الباحث القرآني

(p-٣٥٥٩)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٥٥ ] ﴿قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ ﴿قالَ﴾ أيْ يُوسُفُ لِلْمَلِكِ ﴿اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الأرْضِ﴾ أيْ ولِّنِي خَزائِنَ أرْضِكَ. يَعْنِي جَمِيعَ الغَلّاتِ لِما يَسْتَقْبِلُونَهُ مِنَ السِّنِينَ الَّتِي أخْبَرَهم بِشَأْنِها، فَيَتَصَرَّفُ لَهم عَلى الوَجْهِ الأرْشَدِ والأصْلَحِ، ثُمَّ بَيَّنَ اقْتِدارَهُ في ذَلِكَ فَقالَ: ﴿إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ أيْ أمِينٌ أحْفَظُ ما تَسْتَحْفِظُنِيهِ، عالِمٌ بِوُجُوهِ التَّصَرُّفِ فِيهِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وصَفَ نَفْسَهُ بِالأمانَةِ والكِفايَةِ اللَّتَيْنِ هم طُلْبَةُ المُلُوكِ مِمَّنْ يُوَلُّونَهُ. وإنَّما قالَ ذَلِكَ لِيَتَوَصَّلَ إلى إمْضاءِ أحْكامِ اللَّهِ تَعالى، وإقامَةِ الحَقِّ، وبَسْطِ العَدْلِ. والتَّمَكُّنِ مِمّا لِأجْلِهِ تُبْعَثُ الأنْبِياءُ إلى العِبادِ، ولِعِلْمِهِ أنَّ أحَدًا غَيْرَهُ لا يَقُومُ مَقامَهُ في ذَلِكَ، فَطَلَبَ التَّوْلِيَةَ ابْتِغاءَ وجْهِ اللَّهِ، لا لِحُبِّ المُلْكِ والدُّنْيا. فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ جازَ أنْ يَتَوَلّى عَمَلًا مِن يَدِ كافِرٍ، ويَكُونُ تَبَعًا لَهُ، وتَحْتَ أمْرِهِ وطاعَتِهِ؟ قُلْتُ: رَوى مُجاهِدٌ أنَّهُ كانَ قَدْ أسْلَمَ، وعَنْ قَتادَةَ هو دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَتَوَلّى الإنْسانُ عَمَلًا مِن يَدِ سُلْطانٍ جائِرٍ. وقَدْ كانَ السَّلَفُ يَتَوَلَّوْنَ القَضاءَ مِن جِهَةِ البُغاةِ ويَرَوْنَهُ. وإذا عَلِمَ النَّبِيُّ أوِ العالِمُ أنَّهُ لا سَبِيلَ إلى الحُكْمِ بِأمْرِ اللَّهِ ودَفْعِ الظُّلْمِ إلّا بِتَمْكِينِ المَلِكِ الكافِرِ أوِ الفاسِقِ، فَلَهُ أنْ يَسْتَظْهِرَ بِهِ. وقِيلَ: كانَ المَلِكُ يَصْدُرُ عَنْ رَأْيِهِ، ولا يَعْتَرِضُ عَلَيْهِ في كُلِّ ما رَأى، فَكانَ في حُكْمِ التّابِعِ لَهُ والمُطِيعِ. انْتَهى. وهَذِهِ الآيَةُ أصْلٌ في طَلَبِ الوِلايَةِ كالقَضاءِ ونَحْوِهِ، لِمَن وثُقَ مِن نَفْسِهِ بِالقِيامِ بِحُقُوقِهِ، وجَوازِ التَّوْلِيَةِ عَنِ الكافِرِ والظّالِمِ. وأصْلٌ في جَوازِ مَدْحِ الإنْسانِ نَفْسَهُ لِمَصْلَحَتِهِ، وفي أنَّ المُتَوَلِّيَ أمْرًا؛ شَرَطَهُ أنْ يَكُونَ عالِمًا بِهِ، خَبِيرًا، ذَكِيَّ الفِطْنَةِ. كَذا في (الإكْلِيلِ). قالَ أبُو السُّعُودِ: وإنَّما لَمْ يَذْكُرْ إجابَةَ المَلِكِ إلى ما سَألَهُ، عَلَيْهِ السَّلامُ، مِن جَعْلِهِ عَلى (p-٣٥٦٠)خَزائِنِ الأرْضِ، إيذانًا بِأنَّ ذَلِكَ أمْرٌ لا مَرَدَّ لَهُ، غَنِيٌّ عَنِ التَّصْرِيحِ، ولا سِيَّما بَعْدَ تَقْدِيمِ ما يَنْدَرِجُ تَحْتَهُ مِن أحْكامِ السَّلْطَنَةِ بِحَذافِيرِها، مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أمِينٌ﴾ [يوسف: ٥٤] ولِلتَّنْبِيهِ عَلى أنَّ كُلَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وإنَّما المَلِكُ آلَةٌ في ذَلِكَ. تَنْبِيهٌ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: خَزائِنُ الأرْضِ هي الأهْرامُ الَّتِي يَجْمَعُ فِيها الغَلّاتِ..... إلَخْ. ولَمْ أرَ الآنَ مُسْتَنَدَهُ في كَوْنِ الأهْرامِ كانَتْ مَجْمَعَ الغَلّاتِ، ولَمْ أقِفْ عَلَيْهِ في كَلامِ غَيْرِهِ. و(الأهْرامُ) بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، جَمْعُ هَرَمٍ بِفَتْحَتَيْنِ، وهي مَبانٍ مُرَبَّعَةُ الدَّوائِرِ، مَخْرُوطِيَّةُ الشَّكْلِ، بَقِيَ مِنها الآنَ ثَلاثَةٌ في الجِيزَةِ، بَعِيدَةٌ أمْيالًا عَنِ القاهِرَةِ، مَعْدُودَةٌ مِن غَرائِبِ الدُّنْيا، دُعِيتُ لِرُؤْياها أيّامَ رِحْلَتِي لِلدِّيارِ المِصْرِيَّةِ عامَ ١٣٢١ هـ. وقَدِ اسْتَقَرَّ رَأْيُ المُتَأخِّرِينَ في تَحْقِيقِ شَأْنِها عَلى أنَّها كانَتْ مَدافِنَ لِمُلُوكِهِمْ. فَفِي كِتابِ (الأثَرُ الجَلِيلُ لِقُدَماءِ وادِي النِّيلِ): جَمِيعُ الأهْرامِ لَيْسَتْ إلّا مَقابِرَ مُلُوكِيَّةً آثَرَ أصْحابُها أنْ يَتَمَيَّزُوا بِها بَعْدَ مَوْتِهِمْ عَنْ سائِرِ النّاسِ، كَما تَمَيَّزُوا عَنْهم مُدَّةَ حَياتِهِمْ، وتَوَخَّوْا أنْ يَبْقى ذِكْرُهم بِسَبَبِها عَلى تَطاوُلِ الدُّهُورِ، وتَراخِي العُصُورِ، وقَدْ أجْمَعَ مُؤَرِّخُو هَذا العَصْرِ عَلى أنَّ الهَرَمَ الأكْبَرَ قَبْرٌ لِلْمَلِكِ (خُوفُو) والثّانِي (خَفْرَعَ) والثّالِثَ لِلْمَلِكِ (مَنقَرَعَ) وجَمِيعُهم مِنَ العائِلَةِ المُنْفِيسِيَّةِ. ولا عِبْرَةَ بِقَوْلِ مَن زَعَمَ أنَّها مَعابِدُ أوْ مَراصِدُ لِلْكَواكِبِ، أوْ مَدْرَسَةٌ لِلْمَعارِفِ الكَهَنُوتِيَّةِ، أوْ غَيْرُ ذَلِكَ. انْتَهى. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب