الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [١١٢-١١٣] ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللَّهِ فَأذاقَها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مِنهم فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُمُ العَذابُ وهم ظالِمُونَ﴾ [النحل: ١١٣] . ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللَّهِ فَأذاقَها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ﴾ ﴿ولَقَدْ جاءَهم رَسُولٌ مِنهم فَكَذَّبُوهُ فَأخَذَهُمُ العَذابُ وهم ظالِمُونَ﴾ [النحل: ١١٣] اعْلَمْ أنَّهُ لَمّا هَدَّدَ الكَفّارَ بِالوَعِيدِ الشَّدِيدِ في الآخِرَةِ، أنْذَرَهم بِنِقْمَتِهِ في الدُّنْيا أيْضًا بِالجُوعِ والخَوْفِ. ومَعْنى (p-٣٨٦٨)قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا قَرْيَةً﴾ أيْ: جَعَلَ القَرْيَةَ الَّتِي هَذِهِ حالُها مَثَلًا لِكُلِّ قَوْمٍ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ. فَأبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ، فَكَفَرُوا وتَوَلَّوْا، فَأنْزَلَ اللَّهُ بِهِمْ نِقْمَتَهُ. فَيَدْخُلُ فِيهِمْ أهْلُ مَكَّةَ دُخُولًا أوَّلِيًّا، أوْ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ، وهم أهْلُ مَكَّةَ. والقَرْيَةُ إمّا مُقَدَّرَةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ غَيْرُ مَعَيَّنَةٍ؛ إذْ لا يَلْزَمُ وُجُودُ المُشَبَّهِ بِهِ. أوْ مُعَيَّنَةٌ مِن قُرى الأوَّلِينَ. وقَدْ ضُمِّنَ (ضَرَبَ) مَعْنى (جَعَلَ) و(مَثَلًا) مَفْعُولٌ ثانٍ، و(قَرْيَةً) مَفْعُولٌ أوَّلُ. قالَ أبُو السُّعُودِ: وتَأْخِيرُ (قَرْيَةً) مَعَ كَوْنِها مَفْعُولًا أوَّلَ؛ لِئَلّا يَحُولُ المَفْعُولُ الثّانِي بَيْنَها وبَيْنَ صِفَتِها وما يَتَرَتَّبُ عَلَيْها؛ إذِ التَّأْخِيرُ عَنِ الكُلِّ مُخِلٌّ بِتَجاذُبِ أطْرافِ النَّظْمِ وتَجاوُبِها. ولِأنَّ تَأْخِيرَ ما حَقُّهُ التَّقْدِيمُ مِمّا يُورِثُ النَّفْسَ تَرَقُّبًا لِوُرُودِهِ، وتَشَوُّقًا إلَيْهِ. لا سِيَّما إذا كانَ في المُقَدَّمِ ما يَدْعُو إلَيْهِ. فَإنَّ المَثَلَ مِمّا يَدْعُو إلى المُحافَظَةِ عَلى تَفاصِيلِ أحْوالِ ما هو مَثَلٌ. فَيَتْمَكَنَّ المُؤَخَّرُ عِنْدَ وُرُودِهِ لَدَيْها فَضْلَ تَمَكُّنٍ. والمُرادُ بِالقَرْيَةِ: أهْلُها مَجازًا، أوْ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ. ومَعْنى كَوْنِها: ﴿آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً﴾ أنَّهُ لا يُزْعِجُها خَوْفٌ. و(الرَّغَدُ) الواسِعُ. و(الأنْعَمُ) جَمْعُ نِعْمَةٍ. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأذاقَها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ﴾ شَبَّهَ أثَرَ الجُوعِ والخَوْفِ وضَرَرَهُما المُحِيطَ بِهِمْ، بِاللِّباسِ الغاشِي لِلّابِسِ. فاسْتُعِيرَ لَهُ اسْمُهُ، وأوْقَعَ عَلَيْهِ الإذاقَةَ المُسْتَعارَةَ؛ لِمُطْلَقِ الإيصالِ المُنْبِئَةِ عَنْ شِدَّةِ الإصابَةِ، بِما فِيها مِنِ اجْتِماعِ إدْراكَيِ اللّامِسَةِ والذّائِقَةِ، عَلى نَهْجِ التَّجْرِيدِ. فَإنَّها لِشُيُوعِ اسْتِعْمالِها في ذَلِكَ، وكَثْرَةِ جَرَيانِها عَلى الألْسِنَةِ جَرَتْ مَجْرى الحَقِيقَةِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَذا مَثَلٌ أُرِيدَ بِهِ أهْلُ مَكَّةَ. فَإنَّها كانَتْ آمِنَةً مُطَمْئِنَةً مُسْتَقِرَّةً، يُتَخَطَّفُ النّاسُ مِن حَوْلِها، ومَن دَخَلَها كانَ آمِنًا لا يَخافُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وقالُوا إنْ نَتَّبِعِ الهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِن أرْضِنا أوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهم حَرَمًا آمِنًا يُجْبى إلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ (p-٣٨٦٩)شَيْءٍ رِزْقًا مِن لَدُنّا﴾ [القصص: ٥٧] وهَكَذا قالَ ها هُنا، و: ﴿يَأْتِيها رِزْقُها رَغَدًا﴾ أيْ: هَنِيئًا سَهْلًا: ﴿مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأنْعُمِ اللَّهِ﴾ أيْ: جَحَدَتْ آلاءَ اللَّهِ عَلَيْها، وأعْظَمُها بِعْثَةُ مُحَمَّدٍ ﷺ إلَيْهِمْ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وأحَلُّوا قَوْمَهم دارَ البَوارِ﴾ [إبراهيم: ٢٨] ﴿جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وبِئْسَ القَرارُ﴾ [إبراهيم: ٢٩] ولِهَذا بَدَّلَهُمُ اللَّهُ بِحالَيْهِمُ الأوَّلَيْنِ خِلافَهُما، فَقالَ: ﴿فَأذاقَها اللَّهُ لِباسَ الجُوعِ والخَوْفِ﴾ أيْ: ألْبَسَها وأذاقَها الجُوعَ بَعْدَ أنْ كانَ يُجْبى إلَيْهِمْ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ ويَأْتِيها رِزْقُها مِن كُلِّ مَكانٍ، وذَلِكَ أنَّهُمُ اسْتَعْصَوْا عَلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأبَوْا إلّا خِلافَهُ، فَدَعا عَلَيْهِمْ بِسَبْعٍ كَسَبْعِ يُوسُفَ، فَأصابَتْهم سَنَةٌ أذْهَبَتْ كُلَّ شَيْءٍ لَهم، فَأكَلُوا العِلْهِزَ: ) هو وبَرُ البَعِيرِ يُخْلَطُ بِدَمِهِ إذا نُحِرَ ) وقَوْلُهُ: ﴿والخَوْفِ﴾ وذَلِكَ أنَّهم بَدَّلُوا بِأمْنِهِمْ خَوْفًا مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وأصْحابِهِ حِينَ هاجَرُوا إلى المَدِينَةِ، مِن سَطْوَتِهِ وسَراياهُ وجُيُوشِهِ، وجَعَلَ كُلَّ ما لَهم في دَمارٍ وسَفالٍ. حَتّى فَتَحَها اللَّهُ عَلَيْهِمْ. وذَلِكَ بِسَبَبِ صَنِيعِهِمْ وبَغْيِهِمْ وتَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ ﷺ الَّذِي بَعَثَهُ اللَّهُ فِيهِمْ مِنهم. وامْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ في قَوْلِهِ: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلى المُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولا مِن أنْفُسِهِمْ﴾ [آل عمران: ١٦٤] الآيَةَ. وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الألْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أنْـزَلَ اللَّهُ إلَيْكم ذِكْرًا﴾ [الطلاق: ١٠] ﴿رَسُولا﴾ [الطلاق: ١١] وقَوْلِهِ: ﴿كَما أرْسَلْنا فِيكم رَسُولا مِنكم يَتْلُو عَلَيْكم آياتِنا ويُزَكِّيكم ويُعَلِّمُكُمُ الكِتابَ والحِكْمَةَ﴾ [البقرة: ١٥١] إلى قَوْلِهِ: ﴿ولا تَكْفُرُونِ﴾ [البقرة: ١٥٢] وكَمًّا أنَّهُ انْعَكَسَ عَلى الكافِرِينَ حالُهم فَخافُوا بَعْدَ الأمْنِ، وجاعُوا بَعْدَ الرَّغَدِ؛ بَدَّلَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ مِن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أمْنًا، ورَزَقَهم بَعْدَ العَيْلَةِ، وجَعَلَهم أُمَراءَ النّاسِ وحُكّامَهم وسادَتَهم وقادَتَهم وأئِمَّتَهُمُ. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب