الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٨٣ ] ﴿قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ ﴿قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ مَعْناهُ: فَرَجَعُوا إلى أبِيهِمْ، فَقالُوا لَهُ ما قالَ لَهم أخُوهم. فَقالَ: بَلْ سَوَّلَتْ، أيْ زَيَّنَتْ وسَهَّلَتْ أنْفُسُكم أمْرًا، فَفَعَلْتُمُوهُ. (p-٣٥٨١)لَطِيفَةٌ: قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أمْرًا أرَدْتُمُوهُ، وإلّا فَما أدْرى ذَلِكَ الرَّجُلَ أنَّ السّارِقَ يُؤْخَذُ بِسَرِقَتِهِ، لَوْلا فَتْواكم وتَعْلِيمِكُمْ؟!. قالَ النّاصِرُ: هَذا مِنَ الزَّمَخْشَرِيِّ إسْلافُ جَوابٍ عَنْ سُؤالٍ، كَأنَّ قائِلًا يَقُولُ: هم في الوَقْعَةِ الأُولى سَوَّلَتْ لَهم أنْفُسُهم أمْرًا بِلا مِراءٍ، وأمّا في هَذِهِ الوَقْعَةِ الثّانِيَةِ، فَلَمْ يَتَعَمَّدُوا في حَقِّ بِنْيامِينَ سُوءًا، ولا أخْبَرُوا أباهم إلّا بِالواقِعِ عَلى جَلِيَّتِهِ، وما تَرَكُوهُ بِمِصْرَ إلّا مَغْلُوبِينَ عَنِ اسْتِصْحابِهِ، فَما وجْهُ قَوْلِهِ ثانِيًا: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ كَما قالَ لَهم أوَّلًا؟ وإذا ورَدَ السُّؤالُ عَلى هَذا التَّقْرِيرِ؛ فَلا بُدَّ مِن زَيْدِ بَسْطٍ في الجَوابِ، فَنَقُولُ: كانُوا عِنْدَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ حِينَئِذٍ مُتَّهَمِينَ، وهم قَمِنٌ بِاتِّهامِهِ لِما أسْلَفُوهُ في حَقِّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقامَتْ عِنْدَهُ قَرِينَةٌ تُؤَكِّدُ نَفْيَ التُّهْمَةِ وتُقَوِّيها، وهي أخْذُ المَلِكِ لَهُ في السَّرِقَةِ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إلّا مِن دِينِ يَعْقُوبَ وحْدَهُ، لا مِن دِينِ غَيْرِهِ مِنَ النّاسِ، ولا مِن عادَتِهِمْ. وإلى ذَلِكَ وقَعَتِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما كانَ لِيَأْخُذَ أخاهُ في دِينِ المَلِكِ﴾ [يوسف: ٧٦] تَنْبِيهًا مِنَ اللَّهِ تَعالى عَلى وجْهِ اتِّهامِ يَعْقُوبَ لَهُمْ، فَعَلِمَ أنَّ المَلِكَ إنَّما فَعَلَ ذَلِكَ بِفَتْواهم لَهُ بِهِ، وظَنَّ أنَّهم أفْتَوْهُ بِذَلِكَ بَعْدَ ظُهُورِ السَّرِقَةِ تَعَمُّدًا؛ لِيَتَخَلَّفَ أخُوهُمْ، وكانَ الواقِعُ أنَّهُمُ اسْتُفْتُوا مِن قَبْلِ أنْ يَدَّعِيَ عَلَيْهِمُ السَّرِقَةَ، فَذَكَرُوا ما عِنْدَهُمْ، ولَمْ يَشْعُرُوا أنَّ المَقْصُودَ إلْزامُهم بِما قالُوا. واتِّهامُ مَن هو بِحَيْثُ تَتَطَرَّقُ التُّهْمَةُ إلَيْهِ لا حَرَجَ فِيهِ، وخُصُوصًا فِيما يَرْجِعُ إلى الوالِدِ مِنَ الوَلَدِ. ويُحْتَمَلُ -واللَّهُ أعْلَمُ- أنْ يَكُونَ الوَجْهُ الَّذِي سَوَّغَ لَهُ هَذا القَوْلَ في حَقِّهِمْ، أنَّهم جَعَلُوا مُجَرَّدَ وُجُودِ الصُّواعِ في رَحْلِ مَن يُوجَدُ في رَحْلِهِ، سَرِقَةً، مِن غَيْرِ أنْ يُحِيلُوا الحُكْمَ عَلى ثُبُوتِ كَوْنِهِ سارِقًا بِوَجْهٍ مَعْلُومٍ، وهَذا في شَرْعِنا لا يُثْبِتُ السَّرِقَةَ عَلَيْهِ -واللَّهُ أعْلَمُ-. وقَوْلُهُ: ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكم أنْفُسُكم أمْرًا﴾ واقِعٌ بِمَكانِهِ مِن حالِهِمْ، وإنْ كانَ شَرْعُهم يَقْتَضِي ذَلِكَ مُخالِفًا لِشَرْعِنا، فالعُمْدَةُ عَلى الجَوابِ الأوَّلِ. اهـ. (p-٣٥٨٢)وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ﴾ أيْ بِلا جَزَعٍ ﴿عَسى اللَّهُ أنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا﴾ أيْ بِيُوسُفَ وأخِيهِ المُتَوَقِّفِ بِمِصْرَ، فَتَذْهَبُ أحْزانُهُ بِمَرَّةٍ واحِدَةٍ ﴿إنَّهُ هو العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ أيِ العَلِيمُ بِحالِي وحالِهِمُ، الحَكِيمُ في تَشْدِيدِ الأمْرِ لِيَنْظُرَ مِقْدارَ الصَّبْرِ فَيَفِيضُ بِقَدْرِهِ الأجْرُ، ومِنَ الأجْرِ المُعَجَّلِ تَعْجِيلُ الفَرَجِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب