْهِمْ بِجُنْدِهِ مِن خَيّالَةٍ حَتّى اِسْتَأْصَلَهم - أيْ: فالكَلامُ اِسْتِعارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ مُرَكَّبَةٌ، اُسْتُعِيرَ فِيهِ اَلْمَجْمُوعُ والهَيْئَةُ لِلْمَجْمُوعِ والهَيْئَةِ. ووَجْهُهُ ما ذَكَرَهُ مِنِ اِسْتِئْصالِهِمْ وإهْلاكِهِمْ، أوْ غَلَبَتِهِ وتَسْخِيرِهِ لَهم. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ اَلتَّجَوُّزُ في اَلْمُفْرَداتِ تَجَوُّزًا بِصَوْتِهِ عَنْ دُعائِهِ إلى اَلشَّرِّ بِالوَسْوَسَةِ، وبِخَيْلِهِ ورَجِلِهِ عَنْ كُلِّ راكِبٍ وماشٍ مِن أهْلِ اَلْعَبَثِ (p-٣٩٤٨)والفَسادِ بِإغْوائِهِ ﴿وشارِكْهم في الأمْوالِ﴾ [الإسراء: ٦٤] أيْ: بِحَمْلِهِ إيّاهم عَلى إنْفاقِها في اَلْمَعاصِي وجَمْعِها مِن حَرامٍ والتَّصَرُّفِ فِيها تَحْرِيمًا وتَحْلِيلًا بِما لا يَرْضى: ﴿والأوْلادِ﴾ [الإسراء: ٦٤] أيْ: بِالتَّفاخُرِ فِيهِمْ وتَضْلِيلِهِمْ بِصَبْغِهِمْ غَيْرَ صِبْغَةِ اَلدِّينِ ووَأْدِهِمْ، ونَحْوِ ذَلِكَ مِمّا يُعْصى اَللَّهُ بِسَبَبِهِ: ﴿وعِدْهُمْ﴾ [الإسراء: ٦٤] أيِ: اَلْمَواعِيدَ اَلْباطِلَةَ والأمانِيَ اَلْكاذِبَةَ مِن سَلامَةِ اَلْعاقِبَةِ ودَوامِ اَلْغَلَبَةِ: ﴿وما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إلا غُرُورًا﴾ [الإسراء: ٦٤] وهو تَزْيِينُ اَلْباطِلِ بِزِينَةِ اَلْحَقِّ. ﴿إنَّ عِبادِي﴾ [الإسراء: ٦٥] أيِ: اَلْمُخْلَصِينَ: ﴿لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الإسراء: ٦٥] أيْ: تَسَلُّطٌ بِالإغْواءِ: ﴿وكَفى بِرَبِّكَ وكِيلا﴾ [الإسراء: ٦٥] أيْ: كَفِيلًا لَهم يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ ولا يَلْجَؤُونَ في أُمُورِهِمْ إلّا إلَيْهِ. وهو كافِيهِمْ. وقَدْ أشارَ القاشانِيُّ إلى أنَّ اَلْآيَةَ تُشِيرُ إلى اِنْقِسامِ اَلنّاسِ مَعَ اَلشَّيْطانِ عَلى أصْنافٍ. وعِبارَتُهُ: تَمَكُّنُ اَلشَّيْطانِ مِن إغْواءِ اَلْعِبادِ عَلى أقْسامٍ؛ لِأنَّ اَلِاسْتِعْداداتِ مُتَفاوِتَةً. فَمَن كانَ ضَعِيفَ اَلِاسْتِعْدادِ اِسْتَفَزَّهُ. أيِ: اِسْتَخَفَّهُ بِصَوْتِهِ، يَكْفِيهِ وسُوسَةٌ وهَمْسٌ بَلْ هاجِسٌ ولَمَّةٌ. ومَن كانَ قَوِيَّ اَلِاسْتِعْدادِ، فَإنْ أخْلَصَ اِسْتِعْدادَهُ عَنْ شَوائِبِ اَلصِّفاتِ اَلنَّفْسانِيَّةِ، أوْ أخْلَصَهُ اَللَّهُ تَعالى عَنْ شَوائِبِ اَلْغَيْرِيَّةِ، فَلَيْسَ لَهُ إلى إغْوائِهِ سَبِيلٌ، كَما قالَ: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ [الإسراء: ٦٥] وإلّا فَإنْ كانَ مُنْغَمِسًا في اَلشَّواغِلِ اَلْحِسِّيَّةِ، غارِزًا رَأْسَهُ في اَلْأُمُورِ اَلدُّنْيَوِيَّةِ، شارَكَهُ في أمْوالِهِ وأوْلادِهِ، بِأنْ يُحَرِّضَهُ عَلى إشْراكِهِمْ بِاَللَّهِ في اَلْمَحَبَّةِ، بِحُبِّهِمْ كَحُبِّ اَللَّهِ. ويُسَوِّلُ لَهُ اَلتَّمَتُّعَ بِهِمْ، والتَّكاثُرَ والتَّفاخُرَ بِوُجُودِهِمْ. ويُمَنِّيهِ اَلْأمانِيَ اَلْكاذِبَةَ ويُزَيِّنُ عَلَيْهِ اَلْآمالَ اَلْفارِغَةَ. وإنْ لَمْ يَنْغَمِسْ، فَإنْ كانَ عالِمًا بَصِيرًا بِتَسْوِيلاتِهِ، أجْلَبَ عَلَيْهِ بِخَيْلِهِ ورَجِلِهِ. أيْ: مَكَرَ بِهِ بِأنْواعِ اَلْحِيَلِ. وكادَهُ بِصُنُوفِ اَلْفِتَنِ. وأفْتى لَهُ في تَحْصِيلِ أنْواعِ اَلْحُطامِ والمَلاذِ بِأنَّها مِن جُمْلَةِ مَصالِحِ اَلْمَعاشِ. وغَرَّهُ بِالعِلْمِ وحَمَلَهُ عَلى اَلْإعْجابِ، وأمْثالِ ذَلِكَ حَتّى يَصِيرَ مِمَّنْ أضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى عِلْمٍ. وإنْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا بَلْ عابِدًا مُتَنَسِّكًا، أغْواهُ بِالوَعْدِ والتَّمْنِيَةِ. وغَرُّهُ بِالطّاعَةِ والتَّزْكِيَةِ أيْسَرُ ما يَكُونُ. اِنْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب