الباحث القرآني

(p-٦٣١٠)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ النّاسِ مَكِّيَّةٌ، وهي سِتُّ آياتٍ. (p-٦٣١١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١ _٦ ] ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾ ﴿مَلِكِ النّاسِ﴾ [الناس: ٢] ﴿إلَهِ النّاسِ﴾ [الناس: ٣] ﴿مِن شَرِّ الوَسْواسِ الخَنّاسِ﴾ [الناس: ٤] ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاسِ﴾ [الناس: ٥] ﴿مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ [الناس: ٦] ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾ أيْ: ألْجَأُ إلَيْهِ وأسْتَعِينُ بِهِ، و"رَبِّ النّاسِ" الَّذِي يُرَبِّيهِمْ بِقُدْرَتِهِ ومَشِيئَتِهِ وتَدْبِيرِهِ، وهو رَبُّ العالَمِينَ كُلِّهِمْ والخالِقُ لِلْجَمِيعِ. ﴿مَلِكِ النّاسِ﴾ [الناس: ٢] أيِ: الَّذِي يَنْفُذُ فِيهِمْ أمْرُهُ وحُكْمُهُ وقَضاؤُهُ ومَشِيئَتُهُ دُونَ غَيْرِهِ. ﴿إلَهِ النّاسِ﴾ [الناس: ٣] أيْ: مَعْبُودِهِمُ الحَقِّ ومَلاذِهِمْ إذا ضاقَ بِهِمُ الأمْرُ، دُونَ كُلِّ شَيْءٍ سِواهُ. والإلَهُ المَعْبُودُ الَّذِي هو المَقْصُودُ بِالإراداتِ والأعْمالِ كُلِّها. ﴿مِن شَرِّ الوَسْواسِ﴾ [الناس: ٤] أيِ: الشَّيْطانِ ذِي الوَسْوَسَةِ. وقَدْ زَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ ومَن تَبِعَهُ، أنَّ الوَسْواسَ مَصْدَرٌ أُرِيدَ بِهِ المُوَسْوِسَ أوْ بِتَقْدِيرِ: (ذِي). وحَقَّقَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّهُ صِفَةٌ كالثَّرْثارِ، وأنَّ فِعْلالًا (مَصْدَرُ: فَعْلَلَ) بِالكَسْرِ، والمَفْتُوحُ شاذٌّ، وقَدْ بَسَطَ الكَلامَ في ذَلِكَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ في (بَدائِعِ الفَوائِدِ). ﴿الخَنّاسِ﴾ [الناس: ٤] أيِ: الَّذِي عادَتُهُ أنْ يَخْنِسَ -أيْ: يَتَأخَّرُ- إذا ذَكَرَ الإنْسانُ رَبَّهُ، لِأنَّهُ لا يُوَسْوِسُ إلّا مَعَ الغَفْلَةِ، وكُلَّما تَنَبَّهَ العَبْدُ فَذَكَرَ اللَّهَ خَنَسَ. ﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاسِ﴾ [الناس: ٥] أيْ: بِالإلْقاءِ الخَفِيِّ في النَّفْسِ، إمّا بِصَوْتٍ خَفِيٍّ لا يَسْمَعُهُ إلّا مَن أُلْقِيَ إلَيْهِ، وإمّا بِغَيْرِ صَوْتٍ. (p-٦٣١٢)قالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: و(الوَسْوَسَةُ) مِن جِنْسِ (الوَشْوَشَةِ) بِالشِّينِ المُعْجَمَةِ، يُقالُ: (فُلانٌ يُوَسْوِسُ فُلانًا)، و(قَدْ وشْوَشْتُهُ) إذا حَدَّثَهُ سِرًّا في أُذُنِهِ، وكَذَلِكَ الوَسْوَسَةُ، ومِنهُ وسْوَسَةُ الحُلِيِّ، لَكِنْ هو بِالسِّينِ المُهْمَلَةِ، أخَصُّ. وقالَ الإمامُ: إنَّما جَعْلُ الوَسْوَسَةِ في الصُّدُورِ، عَلى ما عُهِدَ في كَلامِ العَرَبِ مِن أنَّ الخَواطِرَ في القَلْبِ، والقَلْبُ مِمّا حَواهُ الصَّدْرُ عِنْدَهُمْ، وكَثِيرًا ما يُقالُ: (إنَّ الشَّكَّ يَحُوكُ في صَدْرِهِ)، وما الشَّكُّ إلّا في نَفْسِهِ وعَقْلِهِ، وأفاعِيلُ العَقْلِ في المُخِّ، وإنْ كانَ يَظْهَرُ لَها أثَرٌ في حَرَكاتِ الدَّمِ وضَرَباتِ القَلْبِ وضِيقِ الصَّدْرِ أوِ انْبِساطِهِ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ﴾ [الناس: ٦] بَيانٌ لِلَّذِي يُوَسْوِسُ عَلى أنَّهُ ضَرْبانِ: ضَرْبٌ مِنَ الجِنَّةِ وهُمُ الخَلْقُ المُسْتَتِرُونَ الَّذِينَ لا نَعْرِفُهُمْ، وإنَّما نَجِدُ في أنْفُسِنا أثَرًا يُنْسَبُ إلَيْهِمْ، وضَرْبٌ مِنَ الإنْسِ كالمُضَلِّلِينَ مِن أفْرادِ الإنْسانِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنِّ يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْلِ غُرُورًا﴾ [الأنعام: ١١٢] وإيحاؤُهم هو وسْوَسَتُهم. قالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: فَإنْ قِيلَ: فَإنْ كانَ أصْلُ الشَّرِّ كُلِّهِ مِنَ الوَسْواسِ الخَنّاسِ، فَلا حاجَةَ إلى ذِكْرِ الِاسْتِعاذَةِ مِن وسْواسِ النّاسِ، فَإنَّهُ تابِعٌ لِوَسْواسِ الجِنِّ؟ قِيلَ: بَلِ الوَسْوَسَةُ نَوْعانِ: نَوْعٌ مِنَ الجِنِّ، ونَوْعٌ مِن نُفُوسِ الإنْسِ. كَما قالَ: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: ١٦] فالشَّرُّ مِنَ الجِهَتَيْنِ جَمِيعًا. والإنْسُ لَهم شَياطِينُ كَما لِلْجِنِّ شَياطِينُ. وقالَ أيْضًا: الَّذِي يُوَسْوِسُ في صُدُورِ النّاسِ نَفْسُهُ لِنَفْسِهِ، وشَياطِينُ الجِنِّ وشَياطِينُ الإنْسِ، فَلَيْسَ مِن شَرْطِ المُوَسْوِسِ أنْ يَكُونَ مُسْتَتِرًا عَنِ البَصَرِ، بَلْ قَدْ يُشاهَدُ. لَطائِفُ: الأُولى: قالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: إنَّما خُصَّ النّاسُ بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهُمُ المُسْتَعِيذُونَ، فَيَسْتَعِيذُونَ (p-٦٣١٣)بِرَبِّهِمُ الَّذِي يَصُونُهُمْ، وبِمَلِكِهِمُ الَّذِي أمَرَهم ونَهاهم وبِإلَهِهِمُ الَّذِي يَعْبُدُونَهُ مِن شَرِّ الَّذِي يَحُولُ بَيْنَهم وبَيْنَ عِبادَتِهِ، ويَسْتَعِيذُونَ أيْضًا مِن شَرِّ الوَسْواسِ الَّذِي يَحْصُلُ في نُفُوسٍ مِنهم ومِنَ الجِنَّةِ؛ فَإنَّهُ أصْلُ الشَّرِّ الَّذِي يَصْدُرُ مِنهم والَّذِي يُرَدُّ عَلَيْهِمْ. وقالَ النّاصِرُ: في التَّخْصِيصِ جَرى عَلى عادَةِ الِاسْتِعْطافِ. فَإنَّهُ مَعَهُ أتَمُّ. الثّانِيَةُ: تَكَرَرَ المُضافُ إلَيْهِ وهُوَ: (النّاسُ) بِاللَّفْظِ الظّاهِرِ؛ لِمَزِيدِ الكَشْفِ والتَّقْرِيرِ والتَّشْرِيفِ بِالإضافَةِ، فَإنَّ الإظْهارَ أنْسَبُ بِالإيضاحِ المَسُوقِ لَهُ عَطْفُ البَيانِ، وأدَلُّ عَلى شَرَفِ الإنْسانِ. وقِيلَ: لا تَكْرارَ لِجَوازِ أنْ يُرادَ بِالعامِّ بَعْضُ أفْرادِهِ؛ فَـ: (النّاسُ) الأوَّلُ بِمَعْنى الأجِنَّةِ والأطْفالِ المُحْتاجِينَ لِلتَّرْبِيَةِ، والثّانِي الكُهُولُ والشُّبّانُ، لِأنَّهُمُ المُحْتاجُونَ لِمَن يَسُوسُهُمْ، والثّالِثُ الشُّيُوخُ لِأنَّهُمُ المُتَعَبِّدُونَ المُتَوَجِّهُونَ لِلَّهِ. قالَ الشِّهابُ: وفِيهِ تَأمُّلٌ. الثّالِثَةُ: في تَعْدادِ الصِّفاتِ العُلْيا هُنا إشارَةٌ إلى عِظَمِ المُسْتَعاذِ مِنهُ، وأنَّ الآفَةَ النَّفْسانِيَّةَ أعْظَمُ مِنَ المَضارِّ البَدَنِيَّةِ، حَيْثُ لَمْ يُكَرِّرْ ذَلِكَ المُسْتَعاذَ بِهِ في السُّورَةِ قَبْلُ، وكَرَّرَهُ هُنا إظْهارًا لِلِاهْتِمامِ في هَذِهِ دُونَ تِلْكَ. نَقَلَهُ الشِّهابُ. الرّابِعَةُ: قالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: الوَسْواسُ مِن جِنْسِ الحَدِيثِ والكَلامِ؛ ولِهَذا قالَ المُفَسِّرُونَ في قَوْلِهِ: ﴿ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ﴾ [ق: ١٦] قالُوا: ما تُحَدِّثُ بِهِ نَفْسُهُ. وقَدْ قالَ ﷺ: ««إنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ لِأُمَّتِي ما تُحَدِّثُ بِهِ أنْفُسُها ما لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أوْ تَعْمَلْ بِهِ»»، وهو نَوْعانِ: خَبَرٌ وإنْشاءٌ، فالخَبَرُ إمّا عَنْ ماضٍ وإمّا عَنْ مُسْتَقْبَلٍ، فالماضِي يُذَكِّرُهُ والمُسْتَقْبَلُ يُحَدِّثُهُ بِأنْ يَفْعَلَ هو أُمُورًا، أوْ أنَّ أُمُورًا سَتَكُونُ بِقَدَرِ اللَّهِ أوْ فِعْلِ غَيْرِهِ؛ فَهَذِهِ الأمانِيُّ والمَواعِيدُ الكاذِبَةُ، والإنْشاءُ أمْرٌ ونَهْيٌ وإباحَةٌ. (p-٦٣١٤)الخامِسَةُ: قالَ ابْنُ تَيْمِيَةَ: الفَرْقُ بَيْنَ الإلْهامِ المَحْمُودِ وبَيْنَ الوَسْوَسَةِ المَذْمُومَةِ هو الكِتابُ والسُّنَّةُ، فَإنْ كانَ مِمّا ألْقى في النَّفْسِ مِمّا دَلَّ الكِتابُ والسُّنَّةُ عَلى أنَّهُ تَقْوى لِلَّهِ، فَهو مِنَ الإلْهامِ المَحْمُودِ، وإنْ كانَ مِمّا دَلَّ عَلى أنَّهُ فُجُورٌ، فَهو مِنَ الوَسْواسِ المَذْمُومِ، وهَذا الفَرْقُ مُطَّرِدٌ لا يَنْقَضُّ. وقَدْ ذَكَرَ أبُو حازِمٍ في الفَرْقِ بَيْنَ وسْوَسَةِ النَّفْسِ والشَّيْطانِ، فَقالَ: ما كَرِهَتْهُ نَفْسُكَ لِنَفْسِكَ فَهو مِنَ الشَّيْطانِ؛ فاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنهُ، وما أحَبَّتْهُ نَفْسُكَ لِنَفْسِكَ فَهو مِن نَفْسِكَ فانْهَها عَنْهُ. السّادِسَةُ: قالَ الإمامُ الغَزالِيُّ في (الإحْياءِ) في بَيانِ تَفْصِيلِ ما يَنْبَغِي أنْ يَحْضُرَ في القَلْبِ عِنْدَ كُلِّ رُكْنٍ وشَرْطٍ مِن أعْمالِ الصَّلاةِ، ما مِثالُهُ: وإذا قُلْتَ: (أعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) فاعْلَمْ أنَّهُ عَدُوُّكَ ومَرْصَدٌ لِصَرْفِ قَلْبِكَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ؛ حَسَدًا لَكَ عَلى مُناجاتِكَ مَعَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وسُجُودِكَ لَهُ، مَعَ أنَّهُ لُعِنَ بِسَبَبِ سَجْدَةٍ واحِدَةٍ تَرَكَها ولَمْ يُوَفَّقْ لَها، وإنَّ اسْتِعاذَتَكَ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ مِنهُ بِتَرْكِ ما يُحِبُّهُ، بِما يُحِبُّ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لا بِمُجَرَّدِ قَوْلِكَ؛ فَإنَّ مَن قَصَدَهُ سَبُعٌ أوْ عَدُوٌّ لِيَفْتَرِسَهُ أوْ لِيَقْتُلَهُ فَقالَ: (أعُوذُ مِنكَ بِهَذا الحِصْنِ الحَصِينِ)- وهو ثابِتٌ عَلى مَكانِهِ ذَلِكَ- لا يَنْفَعُهُ، بَلْ لا يُفِيدُهُ إلّا بِتَبْدِيلِ المَكانِ، فَكَذَلِكَ مَن يَتَّبِعُ الشَّهَواتِ الَّتِي هي مَحابُّ الشَّيْطانِ ومَكارِهُ الرَّحْمَنِ، فَلا يُغْنِيهِ مُجَرَّدُ القَوْلِ، فَلْيَقْتَرِنْ قَوْلُهُ بِالعَزْمِ عَلى التَّعَوُّذِ بِحِصْنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ عَنْ شَرِّ الشَّيْطانِ، وحِصْنُهُ: (لا إلَهَ إلّا اللَّهُ) إذْ قالَ عَزَّ وجَلَّ فِيما أخْبَرَ عَنْهُ نَبِيُّنا ﷺ: ««ولا إلَهَ إلّا اللَّهُ حِصْنِي، فَمَن دَخَلَ حِصْنِي أمِنَ مِن عَذابِي»» . والمُتَحَصِّنُ بِهِ مَن لا مَعْبُودَ لَهُ سِوى اللَّهِ سُبْحانَهُ، فَأمّا مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَواهُ، فَهو في مَيْدانِ الشَّيْطانِ لا في حِصْنِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. انْتَهى. ومُلَخَّصُهُ أنَّ التَّعَوُّذَ لَيْسَ هو مُجَرَّدَ القَوْلِ، بَلِ القَوْلُ عِبارَةٌ عَمّا كانَ لِلْمُتَعَوِّذِ مِنِ ابْتِعادِهِ بِالفِعْلِ عَمّا يَتَعَوَّذُ مِنهُ، فَكانَ تَرْجَمَةً لِحالِهِمْ. وهَذا المَعْنى كانَ يَلُوحُ لِي مِن قَبْلِ أنْ أراهُ في كَلامِ حُجَّةِ الإسْلامِ، حَتّى رَأيْتُهُ فَحَمِدْتُ اللَّهَ عَلى المُوافَقَةِ. (p-٦٣١٥)السّابِعَةُ: قالَ الإمامُ الغَزالِيُّ في (الإحْياءِ) أيْضًا، في بَيانِ تَسَلُّطِ الشَّيْطانِ عَلى القَلْبِ بِالوَسْواسِ: ومَعْنى الوَسْوَسَةِ وسَبَبِ غَلَبَتِها، ما مِثالُهُ: اعْلَمْ أنَّ القَلْبَ في مِثالِ قُبَّةٍ مَضْرُوبَةٍ لَها أبْوابٌ تَنْصَبُّ إلَيْهِ الأحْوالُ مِن كُلِّ بابٍ، ومِثالُهُ أيْضًا مِثالُ هَدَفٍ تَنْصَبُّ إلَيْهِ السِّهامُ مِنَ الجَوانِبِ. أوْ هو مِثالُ مِرْآةٍ مَنصُوبَةٍ تَجْتازُ عَلَيْها أصْنافُ السُّوَرِ المُخْتَلِفَةِ فَتَتَراءى فِيها صُورَةٌ بَعْدَ صُورَةٍ ولا يَخْلُو عَنْها. أوْ مِثالُ حَوْضٍ تَصُبُّ فِيهِ مِياهٌ مُخْتَلِفَةٌ مِن أنْهارٍ مَفْتُوحَةٍ إلَيْهِ. وإنَّما مَداخِلُ هَذِهِ الآثارِ المُتَجَدِّدَةِ في القَلْبِ في كُلِّ حالٍ، إمّا مِنَ الظّاهِرِ فالحَواسُّ الخَمْسُ، وإمّا مِنَ الباطِنِ فالخَيالُ والشَّهْوَةُ والغَضَبُ والأخْلاقُ المُرَكَّبَةُ مِن مِزاجِ الإنْسانِ، فَإنَّهُ إذا أدْرَكَ بِالحَواسِّ شَيْئًا حَصَلَ مِنهُ أثَرٌ في القَلْبِ، وكَذَلِكَ إذا هاجَتِ الشَّهْوَةُ مَثَلًا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الأكْلِ وسَبَبِ قُوَّةِ المِزاجِ، حَصَلَ مِنها في القَلْبِ أثَرٌ، وإنْ كَفَّ عَنِ الإحْساسِ فالخَيالاتُ الحاصِلَةُ في النَّفْسِ تَبْقى ويَنْتَقِلُ الخَيالُ مِن شَيْءٍ إلى شَيْءٍ، وبِحَسَبِ انْتِقالِ الخَيالِ يَنْتَقِلُ القَلْبُ مِن حالٍ إلى حالٍ آخَرَ. والمَقْصُودُ أنَّ القَلْبَ في التَّغَيُّرِ والتَّأثُّرِ دائِمًا مِن هَذِهِ الأسْبابِ، وأخُصُّ الآثارَ الحاصِلَةَ في الخَواطِرِ، وأعْنِي بِالخَواطِرِ ما يَحْصُلُ فِيهِ مِنَ الأفْكارِ والأذْكارِ، وأعْنِي بِهِ إدْراكاتِهِ عُلُومًا، إمّا عَلى سَبِيلِ التَّجَدُّدِ وإمّا عَلى سَبِيلِ التَّذَكُّرِ؛ فَإنَّها تُسَمّى خَواطِرَ مِن حَيْثُ إنَّها تَخْطُرُ بَعْدَ أنْ كانَ القَلْبُ غافِلًا عَنْها. والخَواطِرُ هي المُحَرِّكاتُ لِلْإراداتِ، فَإنَّ النِّيَّةَ والعَزْمَ والإرادَةَ إنَّما تَكُونُ بَعْدَ خُطُورِ المَنوِيِّ بِالبالِ لا مَحالَةَ. فَمَبْدَأُ الأفْعالِ الخَواطِرُ. ثُمَّ الخاطِرُ يُحَرِّكُ الرَّغْبَةَ، والرَّغْبَةُ تُحَرِّكُ العَزْمَ، والعَزْمُ يُحَرِّكُ النِّيَّةَ، والنِّيَّةُ تُحَرِّكُ الأعْضاءَ. والخَواطِرُ المُحَرِّكَةُ لِلرَّغْبَةِ تَنْقَسِمُ إلى ما يَدْعُو لِلشَّرِّ، أعْنِي إلى ما يَضُرُّ في العاقِبَةِ، وإلى ما يَدْعُو إلى الخَيْرِ، أعْنِي إلى ما يَنْفَعُ في الدّارِ الآخِرَةِ. فَهُما خاطِرانِ مُخْتَلِفانِ. فافْتَقَرا إلى اسْمَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. فالخاطِرُ المَحْمُودُ يُسَمّى إلْهامًا والخاطِرُ المَذْمُومُ، أعْنِي الدّاعِيَ إلى الشَّرِّ، يُسَمّى وسْواسًا. ثُمَّ إنَّكَ تَعْلَمُ أنَّ هَذِهِ الخَواطِرَ حادِثَةٌ، ثُمَّ أنَّ كُلَّ حادِثٍ فَلا بُدَّ لَهُ مِن مُحْدِثٍ، ومَهْما اخْتَلَفَتِ الحَوادِثُ دَلَّ ذَلِكَ عَلى اخْتِلافِ الأسْبابِ، هَذا ما عُرِفَ مِن سُنَّةِ اللَّهِ تَعالى في تَرْتِيبِ المُسَبِّباتِ عَلى الأسْبابِ. فَمَهْما اسْتَنارَتْ حِيطانُ البَيْتِ بِنُورِ النّارِ، وأظْلَمَ (p-٦٣١٦)سَقْفُهُ واسْوَدَّ بِالدُّخانِ، عَلِمْتُ أنَّ سَبَبَ السَّوادِ غَيْرُ سَبَبِ الِاسْتِنارَةِ، وكَذَلِكَ لِأنْوارِ القَلْبِ وظُلْمَتِهِ سَبَبانِ مُخْتَلِفانِ: فَسَبَبُ الخاطِرِ الدّاعِي إلى الخَيْرِ يُسَمّى مَلَكًا، وسَبَبُ الخاطِرِ الدّاعِي إلى الشَّرِّ يُسَمّى شَيْطانًا. واللُّطْفُ الَّذِي يَتَهَيَّأُ بِهِ القَلْبُ لِقَبُولِ إلْهامِ الخَبَرِ يُسَمّى تَوْفِيقًا، والَّذِي بِهِ يَتَهَيَّأُ لِقَبُولِ وسْواسِ الشَّيْطانِ يُسَمّى إغْوائًا وخِذْلانًا. فَإنَّ المَعانِيَ المُخْتَلِفَةَ تَفْتَقِرُ إلى أسامٍ مُخْتَلِفَةٍ، والمَلَكُ عِبارَةٌ عَنْ خَلْقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ تَعالى، شَأْنُهُ إفاضَةُ الخَيْرِ وإفادَةُ العِلْمِ وكَشْفُ الحَقِّ والوَعْدُ بِالخَيْرِ والأمْرُ بِالمَعْرُوفِ، وقَدْ خَلَقَهُ وسَخَّرَهُ لِذَلِكَ. والشَّيْطانُ عِبارَةٌ عَنْ خَلْقٍ شَأْنُهُ ضِدُّ ذَلِكَ، وهو الوَعْدُ بِالشَّرِّ والأمْرُ بِالفَحْشاءِ والتَّخْوِيفُ عِنْدَ الهَمِّ بِالخَيْرِ بِالفَقْرِ؛ فالوَسْوَسَةُ في مُقابَلَةِ الإلْهامِ. والشَّيْطانُ في مُقابَلَةِ المَلَكِ، والتَّوْفِيقُ في مُقابَلَةِ الخِذْلانِ. ثُمَّ قالَ الغَزالِيُّ: ولا يَمْحُو وسْوَسَةَ الشَّيْطانِ مِنَ القَلْبِ إلّا ذِكْرُ سِوى ما يُوَسْوِسُ بِهِ؛ لِأنَّهُ إذا خَطَرَ في القَلْبِ ذِكْرُ شَيْءٍ انْعَدَمَ مِنهُ ما كانَ مِن قَبْلُ. ولَكِنْ كُلُّ شَيْءٍ سِوى اللَّهِ تَعالى وسِوى ما يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَيَجُوزُ أيْضًا أنْ يَكُونَ مَجالًا لِلشَّيْطانِ. وذِكْرُ اللَّهِ تَعالى هو الَّذِي يُؤْمَنُ جانِبُهُ ويُعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ لِلشَّيْطانِ فِيهِ مَجالٌ، ولا يُعالَجُ الشَّيْءُ إلّا بِضِدِّهِ. وضِدُّ جَمِيعِ وساوِسِ الشَّيْطانِ ذِكْرُ اللَّهِ بِالِاسْتِعاذَةِ والتَّبَرُّؤِ عَنِ الحَوْلِ والقُوَّةِ، وهو مَعْنى قَوْلِكَ: أعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلّا بِاللَّهِ العَلِيِّ العَظِيمِ، وذَلِكَ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إلّا المُتَّقُونَ الغالِبُ عَلَيْهِمْ ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى، وإنَّما الشَّيْطانُ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ في أوْقاتِ الفَلَتاتِ عَلى سَبِيلِ الخِلْسَةِ. قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إذا مَسَّهم طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإذا هم مُبْصِرُونَ﴾ [الأعراف: ٢٠١] ثُمَّ قالَ: فالوَسْوَسَةُ هي هَذِهِ الخَواطِرُ، والخَواطِرُ مَعْلُومَةٌ؛ فَإذَنِ الوَسْواسُ مَعْلُومٌ بِالمُشاهَدَةِ، وكُلُّ خاطِرٍ فَلَهُ سَبَبٌ، ويَفْتَقِرُ إلى اسْمٍ يَعْرِفُهُ، فاسْمٌ سَبَبُهُ الشَّيْطانُ، ولا يُتَصَوَّرُ أنْ يَنْفَكَّ عَنْهُ آدَمِيٌّ، وإنَّما يَخْتَلِفُونَ بِعِصْيانِهِ ومُتابَعَتِهِ؛ فَقَدِ اتَّضَحَ بِهَذا النَّوْعِ مِن الِاسْتِبْصارِ مَعْنى الوَسْوَسَةِ والإلْهامِ، والمَلَكِ والشَّيْطانِ والتَّوْفِيقِ والخِذْلانِ. انْتَهى. وإلى هُنا وقَفَ القَلَمُ بِالمُؤَلِّفِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ. وبِهِ تَمَّ كِتابُ (مَحاسِنِ التَّأْوِيلِ) والحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهَذا، وما كُنّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أنْ هَدانا اللَّهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب