الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٣٥-٣٦] ﴿وقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلى الرُّسُلِ إلا البَلاغُ المُبِينُ﴾ ﴿ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنهم مَن هَدى اللَّهُ ومِنهم مَن حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: ٣٦] . ﴿وقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ ولا آباؤُنا ولا (p-٣٨٠١)حَرَّمْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلى الرُّسُلِ إلا البَلاغُ المُبِينُ﴾ ﴿ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ فَمِنهم مَن هَدى اللَّهُ ومِنهم مَن حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا في الأرْضِ فانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ﴾ [النحل: ٣٦] يُخْبِرُ تَعالى عَنِ اِغْتِرارِ اَلْمُشْرِكِينَ بِما هم فِيهِ واعْتِذارِهِمْ عَنْهُ بِالِاحْتِجاجِ بِالقَدَرِ؛ تَكْذِيبًا لِلرَّسُولِ صَلَواتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ، وطَعْنًا في اَلرِّسالَةِ، وذَلِكَ قَوْلُهم: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ أيْ: مِنَ اَلْبَحائِرِ والسَّوائِبِ والوَصائِلِ وغَيْرِ ذَلِكَ مِمّا كانُوا اِبْتَدَعُوهُ واخْتَرَعُوهُ مِن تِلْقاءِ أنْفُسِهِمْ، مِمّا لَمْ يُنْزِلُ اَللَّهُ بِهِ سُلْطانًا. ثُمَّ أعْلَمَ تَعالى مُشاكَلَتَهم لِمَن تَقَدَّمَهم، بِقَوْلِهِ: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أيْ: مِنَ اَلشِّرْكِ والتَّحْرِيمِ، مُتَمَسِّكِينَ بِمِثْلِ هَذِهِ اَلشُّبْهَةِ. قالَ اِبْنُ كَثِيرٍ: مَضْمُونُ كَلامِهِمْ أنَّهُ لَوْ كانَ تَعالى كارِهًا لِما فَعَلْنا، لَأنْكَرَهُ عَلَيْنا بِالعُقُوبَةِ، ولَما مَكَّنَنا مِنهُ. قالَ اَللَّهُ تَعالى رادًّا عَلَيْهِمْ شُبَهَهم: ﴿فَهَلْ عَلى الرُّسُلِ إلا البَلاغُ المُبِينُ﴾ أيْ: لَيْسَ اَلْأمْرُ كَما تَزْعُمُونَ أنَّهُ لَمْ يُنْكِرْهُ عَلَيْكم. بَلْ قَدْ أنْكَرَهُ عَلَيْكم أشَدَّ اَلْإنْكارِ، ونَهاكم عَنْهُ آكَدَ اَلنَّهْيِ، وبَعَثَ في كُلِّ أُمَّةٍ، أيْ: في كُلِّ قَرْنٍ وطائِفَةٍ مِنَ اَلنّاسِ، رَسُولًا. وكُلُّهم يَدْعُو إلى عِبادَةِ اَللَّهِ، ويَنْهى عَنْ عِبادَةِ ما سِواهُ: ﴿أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ﴾ [النحل: ٣٦] وهو ما يُعْبَدُ مِن دُونِهِ سُبْحانَهُ. فَلَمْ يَزَلْ تَعالى يُرْسِلُ إلى اَلنّاسِ اَلرُّسُلَ بِذَلِكَ مُنْذُ حَدَثَ اَلشِّرْكُ في بَنِي آدَمَ، مِن عَهْدِ نُوحٍ أوَّلِ رَسُولٍ إلى أهْلِ اَلْأرْضِ، إلى زَمَنِ خاتَمِ اَلنَّبِيِّينَ صَلَواتُ اَللَّهِ عَلَيْهِ وعَلَيْهِمْ. ودَعْوَةُ اَلْكُلِّ واحِدَةٌ كَما قالَ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن قَبْلِكَ مِن رَسُولٍ إلا نُوحِي إلَيْهِ أنَّهُ لا إلَهَ إلا أنا فاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٢٥] وكَما أخْبَرَ هُنا في هَذِهِ اَلْآيَةِ. فَكَيْفَ يَسُوغُ لِأحَدٍ مِنَ اَلْمُشْرِكِينَ بَعْدَ هَذا أنْ يَقُولَ: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ﴾ ؟ (p-٣٨٠٢)فَمَشِيئَتُهُ تَعالى اَلشَّرْعِيَّةُ عَنْهم مُنْتَفِيَةٌ؛ لِأنَّهُ نَهاهم عَنْ ذَلِكَ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِهِ. وأمّا مَشِيئَتُهُ اَلْكَوْنِيَّةُ، وهي تَمْكِينُهم مِن ذَلِكَ قَدَرًا، فَلا حُجَّةَ لَهم فِيها. أيْ: لِأنَّها مِن سِرِّ اَلْقَدَرِ اَلَّذِي حُظِرَ اَلْخَوْضُ فِيهِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنَّهُ أنْكَرَ عَلَيْهِمْ بِالعُقُوبَةِ في اَلدُّنْيا، بَعْدَ إنْذارِ اَلرُّسُلِ، بِقَوْلِهِ: ﴿فَمِنهم مَن هَدى اللَّهُ﴾ [النحل: ٣٦] اَلْآيَةَ. وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا في سُورَةِ اَلْأنْعامِ نَقْلُ ما لِلْأئِمَّةِ في مِثْلِ هَذِهِ اَلْآيَةِ. ونَسُوقُ هُنا أيْضًا ما قَرَأْتُهُ لِلْإمامِ اِبْنِ تَيْمِيَّةَ، عَلَيْهِ اَلرَّحْمَةُ، في أوَّلِ اَلْجُزْءِ اَلثّانِي مِن (مِنهاجِ اَلسُّنَّةِ) مِمّا يَتَعَلَّقُ بِالآيَةِ، وإنْ يَكُنْ سَبَقَ لَنا نَقْلٌ عَنْهُ أيْضًا، فَإنَّ اَلْآيَةَ مِن مَعارِكِ اَلْأفْهامِ، فَلا عَلَيْنا أنْ نَجْلُوَ عَنِ اَلشُّبَهِ فِيها صَدَأ اَلْأوْهامِ. قالَ عَلَيْهِ اَلرَّحْمَةُ: هَذا مَقامٌ يَكْثُرُ خَوْضُ اَلنُّفُوسِ فِيهِ. فَإنَّ كَثِيرًا مِنَ اَلنّاسِ، إذا أُمِرَ بِما يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَلَّلَ بِالقَدَرِ وقالَ: حَتّى يُقَدِّرَ اَللَّهُ ذَلِكَ أوْ يُقَدِّرَنِي اَللَّهُ عَلى ذَلِكَ، أوْ حَتّى يَقْضِيَ اَللَّهُ ذَلِكَ. وكَذَلِكَ إذا نُهِيَ عَنْ فِعْلِ ما حَرَّمَ اَللَّهُ قالَ: اَللَّهُ قَضاهُ عَلَيَّ بِذَلِكَ، ونَحْوَ هَذا اَلْكَلامِ. والِاحْتِجاجُ بِالقَدَرِ حُجَّةٌ باطِلَةٌ داحِضَةٌ، بِاتِّفاقِ كُلِّ ذِي عَقْلٍ ودِينٍ مِن جَمِيعِ اَلْعالَمِينَ. والمُحْتَجُّ بِهِ لا يَقْبَلُ مِن غَيْرِهِ مِثْلَ هَذِهِ اَلْحُجَّةِ، إذا اِحْتَجَّ بِها في ظُلْمٍ ظَلَمَهُ إيّاهُ وتَرَكَ ما يَجِبُ عَلَيْهِ مِن حُقُوقِهِ. بَلْ يَطْلُبُ مِنهُ ما لَهُ عَلَيْهِ، ويُعاقِبُهُ عَلى عُدْوانِهِ عَلَيْهِ. وإنَّما هو مِن جِنْسِ شُبَهِ اَلسُّوفِسْطائِيَّةِ اَلَّتِي تَعْرِضُ في اَلْعُلُومِ. فَكَأنَّكَ تَعْلَمُ فَسادَها بِالضَّرُورَةِ. وإنْ كانَتْ تَعْرِضُ كَثِيرًا لِلْكَثِيرِ مِنَ اَلنّاسِ، حَتّى قَدْ يَشُكُّ في وُجُودِ نَفْسِهِ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ اَلْمَعارِضِ اَلضَّرُورِيَّةِ. فَكَذَلِكَ هَذا يُعْرَضُ في اَلْأعْمالِ حَتّى يَظُنَّ أنَّها شُبْهَةٌ في إسْقاطِ اَلصِّدْقِ والعَدْلِ اَلْواجِبِ، وغَيْرِ ذَلِكَ، وإباحَةِ اَلْكَذِبِ والظُّلْمِ وغَيْرِ ذَلِكَ. ولَكِنْ تَعْلَمُ اَلْقُلُوبُ بِالضَّرُورَةِ أنَّ هَذِهِ شُبْهَةٌ باطِلَةٌ. ولِهَذا لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ عِنْدَ اَلتَّحْقِيقِ ولا يَحْتَجُّ بِها أحَدٌ إلّا مَعَ عَدَمِ عِلْمِهِ بِالحُجَّةِ بِما فَعَلَهُ، فَإذا كانَ مَعَهُ عِلْمٌ بِأنَّ ما فَعَلَهُ هو اَلْمَصْلَحَةُ، وهو اَلْمَأْمُورُ، وهو اَلَّذِي يَنْبَغِي فِعْلُهُ ولَمْ يَحْتَجَّ بِالقَدَرِ. وكَذَلِكَ إذا كانَ مَعَهُ عِلْمٌ بِأنَّ اَلَّذِي لَمْ يَفْعَلْهُ لَيْسَ عَلَيْهِ أنْ يَفْعَلَهُ، أوْ لَيْسَ بِمَصْلَحَةٍ، أوْ لَيْسَ هو مَأْمُورًا بِهِ؛ لَمْ يَحْتَجَّ بِالقَدَرِ. بَلْ إذا كانَ مُتَّبِعًا لِهَواهُ (p-٣٨٠٣)بِغَيْرِ عِلْمٍ، اِحْتَجَّ بِالقَدَرِ. ولِهَذا لَمّا قالَ اَلْمُشْرِكُونَ: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٤٨] قالَ اَللَّهُ تَعالى: ﴿هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إنْ تَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ وإنْ أنْتُمْ إلا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٨] ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٩] فَإنَّ هَؤُلاءِ اَلْمُشْرِكِينَ يَعْلَمُونَ بِفِطْرَتِهِمْ وعُقُولِهِمْ أنَّ هَذِهِ اَلْحُجَّةَ داحِضَةٌ وباطِلَةٌ. فَإنَّ أحَدَهم لَوْ ظَلَمَ اَلْآخَرَ أوْ حَرَّجَ في مالِهِ أوْ فَرَجَّ اِمْرَأتَهُ أوْ قَتَلَ ولَدَهُ أوْ كانَ مُصِرًّا عَلى اَلظُّلْمِ فَنَهاهُ اَلنّاسُ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: لَوْ شاءَ اَللَّهُ لَمْ أفْعَلْ هَذا؛ لَمْ يَقْبَلُوا مِنهُ هَذِهِ اَلْحُجَّةَ، ولا هو يَقْبَلُها مِن غَيْرِهِ. وإنَّما يَحْتَجُّ بِها اَلْمُحْتَجُّ دَفْعًا لِلَّوْمِ بِلا وجْهٍ. فَقالَ اَللَّهُ تَعالى: ﴿هَلْ عِنْدَكم مِن عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا﴾ [الأنعام: ١٤٨] بِأنَّ هَذا اَلشِّرْكَ والتَّحْرِيمَ مِن أمْرِ اَللَّهِ، وأنَّهُ مَصْلَحَةٌ يَنْبَغِي فِعْلُهُ: ﴿إنْ تَتَّبِعُونَ إلا الظَّنَّ﴾ [الأنعام: ١٤٨] فَإنَّهُ لا عِلْمَ عِنْدِكم بِذَلِكَ، إنْ تَظُنُّونَ ذَلِكَ إلّا ظَنًّا: ﴿وإنْ أنْتُمْ إلا تَخْرُصُونَ﴾ [الأنعام: ١٤٨] وتَفْتَرُونَ. فَعُمْدَتُكم في نَفْسِ اَلْأمْرِ ظَنُّكم وخَرْصُكم، لَيْسَ عُمْدَتُكم في نَفْسِ اَلْأمْرِ كَوْنَ اَللَّهِ شاءَ ذَلِكَ وقَدَّرَهُ. فَإنَّ مُجَرَّدَ اَلْمَشِيئَةِ والقَدَرِ لا تَكُونُ عُمْدَةً لِأحَدٍ في اَلْفِعْلِ، ولا حُجَّةً لِأحَدٍ عَلى أحَدٍ ولا عُذْرًا لِأحَدٍ؛ إذِ اَلنّاسُ كُلُّهم مُشْتَرِكُونَ في اَلْقَدَرِ. فَلَوْ كانَ هَذا حُجَّةً وعُمْدَةً لَمْ يَحْصُلْ فَرْقٌ بَيْنَ اَلْعادِلِ والظّالِمِ والصّادِقِ والكاذِبِ والعالِمِ والجاهِلِ والبَرِّ والفاجِرِ. ولَمْ يَكُنْ فَرْقٌ بَيْنَ ما يُصْلِحُ اَلنّاسَ مِنَ اَلْأعْمالِ ما يُفْسِدُهم وما يَنْفَعُهم وما يَضُرُّهم. وهَؤُلاءِ اَلْمُشْرِكُونَ اَلْمُحْتَجُّونَ بِالقَدَرِ عَلى تَرْكِ ما أرْسَلَ اَللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ مِن تَوْحِيدِهِ، والإيمانِ بِهِ؛ لَوِ اِحْتَجَّ بِهِ بَعْضُهم عَلى بَعْضٍ في سُقُوطِ حُقُوقِهِ ومُخالَفَةِ أمْرِهِ، لَمْ يَقْبَلْهُ مِنهُ. بَلْ كانَ هَؤُلاءِ اَلْمُشْرِكُونَ يَذُمُّ بَعْضُهم بَعْضًا ويُعادِي بَعْضُهم بَعْضًا ويُقاتِلُ بَعْضُهم بَعْضًا عَلى فِعْلِ مَن يُرِيدُ تَرْكًا لَحِقِّهِمْ، أوْ ظُلْمًا. فَلَمّا جاءَهم رَسُولُ اَللَّهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَدْعُوهم إلى حَقِّ اَللَّهِ عَلى عِبادِهِ وطاعَةِ أمْرِهِ، واحْتَجُّوا بِالقَدَرِ؛ فَصارُوا يَحْتَجُّونَ بِالقَدَرِ عَلى تَرْكِ حَقِّ رَبِّهِمْ ومُخالَفَةِ (p-٣٨٠٤)أمْرِهِ، بِما لا يَقْبَلُونَهُ مِمَّنْ تَرَكَ حَقَّهم وخالَفَ أمْرَهم. وفي اَلصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُ: أنَّ اَلنَّبِيَّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: ««يا مُعاذُ بْنَ جَبَلٍ ! أتَدْرِي ما حَقُّ اَللَّهِ عَلى عِبادِهِ ؟ ! حَقُّهُ عَلى عِبادِهِ أنْ يَعْبُدُوهُ ولا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، أتَدْرِي ما حَقُّ اَلْعِبادِ عَلى اَللَّهِ إذا فَعَلُوا ذَلِكَ ؟ حَقُّهم عَلَيْهِ أنْ لا يُعَذِّبَهم»» . فالِاحْتِجاجُ بِالقَدَرِ حالُ اَلْجاهِلِيَّةِ اَلَّذِينَ لا عِلْمَ عِنْدِهِمْ بِما يَفْعَلُونَ ويَتْرُكُونَ: { إنْ يَتَّبِعُونَ إلّا اَلظَّنَّ وإنْ هم إلّا يَخْرُصُونَ } وهم إنَّما يَحْتَجُّونَ بِهِ في تَرْكِ حَقِّ رَبِّهِمْ ومُخالَفَةِ أمْرِهِ، لا في تَرْكِ ما يَرَوْنَهُ حَقًّا لَهم ولا في مُخالَفَةِ أمْرِهِمْ. ولِهَذا تَجِدُ اَلْمُحْتَجِّينَ والمُسْتَنِدِينَ إلَيْهِ مِنَ اَلنُّسّاكِ والصُّوفِيَّةِ والفُقَراءِ والعامَّةِ والجُنْدِ والفُقَهاءِ وغَيْرِهِمْ؛ يَفِرُّونَ إلَيْهِ عِنْدَ اتِّباعِ اَلظَّنِّ وما تَهْوى اَلْأنْفُسُ. فَلَوْ كانَ مَعَهم عِلْمٌ وهُدًى لَمْ يَحْتَجُّوا بِالقَدَرِ أصْلًا. بَلْ يَعْتَمِدُونَ عَلَيْهِ لِعَدَمِ اَلْهُدى والعِلْمِ، وهَذا أصْلٌ شَرِيفٌ، مَنِ اِعْتَنى بِهِ عَلِمَ مَنشَأ اَلضَّلالِ والغَيِّ لِكَثِيرٍ مِنَ اَلنّاسِ. ولِهَذا تَجِدُ اَلْمَشايِخَ والصّالِحِينَ اَلْمُتَّبِعِينَ لِلْأمْرِ والنَّهْيِ، كَثِيرًا ما يُوصُونَ أتْباعَهم بِالعِلْمِ بِالشَّرْعِ. فَإنَّهُ كَثِيرًا ما يَعْرِضُ لَهم إراداتٌ في أشْياءَ ومَحَبَّةٌ لَها فَيَتَّبِعُونَ فِيها أهْواءَهم ظانِّينَ أنَّهُ دِينُ اَللَّهِ تَعالى، ولَيْسَ مَعَهم إلى اَلظَّنِّ والذَّوْقِ والوِجْدانِ اَلَّذِي يَرْجِعُ إلى مَحَبَّةِ اَلنَّفْسِ وإرادَتِها. فَيَحْتَجُّونَ تارَةً بِالقَدَرِ وتارَةً بِالظَّنِّ والخَرْصِ، وهم مُتَّبِعُونَ أهْواءَهم في اَلْحَقِيقَةِ. فَإذا اِتَّبَعُوا اَلْعِلْمَ، وهو ما جاءَ بِهِ اَلشّارِعُ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ خَرَجُوا عَنِ اَلظَّنِّ وما تَهْوى اَلْأنْفُسُ، واتَّبَعُوا ما جاءَهم مِن رَبِّهِمْ وهو اَلْهُدى، كَما قالَ تَعالى: ﴿فَإمّا يَأْتِيَنَّكم مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ ولا يَشْقى﴾ [طه: ١٢٣] وقَدْ ذَكَرَ اَللَّهُ تَعالى هَذا اَلْمَعْنى عَنِ اَلْمُشْرِكِينَ في سُورَةِ اَلْأنْعامِ والنَّحْلِ والزُّخْرُفِ كَما قالَ تَعالى: ﴿وقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمَنُ ما عَبَدْناهم ما لَهم بِذَلِكَ مِن عِلْمٍ إنْ هم إلا يَخْرُصُونَ﴾ [الزخرف: ٢٠] فَتَبَيَّنَ أنَّهُ لا عِلْمَ لَهم بِذَلِكَ، إنْ هم إلّا (p-٣٨٠٥)يَخْرُصُونَ. وقالَ في سُورَةِ اَلْأنْعامِ: ﴿قُلْ فَلِلَّهِ الحُجَّةُ البالِغَةُ﴾ [الأنعام: ١٤٩] إرْسالُ اَلرُّسُلِ وإنْزالُ اَلْكُتُبِ كَما قالَ تَعالى: ﴿لِئَلا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ [النساء: ١٦٥] ثُمَّ أثْبَتَ اَلْقَدَرَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَلَوْ شاءَ لَهَداكم أجْمَعِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٩] فَأثْبَتَ اَلْحُجَّةَ اَلشَّرْعِيَّةَ وبَيَّنَ اَلْمَشِيئَةَ اَلْقَدَرِيَّةَ وكِلاهُما حَقٌّ. وقالَ في اَلنَّحْلِ: ﴿وقالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَحْنُ ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلى الرُّسُلِ إلا البَلاغُ المُبِينُ﴾ فَبَيَّنَ سُبْحانَهُ وتَعالى أنَّ هَذا اَلْكَلامَ تَكْذِيبٌ لِلرُّسُلِ فِيما جاءُوهم بِهِ، لَيْسَ حُجَّةً لَهم. فَلَوْ كانَ حُجَّةً لاحْتُجَّ بِهِ عَلى تَكْذِيبِ كُلِّ صِدْقٍ وفِعْلِ كُلِّ ظُلْمٍ. فَفي فِطْرَةِ بَنِي آدَمَ أنَّهُ لَيْسَ حُجَّةً صَحِيحَةً. بَلْ مَنِ اِحْتَجَّ بِهِ اِحْتَجَّ لِعَدَمِ اَلْعِلْمِ واتِّباعِ اَلظَّنِّ. كَفِعْلِ اَلَّذِينَ كَذَّبُوا اَلرُّسُلَ بِهَذِهِ اَلْمُدافَعَةِ. بَلِ اَلْحُجَّةُ اَلْبالِغَةُ لِلَّهِ بِإرْسالِ اَلرُّسُلِ وإنْزالِ اَلْكُتُبِ، كَما ثَبَتَ في اَلْحَدِيثِ اَلصَّحِيحِ عَنِ اَلنَّبِيِّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ««لا أحَدَ أحَبُّ إلَيْهِ اَلْعُذْرُ مِنَ اَللَّهِ، مِن أجْلِ ذَلِكَ أرْسَلَ اَلرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ، ولا أحَدَ أحَبُّ إلَيْهِ اَلْمَدْحُ مِنَ اَللَّهِ، مِن أجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ. ولا أحَدَ أغْيَرُ مِنَ اَللَّهِ، مِن أجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ اَلْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ»» . فَبَيَّنَ أنَّهُ سُبْحانَهُ يُحِبُّ اَلْمَدْحَ وأنْ يَعْذُرَ ويُبْغِضَ اَلْفَواحِشَ، فَيُحِبُّ أنْ يُمْدَحَ بِالعَدْلِ والإحْسانِ، وألّا يُوصَفَ بِالظُّلْمِ. ومِنَ اَلْمَعْلُومِ أنَّهُ مَن قَدَّمَ إلى أتْباعِهِ بِأنِ اِفْعَلُوا كَذا ولا تَفْعَلُوا. وبَيَّنَ لَهم وأزاحَ عِلَّتَهم، ثُمَّ تَعَدَّوْا حُدُودَهُ وأفْسَدُوا أُمُورَهم؛ كانَ لَهُ أنْ يُعَذِّبَهم ويَنْتَقِمَ مِنهم. فَإذا قالُوا: ألَيْسَ اَللَّهُ قَدَّرَ عَلَيْنا هَذا ؟ لَوْ شاءَ اَللَّهُ ما فَعَلْنا هَذا. قِيلَ لَهم: أنْتُمْ لا حُجَّةَ لَكم ولا عِنْدَكم ما تَعْتَذِرُونَ بِهِ، وتَبَيَّنَ أنَّ ما فَعَلْتُمُوهُ كانَ حَسَنًا، أوْ كُنْتُمْ مَعْذُورِينَ فِيهِ. فَهَذا اَلْكَلامُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنكم. (p-٣٨٠٦)وقَدْ قامَتِ اَلْحُجَّةُ عَلَيْكم بِما تَقَدَّمَ مِنَ اَلْبَيانِ والإعْذارِ. ولَوْ أنَّ ولِيَّ أمْرٍ أعْطى قَوْمًا مالًا لِيُوَصِّلُوهُ إلى بَلَدٍ، فَسافَرُوا بِهِ وتَرَكُوهُ في اَلْبَرِّيَّةِ لَيْسَ عِنْدَهُ أحَدٌ وباتُوا في مَكانٍ بَعِيدٍ مِنهُ، وكانَ ولِيُّ اَلْأمْرِ قَدْ أرْسَلَ جُنْدًا يَغْزُونَ بَعْضَ اَلْأعْداءِ، فاجْتازُوا تِلْكَ اَلطَّرِيقَ، فَرَأوْا ذَلِكَ اَلْمالَ فَظَنُّوهُ لُقَطَةً لَيْسَ لَهُ أحَدٌ فَأخَذُوهُ وذَهَبُوا؛ لَكانَ يَحْسُنُ مِنهُ أنْ يُعاقِبَ اَلْأوَّلِينَ لِتَفْرِيطِهِمْ وتَضْيِيعِهِمْ حِفْظَ ما أمَرَهم بِهِ. ولَوْ قالُوا لَهُ: أنْتَ لَمْ تُعْلِمْنا أنَّكَ تَبْعَثُ بَعْدَنا جُنْدًا حَتّى يُحْتَرَزَ اَلْمالُ مِنهم ! قالَ: هَذا لا يَجِبُ عَلَيَّ، ولَوْ فَعَلْتُهُ لَكانَ زِيادَةَ إعانَةٍ لَكم. لَكِنْ كانَ عَلَيْكم أنْ تَحْفَظُوا ذَلِكَ كَما تَحْفَظُونَ اَلْوَدائِعَ والأماناتِ. وكانَتْ حُجَّتُهُ عَلَيْهِمْ قائِمَةً ولَمْ يَكُنْ يُدْعى فِيهِمْ ظالِمًا، وإنْ كانَ لَمْ يُعِنْهم بِالإعْلامِ بِذَلِكَ اَلْجُنْدِ، لَكِنْ عَمِلَ اَلْمَصْلَحَةَ في إرْسالِ اَلْأوَّلِينَ والآخَرِينَ. واَللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى، ولَهُ اَلْمَثَلُ اَلْأعْلى، حَكَمٌ عَدْلٌ في كُلِّ ما جَعَلَهُ، ولا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ مَشِيئَتِهِ وقُدْرَتِهِ. فَإذا أمَرَ اَلنّاسَ بِحِفْظِ اَلْحُدُودِ وإقامَةِ اَلْفَرائِضِ لِمَصْلَحَتِهِمْ؛ كانَ ذَلِكَ مِن إحْسانِهِ إلَيْهِمْ وتَعْرِيفِهِمْ ما يَنْفَعُهم. وإذا خَلَقَ أُمُورًا أُخْرى، فَإذا فَرَّطُوا واعْتَدَوْا بِسَبَبِ خَلْقِهِ اَلْأُمُورَ اَلْأُخْرى، كانَ عادِلًا حَكَمًا في خَلْقِ هَذا وخَلْقِ هَذا، والأمْرِ بِهَذا والأمْرِ بِهَذا. وإنْ كانَ لَمْ يُمِدَّ اَلْأوَّلِينَ بِزِيادَةٍ يَحْتَرِسُونَ بِها مِنَ اَلتَّفْرِيطِ والعُدْوانِ، لا سِيَّما مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّ تِلْكَ اَلزِّيادَةَ، لَوْ خَلَقَها لَلَزِمَ مِنها تَفْوِيتُ مَصْلَحَةٍ أرْجَحَ، فَإنَّ اَلضِّدَّيْنِ لا يَجْتَمِعانِ. والمَقْصُودُ هُنا أنَّهُ لا يَحْتَجُّ أحَدٌ بِالقَدَرِ إلّا حُجَّةَ تَعْلِيلٍ؛ لِدَعْمِ اتِّباعِ اَلْحَقِّ اَلَّذِي بَيَّنَهُ اَلْعِلْمُ. فَإنَّ اَلْإنْسانَ حَيٌّ حَسّاسٌ مُتَحَرِّكٌ بِالإرادَةِ. ولِهَذا قالَ اَلنَّبِيُّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««أصْدَقُ اَلْأسْماءِ اَلْحارِثُ وهَمّامٌ»» فالحارِثُ: اَلْكاسِبُ اَلْعامِلُ. والهَمّامُ: اَلْمُتَحَرِّكُ اَلْهَمُّ. والهَمُّ مَبْدَأُ اَلْإرادَةِ والقَصْدِ. فَكُلُّ إنْسانٍ حارِثٌ هَمّامٌ، وهو اَلْمُتَحَرِّكُ بِالإرادَةِ، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ اَلْحِسِّ والشُّعُورِ. فَإنَّ اَلْإرادَةَ مَسْبُوقَةٌ بِالشُّعُورِ بِالمُرادِ، فَلا يُتَصَوَّرُ إرادَةٌ ولا حُبٌّ ولا شَوْقٌ ولا (p-٣٨٠٧)اِخْتِيارٌ ولا طَلَبٌ إلّا بَعْدَ اَلشُّعُورِ وما هو مِن جِنْسِهِ. كالحِسِّ والعِلْمِ والسَّمْعِ والبَصَرِ والشَّمِّ والذَّوْقِ واللَّمْسِ ونَحْوِ هَذِهِ اَلْأُمُورِ. فَهَذا اَلْإدْراكُ والشُّعُورُ هو مُقَدِّمَةُ اَلْإرادَةِ والحُبِّ والطَّلَبِ. والحَيُّ مَفْطُورٌ عَلى حُبِّ ما يَنْفَعُهُ ويُلائِمُهُ، وبُغْضِ ما يَكْرَهُهُ ويَضُرُّهُ. فَإذا تَصَوَّرَ اَلشَّيْءَ اَلْمُلائِمَ اَلنّافِعَ، أرادَهُ وأحَبَّهُ. وإنْ تَصَوُّرَ اَلشَّيْءَ اَلضّارَّ أبْغَضَهُ ونَفَرَ عَنْهُ. لَكِنَّ ذَلِكَ اَلتَّصَوُّرَ قَدْ يَكُونُ عِلْمًا وقَدْ يَكُونُ ظَنًّا وخَرْصًا. فَإذا كانَ عالِمًا بِأنَّ مُرادَهُ هو اَلنّافِعُ، وهو اَلْمَصْلَحَةُ وهو اَلَّذِي يُلائِمُهُ؛ كانَ عَلى اَلْهُدى والحَقِّ. وإذا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ، كانَ مُتَبِّعًا لِلظَّنِّ وما تَهْوى نَفْسُهُ. فَإذا جاءَهُ اَلْعِلْمُ والبَيانُ بِأنَّ هَذا لَيْسَ مَصْلَحَةً، أخَذَ يَحْتَجُّ بِالقَدَرِ، حُجَّةَ لَدَدٍ وتَفْرِيجٍ، لا حُجَّةَ اِعْتِمادٍ عَلى اَلْحَقِّ والعِلْمِ. فَلا يَحْتَجُّ أحَدٌ في باطِنِهِ أوْ ظاهِرِهِ بِالقَدَرِ، إلّا لِعَدَمِ اَلْعِلْمِ بِما هو عَلَيْهِ اَلْحَقُّ. وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ مَنِ اِحْتَجَّ بِالقَدَرِ عَلى اَلرُّسُلِ مُقِرًّا بِأنَّ ما هو عَلَيْهِ لَيْسَ مَعَهُ بِهِ عِلْمٌ، وإنَّما تَكَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ. ومَن تَكَلَّمَ بِغَيْرِ عِلْمٍ كانَ مُبْطِلًا في كَلامِهِ، ومَنِ اِحْتَجَّ بِغَيْرِ عِلْمٍ كانَتْ حُجَّتُهُ داحِضَةً. فَإمّا أنْ يَكُونَ جاهِلًا، فَعَلَيْهِ أنْ يَتَّبِعَ اَلْعِلْمَ. وإمّا أنْ يَكُونَ قَدْ عَرَفَ اَلْحَقَّ واتَّبَعَ هَواهُ، فَعَلَيْهِ أنْ يَتَّبِعَ اَلْحَقَّ ويَدَعَ هَواهُ. فَتَبَيَّنَ أنَّ اَلْمُحْتَجَّ بِالقَدَرِ مُتَّبِعٌ لِهَواهُ بِغَيْرِ عِلْمٍ: ﴿ومَن أضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ﴾ [القصص: ٥٠] اِنْتَهى. ولَهُ تَتِمَّةٌ سابِغَةُ اَلذَّيْلِ لا بَأْسَ بِالوُقُوفِ عَلَيْها. وقالَ القاشانِيُّ في هَذِهِ اَلْآيَةِ: إنَّما قالُوا ذَلِكَ عِنادًا وتَعَنُّتًا عَنْ فَرْطٍ بِالجَهْلِ وإلْزامًا لِلْمُوَحِّدِينَ بِناءً عَلى مَذْهَبِهِمْ. إذْ لَوْ قالُوا ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ ويَقِينٍ لَكانُوا مُوَحِّدِينَ لا مُشْرِكِينَ بِنِسْبَةِ اَلْإرادَةِ والتَّأْثِيرِ إلى اَلْغَيْرِ؛ لِأنَّ مَن عَلِمَ أنَّهُ لا يُمْكِنُ وُقُوعُ شَيْءٍ بِغَيْرِ مَشِيئَةٍ مِنَ اَللَّهِ، عَلِمَ أنَّهُ لَوْ شاءَ كُلُّ مَن في اَلْعالِمِ شَيْئًا، لَمْ يَشَأِ اَللَّهُ ذَلِكَ؛ لَمْ يُمْكِنْ وُقُوعُهُ. فاعْتَرَفَ بِنَفْيِ اَلْقُدْرَةِ والإرادَةِ عَمّا عَدا اَللَّهِ تَعالى، فَلَمْ يَبْقَ مُشْرِكًا، قالَ اَللَّهُ تَعالى: ﴿ولَوْ شاءَ اللَّهُ (p-٣٨٠٨)ما أشْرَكُوا﴾ [الأنعام: ١٠٧] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ أيْ: في تَكْذِيبِ اَلرُّسُلِ بِالعِنادِ. اِنْتَهى. وقالَ اَلْإمامُ مُفْتِي مِصْرَ في تَفْسِيرِ سُورَةِ اَلْعَصْرِ، مِن هَذا اَلْبَحْثِ ما مِثالُهُ: فالعَقْلُ والشَّرْعُ والحِسُّ والوِجْدانُ مُتَضافِرَةٌ عَلى أنَّ فِعْلَ اَلْعَبْدِ فِعْلُهُ. وكَوْنُ جَمِيعِ اَلْأشْياءِ راجِعَةً إلى اَللَّهِ تَعالى ووُجُودُ اَلْمُمْكِناتِ، إنَّما هو نِسْبَتُها إلَيْهِ. ولا يُتَصَوَّرُ اِعْتِبارُها مَوْجُودَةً إلّا إذا اِعْتُبِرَتْ مُسْتَنِدَةً إلَيْهِ، مِمّا قامَ عَلَيْهِ اَلدَّلِيلُ بَلْ كادَ يَصِلُ إلى اَلْبَداهَةِ كَذَلِكَ. ومِثْلُ هَذا يُقالُ في عِظَمِ قُدْرَةِ اَللَّهِ تَعالى. وإنَّهُ إنْ شاءَ سَلَبَنا مِنَ اَلْقُدْرَةِ والِاخْتِيارِ ما وهَبَنا. فَهو أمْرٌ نُشاهِدُهُ كُلَّ يَوْمٍ، نُدَبِّرُ شَيْئًا، ثُمَّ يَأْتِي مِنَ اَلْمَوانِعِ مِن تَحْقِيقِهِ ما لَمْ يَكُنْ في اَلْحُسْبانِ، ونَتَناوَلُ عَمَلًا ثُمَّ تَنْقَطِعُ قُدْرَتُنا عَنْ تَتْمِيمِهِ. كُلُّ ذَلِكَ لا نِزاعَ فِيهِ. شُمُولُ عِلْمِ اَللَّهِ لِما كانَ ولِما يَكُونُ قامَ عَلَيْهِ اَلدَّلِيلُ. ولا شُبْهَةَ فِيهِ عِنْدَ المِلِّيِّينَ، فَوَجَبَ عَلى اَلْمُسْلِمِ أنْ يَعْتَقِدَ بِأنَّ اَللَّهَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ عَلى اَلنَّحْوِ اَلَّذِي يَعْلُمُهُ، وأنْ يُقَرِّرَ بِنِسْبَةِ عَمَلِهِ إلَيْهِ كَما هو بَدِيهِيٌّ عِنْدَهُ. ويَعْلَمُ بِما أمَرَهُ بِهِ ويَجْتَنِبُ ما نَهاهُ عَنْهُ بِاسْتِعْمالِ ذَلِكَ اَلِاخْتِيارِ اَلَّذِي يَجِدُهُ مِن نَفْسِهِ. ولَيْسَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلى ما وراءَهُ. فَقَدْ نَعى اَللَّهُ عَلى اَلْمُشْرِكِينَ قَوْلَهم: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٤٨] ووَرَدَتِ اَلْأحادِيثُ مُتَواتِرَةَ اَلْمَعْنى في اَلنَّهْيِ عَنِ اَلْخَوْضِ في اَلْقَدَرِ وسِرِّهِ. فَلَوْ صَبَرَ اَلْعَبْدُ حَقَّ اَلصَّبْرِ؛ لَوَقَفَ عِنْدَ ما حَدَّ اَللَّهُ لَهُ، ولَمْ يَنْزِعْ بِنَفْسِهِ إلى تَعَدِّي حُدُودِ اَللَّهِ اَلَّتِي ضَرَبَها لِعِبادِهِ. ولَسْتُ أُحِبُّ اَلتَّكَلُّمَ في هَذِهِ اَلْمَسْألَةِ بِأكْثَرَ مِن هَذا. وإلّا خَرَجْتُ مِنَ اَلصّابِرِينَ، وخُضْتُ في اَلْقَدَرِ مَعَ اَلْخائِضِينَ. ومَن ثارَ بِهِ اَلْهَوَسُ فَتَوَهَّمَ أنَّ عَلَيْنا أنْ نَعْتَقِدَ أنَّ اَلْعَبْدَ لا فِعْلَ لَهُ، فَقَدْ خالَفَ كِتابَ اَللَّهِ وعَصى رَسُولَ اَللَّهِ. وقَدْ أقُولُ - واعْتِمادِي عَلى اَللَّهِ فِيما أقُولُ -: إنَّ مَن يَقُولُ ذَلِكَ، يَخْرُجُ عَنْ دِينِ اَللَّهِ، ويُعَطِّلُ شَرْعَ اَللَّهِ، فَلْيَحْذَرْ مُؤْمِنٌ بِاَللَّهِ أنْ يَقُولَ ذَلِكَ. اِنْتَهى. (p-٣٨٠٩)وقالَ في مَوْضِعٍ آخَرَ: اَلِاحْتِجاجُ عَلى تَرْكِ اَلْعَمَلِ بِالقَدَرِ مِن عَقائِدِ اَلْمُلْحِدِينَ. وقَدْ جاءَ اَلْكِتابُ اَلْكَرِيمُ بِتَشْنِيعِ اِعْتِقادِهِمْ والنَّعْيِ عَلَيْهِمْ فِيهِ. وقَدْ حَكى لَنا ما كانُوا يَقُولُونَ مِن نَحْوِ: ﴿لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا ولا حَرَّمْنا مِن شَيْءٍ﴾ [الأنعام: ١٤٨] فَلا يَسُوغُ لِأحَدٍ مِنّا، وهو يَدَّعِي أنَّهُ مُؤْمِنٌ بِالقُرْآنِ؛ أنْ يَحْتَجَّ بِما كانَ يَحْتَجُّ بِهِ اَلْمُشْرِكُونَ. اِنْتَهى. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب