الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٦٨-٧٧] ﴿قالَ إنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ﴾ ﴿واتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِ﴾ [الحجر: ٦٩] ﴿قالُوا أوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالَمِينَ﴾ [الحجر: ٧٠] ﴿قالَ هَؤُلاءِ بَناتِي إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ [الحجر: ٧١] ﴿لَعَمْرُكَ إنَّهم لَفي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٧٢] ﴿فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ﴾ [الحجر: ٧٣] ﴿فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: ٧٤] ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥] ﴿وإنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ [الحجر: ٧٦] ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ٧٧] . (p-٣٧٦٢)﴿قالَ إنَّ هَؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ﴾ أيْ: بِالإساءَةِ إلَيْهِمْ، فَإنَّ اَلْإساءَةَ إلَيْهِمْ فَضِيحَةٌ لِلْمُضِيفِ. ﴿واتَّقُوا اللَّهَ ولا تُخْزُونِ﴾ [الحجر: ٦٩] ﴿قالُوا أوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالَمِينَ﴾ [الحجر: ٧٠] أيْ: عَنْ أنْ تُجِيرَ أحَدًا مِنهم، أوْ تَدْفَعَ عَنْهم، أوْ تَمْنَعَ بَيْنَنا وبَيْنَهم، فَإنَّهم كانُوا يَتَعَرَّضُونَ لِكُلِّ أحَدٍ. وكانَ يَقُومُ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِالنَّهْيِ عَنِ اَلْمُنْكَرِ والحَجْرِ بَيْنَهم وبَيْنَ اَلْمُتَعَرِّضِ لَهُ. فَأوْعَدُوهُ وقالُوا: ﴿لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ المُخْرَجِينَ﴾ [الشعراء: ١٦٧] أفادَهُ اَلزَّمَخْشَرِيُّ. ﴿قالَ هَؤُلاءِ بَناتِي إنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ﴾ [الحجر: ٧١] تَقَدَّمَ اَلْكَلامُ عَلَيْهِ في سُورَةِ هُودٍ مُفَصَّلًا. ﴿لَعَمْرُكَ﴾ [الحجر: ٧٢] قَسَمٌ بِحَياةِ اَلنَّبِيِّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، اِعْتَرَضَ بِهِ تَعَبًا مِن شِدَّةِ غَفْلَتِهِمْ وتَكْرِيمًا لِلْمُخاطَبِ: ﴿إنَّهم لَفي سَكْرَتِهِمْ﴾ [الحجر: ٧٢] أيْ: غَفْلَتِهِمُ اَلَّتِي ذَهَبَتْ مَعَها أحْلامَهم: ﴿يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٧٢] أيْ: يَتَرَدَّدُونَ فَلا يَفْهَمُونَ ما يُقالُ لَهم. ولَمّا لَمْ يَسْمَعُوا مِنهُ اَلنَّصِيحَةَ اَلْمُبْقِيَةَ لَهم؛ أسْمَعَهُمُ اَللَّهُ اَلصَّيْحَةَ اَلْمُهْلِكَةَ لَهم. ﴿فَأخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ﴾ [الحجر: ٧٣] أيْ: صَيْحَةُ اَلْعَذابِ: ﴿مُشْرِقِينَ﴾ [الحجر: ٧٣] أيْ: داخِلِينَ في وقْتِ شُرُوقِ اَلشَّمْسِ. ﴿فَجَعَلْنا﴾ [الحجر: ٧٤] أيْ: مِن تِلْكَ اَلصَّيْحَةِ اَلْمُحَرِّكَةِ لِلْأرْضِ: ﴿عالِيَها سافِلَها﴾ [الحجر: ٧٤] قالَ المَهايِمِيُّ: لِجَعْلِهِمُ اَلرِّجالَ اَلْعالِينَ كالنِّساءِ اَلسّافِلاتِ. ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِن سِجِّيلٍ﴾ [الحجر: ٧٤] أيْ: طِينٍ مُتَحَجِّرٍ؛ لِرَجْمِهِمْ عَلى لُوُاطِهِمْ. ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥] أيِ: اَلنّاظِرِينَ بِطَرِيقٍ في اَلْآياتِ. ﴿وإنَّها﴾ [الحجر: ٧٦] يَعْنِي (p-٣٧٦٣)مَدِينَةَ قَوْمِ لُوطٍ اَلْمُدَمَّرَةَ: ﴿لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ﴾ [الحجر: ٧٦] أيْ: ثابِتٍ يَسْلُكُهُ اَلنّاسُ، لَمْ يَنْدَرِسْ بَعْدُ، وهم يُبْصِرُونَ تِلْكَ اَلْآثارَ. قالَ اَلزَّمَخْشَرِيُّ: وهو تَنْبِيهٌ لِقُرَيْشٍ، كَقَوْلِهِ: ﴿وإنَّكم لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ﴾ [الصافات: ١٣٧] ﴿وبِاللَّيْلِ أفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات: ١٣٨] ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [الحجر: ٧٧] أيْ: في هَلاكِهِمْ لَعِبْرَةً لَهم. تَنْبِيهانِ: اَلْأوَّلُ: قالَ اِبْنُ اَلْقَيِّمِ في " أقْسامِ اَلْقُرْآنِ ": أكْثَرُ اَلْمُفَسِّرِينَ مِنَ اَلسَّلَفِ والخَلَفِ، بَلْ لا يَعْرِفُ اَلسَّلَفُ فِيهِ نِزاعًا - أنَّ هَذا - يَعْنِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لَعَمْرُكَ﴾ [الحجر: ٧٢] قَسَمٌ مِنَ اَللَّهِ بِحَياةِ رَسُولِهِ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وهَذا مِن أعْظَمِ فَضائِلِهِ أنْ يُقْسِمَ اَلرَّبُّ عَزَّ وجَلَّ بِحَياتِهِ. وهَذِهِ مَزِيَّةٌ لا تُعْرَفُ لِغَيْرِهِ. ولَمْ يُوَفَّقِ اَلزَّمَخْشَرِيُّ لِذَلِكَ، فَصَرَفَ اَلْقَسَمَ إلى أنَّهُ بِحَياةِ لُوطٍ وإنَّهُ مِن قَوْلِ اَلْمَلائِكَةِ. فَقالَ: هو عَلى إرادَةِ اَلْقَوْلِ أيْ: قالَتِ اَلْمَلائِكَةُ لِلُوطٍ عَلَيْهِ اَلسَّلامُ: ﴿لَعَمْرُكَ﴾ [الحجر: ٧٢] اَلْآيَةَ، ولَيْسَ في اَللَّفْظِ ما يَدُلُّ عَلى واحِدٍ مِنَ اَلْأمْرَيْنِ، بَلْ ظاهِرُ اَللَّفْظِ وسِياقُهُ إنَّما يَدُلُّ عَلى أنَّ ما فَهِمَهُ اَلسَّلَفُ أطْيَبُ، لا أهْلُ اَلتَّعْطِيلِ والِاعْتِزالِ. قالَ اِبْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُما: ﴿لَعَمْرُكَ﴾ [الحجر: ٧٢] أيْ: حَياتُكَ، قالَ: وما أقْسَمَ اَللَّهُ تَعالى بِحَياةِ نَبِيٍّ غَيْرِهِ. والَعَمْرُ والعُمْرُ واحِدٌ، إلّا أنَّهم خَصُّوا اَلْقَسَمَ بِالمَفْتُوحِ لِإثْباتِ اَلْأخَفِّ؛ لِكَثْرَةِ دَوْرِ اَلْخَلَفِ عَلى ألْسِنَتِهِمْ. وأيْضًا فَإنَّ اَلْعُمْرَ حَياةٌ مَخْصُوصَةٌ، فَهو عُمْرٌ شَرِيفٌ عَظِيمٌ أهْلٌ أنْ يُقْسَمَ بِهِ؛ لِمَزِيَّتِهِ عَلى كُلِّ عُمْرٍ مِن أعْمارِ بَنِي آدَمَ. ولا رَيْبَ أنَّ عُمْرَهُ وحَيّاتَهُ مِن أعْظَمِ اَلنِّعَمِ والآياتِ، فَهو أهْلٌ أنْ يُقْسَمَ بِهِ. والقَسَمُ بِهِ أوْلى مِنَ اَلْقَسَمِ بِغَيْرِهِ مِنَ اَلْمَخْلُوقاتِ. ثُمَّ (p-٣٧٦٤)قالَ اِبْنُ اَلْقَيِّمِ: وإنَّما وصَفَ اَللَّهُ سُبْحانَهُ اَللُّوطِيَّةَ بِالسَّكْرَةِ؛ لِأنَّ لِلْعِشْقِ سَكْرَةً مِثْلَ سَكْرَةِ اَلْخَمْرِ كَما قالَ اَلْقائِلُ: ؎سُكْرانِ" سُكْرُ هَوًى وسُكْرُ مُدامَةٍ ومَتى إفاقَةُ مَن بِهِ سُكْرانِ اَلثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥] قالَ اَلسُّيُوطِيُّ في " اَلْإكْلِيلِ ": هَذِهِ اَلْآيَةُ أصْلٌ في اَلْفِراسَةِ. أخْرَجَ اَلتِّرْمِذِيُّ مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا: ««اِتَّقُوا فِراسَةَ اَلْمُؤْمِنِ فَإنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اَللَّهِ»»، ثُمَّ قَرَأ هَذِهِ اَلْآيَةَ. وقَدْ كانَ بَعْضُ قُضاةِ اَلْمالِكِيَّةِ يَحْكُمُ بِالفِراسَةِ في اَلْأحْكامِ، جَرْيًا عَلى طَرِيقِ إياسِ بْنِ مُعاوِيَةَ. اِنْتَهى. وقَدْ أجادَ اَلْكَلامَ في اَلْفِراسَةِ اَلرّاغِبُ اَلْأصْفَهانِيُّ في كِتابِ (اَلذَّرِيعَةِ) حَيْثُ قالَ في اَلْبابِ اَلسّابِعِ: وأمّا اَلْفِراسَةُ، فالِاسْتِدْلالُ بِهَيْئَةِ اَلْإنْسانِ وأشْكالِهِ وألْوانِهِ وأقْوالِهِ، عَلى أخْلاقِهِ وفَضائِلِهِ ورَذائِلِهِ. ورُبَّما يُقالُ: هي صِناعَةٌ صَيّادَةٌ لِمَعْرِفَةِ أخْلاقِ اَلْإنْسانِ وأحْوالِهِ. وقَدْ نَبَّهَ اَللَّهُ تَعالى عَلى صِدْقِها بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ﴾ [الحجر: ٧٥] وقَوْلِهِ: ﴿تَعْرِفُهم بِسِيماهُمْ﴾ [البقرة: ٢٧٣] وقَوْلِهِ: ﴿ولَتَعْرِفَنَّهم في لَحْنِ القَوْلِ﴾ [محمد: ٣٠] ولَفْظُها مِن قَوْلِهِمْ (فَرَسَ اَلسَّبْعُ اَلشّاةَ) فَكَأنَّ اَلْفِراسَةَ اِخْتِلاسُ اَلْمَعارِفِ، وذَلِكَ ضَرْبانِ: ضَرْبٌ يَحْصُلُ لِلْإنْسانِ عَنْ خاطِرٍ لا يَعْرِفُ سَبَبَهُ، وذَلِكَ ضَرْبٌ مِنَ اَلْإلْهامِ، بَلْ ضَرْبٌ مِنَ اَلْوَحْيِ، وإيّاهُ عَنى اَلنَّبِيُّ صَلّى اَللَّهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: ««اَلْمُؤْمِنُ (p-٣٧٦٥)يَنْظُرُ بِنُورِ اَللَّهِ»» وهو اَلَّذِي يُسَمّى صاحِبُهُ: اَلْمُرَوِّعُ والمُحَدِّثُ. وقالَ عَلَيْهِ اَلصَّلاةُ والسَّلامُ: ««إنْ يَكُنْ في هَذِهِ اَلْأُمَّةِ مُحَدِّثٌ فَهو عُمَرُ»» . وقِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلا وحْيًا أوْ مِن وراءِ حِجابٍ﴾ [الشورى: ٥١] اَلْآيَةَ، إنَّما كانَ وحْيًا بِإلْقائِهِ في اَلرَّوْعِ، وذَلِكَ لِلْأنْبِياءِ كَما قالَ عَزَّ وجَلَّ: ﴿نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ [الشعراء: ١٩٣] ﴿عَلى قَلْبِكَ﴾ [الشعراء: ١٩٤] وقَدْ يَكُونُ بِإلْهامٍ في حالِ اَلْيَقَظَةِ، وقَدْ يَكُونُ في حالِ اَلْمَنامِ. ولِأجْلِ ذَلِكَ قالَ عَلَيْهِ اَلصَّلاةُ واَلسَّلامُ: ««اَلرُّؤْيا اَلصّادِقَةُ جُزْءٌ مِن سِتَّةٍ وأرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ اَلنُّبُوَّةِ»» . والضَّرْبُ اَلثّانِي مِنَ اَلْفِراسَةِ يَكُونُ بِضاعَةً مُتَعَلَّمَةً وهي مَعْرِفَةُ ما بَيْنَ اَلْألْوانِ والأشْكالِ، وما بَيْنَ اَلْأمْزِجَةِ والأخْلاقِ والأفْعالِ اَلطَّبِيعِيَّةِ. ومَن عَرَفَ ذَلِكَ كانَ ذا فَهْمٍ ثاقِبٍ بِالفِراسَةِ. وقَدْ عُمِلَ في ذَلِكَ كُتُبٌ، مَن تَتَبَّعَ اَلصَّحِيحَ مِنها اِطَّلَعَ عَلى صِدْقِ ما ضَمَّنُوهُ. والفِراسَةُ ضَرْبٌ مِنَ اَلظَّنِّ. وسُئِلَ بَعْضُ مُحَصِّلَةِ اَلصُّوفِيَّةِ عَنِ اَلْفَرْقِ بَيْنَهُما فَقالَ: اَلظَّنُّ بِتَقَلُّبِ اَلْقَلْبِ، والفِراسَةُ بِنُورِ اَلرَّبِّ. ومَن قَوِيَ فِيهِ نُورُ اَلرُّوحِ اَلْمَذْكُورُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ [الحجر: ٢٩] وكانَ مِمَّنْ وصَفَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿أفَمَن كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِن رَبِّهِ ويَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنهُ﴾ [هود: ١٧] وكانَ ذَلِكَ اَلنُّورُ شاهِدًا؛ أصابَ فِيما حَكَمَ بِهِ. ومِنَ اَلْفِراسَةِ قَوْلُهُ عَلَيْهِ اَلسَّلامُ في اَلْمُتَلاعِنَيْنِ: ««إنَّ أمْرَهُما بَيِّنٌ، لَوْلا حُكْمُ اَللَّهِ»» . (p-٣٧٦٦)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب