الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٥٤ ] ﴿وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمّا كَلَّمَهُ قالَ إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أمِينٌ﴾ ﴿وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي﴾ أيْ أخُصُّهُ بِها، دُونَ العَزِيزِ، جَرْيًا عَلى عادَةِ المُلُوكِ مِن الِاسْتِئْثارِ بِالنَّفِيسِ العَزِيزِ. قالَ ذَلِكَ لَمّا تَحَقَّقَ بَراءَتَهُ مِمّا نُسِبَ إلَيْهِ، وكَرَمَ (p-٣٥٥٨)نَفْسِهِ، وسِعَةَ عِلْمِهِ: ﴿فَلَمّا كَلَّمَهُ﴾ أيْ فَلَمّا أتَوْا بِهِ وكَلَّمَهُ، أيْ خاطَبَهُ المَلِكُ وعَرَفَهُ، وشاهَدَ فَضْلَهُ وحِكْمَتَهُ وبَراءَتَهُ -وجَوَّزَ أنْ يَكُونَ فاعِلَ (كَلَّمَهُ) يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلامُ -: ﴿قالَ إنَّكَ اليَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ﴾ أيْ ذُو مَكانَةٍ ومَنزِلٍ ﴿أمِينٌ﴾ أيْ مُؤْتَمَنٌ عَلى كُلِّ شَيْءٍ. رُوِيَ أنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا حَضَرَ المَلِكَ، وعَبَّرَ لَهُ رُؤْياهُ ابْتَهَجَ بِحَدِيثِهِ هو وخاصَّتُهُ، وقالَ لَهُمْ: هَلْ نَجِدُ مِثْلَهُ رَجُلًا مَهْبِطًا لِلْإمْدادِ الرَّبّانِيِّ؟ وقالَ لِيُوسُفَ: بَعْدَ أنْ عَرَّفَكَ اللَّهُ هَذا فَلا يَكُونُ حَكِيمٌ مِثْلَكَ، وأنْتَ عَلى بَيْتِي، وإلى كَلِمَتِكَ تَنْقادُ رَعِيَّتِي، ولا أكُونُ أعْظَمَ مِنكَ إلّا بِعَرْشِي، وقَدْ أقَمْتُكَ عَلى جَمِيعِ أرْضِ مِصْرَ. ونَزَعَ خاتَمَهُ مِن يَدِهِ، ووَضَعَهُ في إصْبَعِهِ، وألْبَسَهُ ثِيابَ بَزٍّ، وجَعَلَ طَوْقًا مِن ذَهَبٍ في عُنُقِهِ وأرْكَبَهُ مَرْكِبَتَهُ، وأمَرَ أنْ يُطافَ بِهِ في شَوارِعِ مِصْرَ، ويُنادى أمامَهُ بِالخُضُوعِ لَهُ، وقالَ لَهُ المَلِكُ: لا يَمْضِي أمْرٌ، ولا يَنْفُذُ شَأْنٌ في مِصْرَ إلّا بِرَأْيِكَ ومَشُورَتِكَ، وسَمّاهُ مُخْلِصَ العالَمِ، وزَوَّجَهُ بِنْتَ أحَدِ العُظَماءِ لَدَيْهِ. وكانَ يُوسُفُ وقْتَئِذٍ ابْنَ ثَلاثِينَ سَنَةً -واللَّهُ أعْلَمُ-. قالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ مَن أمْعَنَ النَّظَرَ في قِصَّةِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، عَلِمَ يَقِينًا أنَّ التَّقِيَّ الأمِينَ لا يُضَيِّعُ اللَّهُ سَعْيَهُ، بَلْ يُحْسِنُ عاقِبَتَهُ، ويُعْلِي مَنزِلَتَهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ، وأنَّ المُعْتَصِمَ بِالصَّبْرِ لا يَخْشى حَدَثانِ الدَّهْرِ وتَجارِبِهِ، ولا يَخافُ صُرُوفَهُ ونَوائِبَهُ، فَإنَّ اللَّهَ يُعَضِّدُهُ ويُنْجِحُ مَسْعاهُ ويُخَلِّدُ ذِكْرَهُ العاطِرَ عَلى مَمَرِّ الأدْهارِ. فَإنَّ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَمّا لَمْ يَخْشَ لِلنَّوائِبِ وعِيدًا ولا لِلتَّجارِبِ تَهْدِيدًا. ولَمْ يَخَفْ لِلسِّجْنِ ظُلْمًا وشَرًّا، ولا لِلتَّنْكِيلِ بِهِ ألَمًا وضُرًّا، بَلْ ألْقى تَوَكُّلَهُ عَلى الرَّبِّ، وصَبَرَ إزاءَ تِلْكَ البَلِيَّةِ ثابِتَ القَلْبِ؛ نالَ بِطَهارَتِهِ وتَقْواهُ تاجَ الفَخْرِ ولِسانِ الصِّدْقِ طُولَ أيّامِ الدَّهْرِ. وها إنَّ فَضِيلَتَهُ لَمْ يَعْفُ جَمِيلَ ذِكْراها مُرُورُ الأيّامِ، ولَمْ يَعْبَثْ بِنَضارَتِها كُرُورُ الأعْوامِ، بَلِ ادُّخِرَتْ لَنا مِثالًا نَقْتَفِي أثَرَهُ عِنْدَ طُرُوءِ التَّجارِبِ، ومَلاذًا نَعُوذُ بِهِ في المِحَنِ والمَصائِبِ، ومُقْتَدًى نَتَدَرَّبُ بِهِ عَلى التَّثَبُّتِ في مَواقِفِ العِثارِ، ونَنْهَجُ مِنهاجَهُ في التَّقْوى وطِيبِ الإزارِ. فَنَنالُ في الدُّنْيا سِمَةَ المَجْدِ، ونَفُوزُ في الآخِرَةِ بِدارِ الخُلْدِ. وقَوْلُهُ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب