الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٢٣ ] ﴿وراوَدَتْهُ الَّتِي هو في بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأبْوابَ وقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ﴾ ﴿وراوَدَتْهُ الَّتِي هو في بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وغَلَّقَتِ الأبْوابَ وقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوايَ إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ﴾ هَذا رُجُوعٌ إلى شَرْحِ ما جَرى عَلى يُوسُفَ في مَنزِلِ العَزِيزِ بَعْدَ ما أمَرَ امْرَأتَهُ بِإكْرامِ مَثْواهُ، مِن مُراوَدَتِها لَهُ وإبائِهِ. (p-٣٥٢٦)والمُراوَدَةُ: المُطالَبَةُ. أيْ: طَلَبَتْ مِنهُ أنْ يُواقِعَها. وتَعْدِيَتُها بِـ (عَنْ) لِتَضْمِينِها مَعْنى المُخادَعَةِ. والعُدُولُ عَنِ التَّصْرِيحِ بِاسْمِها لِلْمُحافَظَةِ عَلى السِّرِّ والسِّتْرِ، وإيرادُ المَوْصُولِ دُونَ امْرَأةِ العَزِيزِ، لِتَقْرِيرِ المُراوَدَةِ. فَإنَّ كَوْنَهُ في بَيْتِها مِمّا يَدْعُو إلى ذَلِكَ. قِيلَ لِامْرَأةٍ: ما حَمَلَكِ عَلى ما لا خَيْرَ فِيهِ؟ قالَتْ: قُرْبَ الوِسادِ، وطُولَ السَّوادِ. ولِإظْهارِ كَمالِ نَزاهَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ -كَما سَيَأْتِي-. و(هَيْتَ) قُرِئَتْ كَـ (لَيْتَ وقِيلَ وحَيْثُ)، وبِكَسْرِ الهاءِ وبِهَمْزَةٍ ساكِنَةٍ بَعْدَها، وفَتْحِ التّاءِ وضَمِّها. وهي في هَذِهِ اللُّغاتِ اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنى (تَعالَ). واللّامُ لِتَبْيِينِ المَفْعُولِ أيِ المُخاطَبُ. ونُقِلَ عَنِ الفَرّاءِ أنَّها لُغَةٌ لَأهِلَ حُورانَ سَقَطَتْ إلى مَكَّةَ فَتَكَلَّمُوا بِها. قالَ ابْنُ الأبْيارِيِّ: هَذا وِفاقٌ بَيْنَ لُغَةِ قُرَيْشٍ وأهْلِ حُورانَ، كَما اتَّفَقَتْ لُغَةُ العَرَبِ والرُّومِ في (القِسْطاسِ) ونَحْوِهِ. و(مَعاذَ اللَّهِ) مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِ. أيْ: أعُوذُ بِاللَّهِ مَعاذًا مِمّا تَدْعِينَنِي إلَيْهِ، لِكَوْنِهِ زِنًى وخِيانَةً فِيما اؤْتُمِنَتْ عَلَيْهِ، وضَرًّا لِمَن تَوَقَّعَ النَّفْعَ، وإساءَةً إلى المُحْسِنِ. قالَ أبُو السُّعُودِ: وهَذا اجْتِنابٌ مِنهُ عَلى أتَمِّ الوُجُوهِ، وإشارَةٌ إلى التَّعْلِيلِ بِأنَّهُ مُنْكَرٌ هائِلٌ! يَجِبُ أنْ يُعاذَ بِاللَّهِ تَعالى لِلْخَلاصِ مِنهُ، وما ذاكَ إلّا لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ قَدْ شاهَدَهُ بِما أراهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ البُرْهانِ النَّيِّرِ عَلى ما هو عَلَيْهِ في حَدِّ ذاتِهِ مِن غايَةِ القُبْحِ، ونِهايَةِ السُّوءِ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ رَبِّي أحْسَنَ مَثْوايَ﴾ تَعْلِيلٌ لِلِامْتِناعِ بِبَعْضِ الأسْبابِ الخارِجِيَّةِ، مِمّا عَسى أنْ يَكُونَ مُؤَثِّرًا عِنْدَها، وداعِيًا لَها إلى اعْتِبارِهِ بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلى سَبَبِهِ الذّاتِيِّ الَّذِي تَكادُ تَقْبَلُهُ لِما سَوَّلَتْهُ لَها نَفْسُها. والضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ. وفائِدَةُ تَصْدِيرِ الجُمْلَةِ بِهِ؛ الإيذانُ بِفَخامَةِ مَضْمُونِها، مَعَ ما فِيهِ مِن زِيادَةِ تَقْرِيرِهِ في الذِّهْنِ، فَإنَّ الضَّمِيرَ لا يُفْهَمُ مِنهُ مِن أوَّلِ الأمْرِ إلّا شَأْنٌ مُبْهَمٌ لَهُ خَطَرٌ، فَيَبْقى الذِّهْنُ مُتَرَقِّبًا لِما يَعْقُبُهُ، فَيَتَمَكَّنُ عِنْدَ وُرُودِهِ لَهُ فَضْلَ تَمَكُّنٍ. فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنَّ الشَّأْنَ الخَطِيرَ هَذا، وهو رَبِّي، أيْ سَيِّدِي العَزِيزُ، أحْسَنَ مَثْوايَ، أيْ تَعَهُّدِي، حَيْثُ أمَرَكِ بِإكْرامِي، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ أُسِيءَ إلَيْهِ بِالخِيانَةِ في حَرَمِهِ؟ وفِيهِ إرْشادٌ لَها إلى رِعايَةِ (p-٣٥٢٧)حَقِّ العَزِيزِ بِألْطَفِ وجْهٍ. وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ، و(رَبِّي) خَبَرٌ، و(إنَّ)، و(أحْسَنَ مَثْوايَ) خَبَرٌ ثانٍ. أوْ هو الخَبَرُ والأوَّلُ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ. والمَعْنى: أنَّ الحالَ هَكَذا، فَكَيْفَ أعْصِيهِ بِارْتِكابِ تِلْكَ الفاحِشَةِ الكَبِيرَةِ؟ وفِيهِ تَحْذِيرٌ لَها مِن عِقابِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ، فَفي الِاقْتِصارِ عَلى ذِكْرِ هَذِهِ الحالَةِ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِلِامْتِناعِ عَمّا دَعَتْهُ إلَيْهِ؛ إيذانٌ بِأنَّ هَذِهِ المَرْتَبَةَ مِنَ البَيانِ كافِيَةٌ في الدَّلالَةِ عَلى اسْتِحالَتِهِ، وكَوْنِهِ مِمّا لا يَدْخُلُ تَحْتَ الوُقُوعِ أصْلًا. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّهُ لا يُفْلِحُ الظّالِمُونَ﴾ تَعْلِيلٌ لِلِامْتِناعِ المَذْكُورِ، غِبَّ تَعْلِيلٍ. و(الفَلاحُ) الظَّفَرُ، أوِ البَقاءُ في الخَيْرِ. ومَعْنى (أفْلَحَ) دَخَلَ فِيهِ، كَأصْبَحَ وأخَواتِهِ. والمُرادُ بِـ (الظّالِمِينَ) كُلُّ مَن ظَلَمَ، كائِنًا مَن كانَ، فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ المُجازُونَ لِلْإحْسانِ بِالإساءَةِ، والعُصاةُ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، دُخُولًا أوَّلِيًّا. وقِيلَ: الزُّناةُ، لِأنَّهم ظالِمُونَ لِأنْفُسِهِمْ، ولِلْمَزْنِيِّ بِأهْلِهِ. انْتَهى. وقالَ بَعْضُ اليَمانِينَ: ثَمَراتُ هَذِهِ الآيَةِ ثَلاثٌ: الأُولى: أنَّ الواجِبَ عِنْدَ الدُّعاءِ إلى المَعْصِيَةِ الِاسْتِعاذَةُ بِاللَّهِ مِن ذَلِكَ، لِيَعْصِمَهُ مِنها، ويَدْخُلُ فِيهِ دُعاءُ الشَّيْطانِ، ودُعاءُ شَياطِينِ الإنْسِ، ودُعاءُ هَوى النَّفْسِ. الثّانِيَةُ: أنَّ السَّيِّدَ والمالِكَ يُسَمّى (رَبًّا). الثّالِثَةُ: أنَّهُ يَجُوزُ تَرْكُ القَبِيحِ لِقُبْحِهِ، ورِعايَةُ حَقِّ غَيْرِهِ، وخَشْيَةُ العارِ، أوِ الفَقْرِ، أوِ الخَوْفِ، ونَحْوَ ذَلِكَ. ولا يُقالُ: التَّشْرِيكُ غَيْرُ مُفِيدٍ في كَوْنِهِ تارِكًا لِلْقَبِيحِ، وأنَّهُ لا يُثابُ. وتَدُلُّ أيْضًا عَلى لُزُومِ حُسْنِ المُكافَأةِ بِالجَمِيلِ، وأنَّ مَن أخَلَّ بِالمُكافَأةِ عَلَيْهِ كانَ ظالِمًا. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب