الباحث القرآني

(p-٦٢٨٩)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ المَسَدِ ويُقالُ سُورَةُ أبِي لَهَبٍ، مَكِّيَّةٌ وآيُها خَمْسٌ. (p-٦٢٩٠)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١ - ٥ ] ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ﴾ ﴿ما أغْنى عَنْهُ مالُهُ وما كَسَبَ﴾ [المسد: ٢] ﴿سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: ٣] ﴿وامْرَأتُهُ حَمّالَةَ الحَطَبِ﴾ [المسد: ٤] ﴿فِي جِيدِها حَبْلٌ مِن مَسَدٍ﴾ [المسد: ٥] ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ وتَبَّ﴾ أيْ: خَسِرَتْ يَداهُ، وخَسِرَ هو. واليَدانِ كِنايَةٌ عَنِ الذّاتِ والنَّفْسِ، لِما بَيْنَهُما مِنَ اللُّزُومِ في الجُمْلَةِ، أوْ مَجازٌ مِن بابِ إطْلاقِ الجُزْءِ عَلى الكُلِّ. وجُمْلَةُ "وتَبَّ" مُؤَكِّدَةٌ لِما قَبْلَها، أوِ المُرادُ بِالأُولى خُسْرانُهُ في نَفْسِهِ وذاتِهِ؛ لِأنَّ سَعْيَ المَرْءِ لِإصْلاحِ نَفْسِهِ وعَمَلِهِ. فَأخْبَرَ بِأنَّ مَحْرُومٌ مِنهُما، كَما تُشِيرُ لَهُ الآيَتانِ بَعْدُ: أعْنِي هَلاكَ عَمَلِهِ وهَلاكَ نَفْسِهِ. وقالَ ابْنُ جَرِيرٍ: كانَ بَعْضُ أهْلِ العَرَبِيَّةِ يَقُولُ قَوْلَهُ: ﴿تَبَّتْ يَدا أبِي لَهَبٍ﴾ دُعاءٌ عَلَيْهِ مِنَ اللَّهِ. وأمّا قَوْلُهُ: "وتَبَّ" فَإنَّهُ خَبَرٌ، أيْ: عَمّا سَيُحَقِّقُ لَهُ في الدُّنْيا والآخِرَةِ. وعَبَّرَ عَنْهُ بِالماضِي لِتَحَقُّقِهِ. وأبُو لَهَبٍ أحَدُ عُمُومَةِ النَّبِيِّ ﷺ، واسْمُهُ عَبْدُ العُزّى، وقَدِ اشْتُهِرَ بِكُنْيَتِهِ وعُرِفَ بِها لِوَلَدٍ لَهُ يُقالُ لَهُ: لَهَبٌ؛ أوْ لِتَلَهُّبِ وجْنَتَيْهِ وإشْراقِهِما، مَعَ الإشارَةِ إلى أنَّهُ مِن أهْلِ النّارِ، وأنَّ مَآلَهُ إلى نارٍ ذاتِ لَهَبٍ، فَوافَقَتْ حالُهُ كُنْيَتَهُ، فَحَسُنَ ذِكْرُهُ بِها. (p-٦٢٩١)قالَ الرُّواةُ: كانَ أبُو لَهَبٍ مِن أشَدِّ النّاسِ عَداوَةً لِلنَّبِيِّ ﷺ، وأذِيَّةً لَهُ وبُغْضَةً لَهُ وازْدِراءً بِهِ وتَنَقُّصًا لَهُ ولِدَعْوَتِهِ، وماتَ عَلى كُفْرِهِ بَعْدَ وقْعَةِ بَدْرٍ ولَمْ يَحْضُرْها، بَلْ أرْسَلَ عَنْهُ بَدِيلًا، فَلَمّا بَلَغَهُ ما جَرى لِقُرَيْشٍ ماتَ غَمًّا؛ وقَدْ رَوى الشَّيْخانِ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: لَمّا نَزَلَتْ ﴿وأنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ﴾ [الشعراء: ٢١٤] صَعِدَ النَّبِيُّ ﷺ عَلى الصَّفا ونادى: «يا بَنِي فِهْرٍ! يا بَنِي عَدِيٍّ !» - (لِبُطُونٍ مِن قُرَيْشٍ)- حَتّى اجْتَمَعُوا، فَجَعَلَ الرَّجُلُ إذا لَمْ يَسْتَطِعْ أرْسَلَ رَسُولًا؛ لِيَنْظُرَ ما هُوَ، فَجاءَ أبُو لَهَبٍ وقُرَيْشٌ فَقالَ: «أرَأيْتُكم لَوْ أخْبَرْتُكم أنَّ خَيْلًا بِالوادِي تُرِيدُ أنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ، أكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ» قالُوا: نَعَمْ. ما جَرَّبْنا عَلَيْكَ إلّا صِدْقًا. قالَ: «فَإنِّي لَكم نَذِيرٌ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ» فَقالَ أبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ سائِرَ اليَوْمِ، ألِهَذا جَمَعْتَنا؟ فَنَزَلَتِ السُّورَةُ». ورَوى الإمامُ أحْمَدُ «عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ عَبّادٍ الدَّيْلِيِّ قالَ: رَأيْتُ النَّبِيَّ ﷺ في الجاهِلِيَّةِ في سُوقِ ذِي المَجازِ وهو يَقُولُ: «يا أيُّها النّاسُ! قُولُوا: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، تُفْلِحُوا» والنّاسُ مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ. ووَراءَهُ رَجُلٌ وضِيءُ الوَجْهِ أحْوَلُ، ذُو غَدِيرَتَيْنِ، يَقُولُ: إنَّهُ صابِئٌ كاذِبٌ. يَتْبَعُهُ حَيْثُ ذَهَبَ، فَسَألْتُ عَنْهُ فَقالُوا: هَذا عَمُّهُ أبُو لَهَبٍ. وفي رِوايَةٍ لَهُ: يَتْبَعُهُ مِن خَلْفِهِ يَقُولُ: يا بَنِي فُلانٍ! هَذا يُرِيدُ مِنكم أنْ تَسْلَخُوا اللّاتَ والعُزّى وحُلَفاءَكم مِنَ الجِنِّ، إلى ما جاءَ بِهِ مِنَ البِدْعَةِ والضَّلالَةِ. فَلا تَسْمَعُوا لَهُ ولا تَتَّبِعُوهُ». ﴿ما أغْنى عَنْهُ مالُهُ وما كَسَبَ﴾ [المسد: ٢] أيْ: أيُّ شَيْءٍ أغْنى عَنْهُ مالُهُ وما كَسَبَهُ مِن سُخْطِ اللَّهِ عَلَيْهِ وخُسْرانِهِ. فَكَسْبُهُ هو عَمَلُهُ الَّذِي يَظُنُّ أنَّهُ مِنهُ عَلى شَيْءٍ. وقِيلَ: ولَدُهُ؛ لِقَرْنِ الأوْلادِ بِالأمْوالِ في كَثِيرٍ مِنَ الآياتِ، وكانَتِ العَرَبُ تُعِدُّ أوْلادَها لِلنّائِباتِ كالأمْوالِ، فَنَفى إغْناءَهُما عَنْهُ حِينَ حَلَّ بِهِ التِّبابُ. (p-٦٢٩٢)قالَ الشِّهابُ: والَّذِي صَحَّحَهُ أهْلُ الأثَرِ أنَّ أوْلادَهُ، لَعَنَهُ اللَّهُ، ثَلاثَةٌ: مُتْعَبٌ وعُتْبَةُ وهُما أسْلَما، «وعُتَيْبَةُ -(مُصَغَّرًا) - وهَذا هو الَّذِي دَعا النَّبِيَّ ﷺ لِما جاهَرَ بِإيذائِهِ وعَداوَتِهِ، ورَدَّ ابْنَتَهُ وطَلَّقَها؛ وقالَ صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِن كِلابِكَ» فَأكَلَهُ السَّبُعُ في خَرْجَةٍ خَرَجَها إلى الشّامِ». وفِيهِ يَقُولُ حَسّانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: ؎مَن يُرْجِعُ العامَ إلى أهْلِهِ فَما أُكَيْلُ السَّبُعِ بِالرّاجِعِ ثُمَّ قالَ: ولَهَبٌ هو أحَدُ هَؤُلاءِ فِيما قِيلَ، قالَ الثَّعالِبِيُّ: ومِنهُ يُعْلَمُ أنَّ الأسَدَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ كَلْبٌ. ولَمّا أُضِيفَ إلى اللَّهِ، كانَ أعْظَمَ أفْرادِهِ. ﴿سَيَصْلى نارًا ذاتَ لَهَبٍ﴾ [المسد: ٣] أيْ: تَوَقُّدٍ واشْتِعالٍ، وهي نارُ الآخِرَةِ، جَزاءَ ما كانَ يَأْتِيهِ مِن مُقاوَمَةِ الحَقِّ ومُجاهَدَتِهِ. ﴿وامْرَأتُهُ حَمّالَةَ الحَطَبِ﴾ [المسد: ٤] أيْ: وسَيَصْلاها مَعَهُ امْرَأتُهُ أيْضًا: فَـ "امْرَأتُهُ" مَرْفُوعٌ عَطْفًا عَلى الضَّمِيرِ في "سَيَصْلى" أوْ عَلى الِابْتِداءِ، و"فِي جِيدِها" الخَبَرُ. وقُرِئَ: (حَمّالَةَ) بِالنَّصْبِ عَلى الشَّتْمِ والذَّمِّ، وبِالرَّفْعِ نَعْتًا أوْ بَدَلًا أوْ عَطْفَ بَيانٍ. إنَّما قِيلَ لَها ذَلِكَ لِأنَّها كانَتْ تَحْطِبُ الكَلامَ وتَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ، كَما قالَهُ مُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويُقالُ لِلْمَشّاءِ بِالنَّمائِمِ المُفْسِدِ بَيْنَ النّاسِ، يَحْمِلُ الحَطَبَ بَيْنَهُمْ، أيْ: يُوقِدُ بَيْنَهم ويُورِثُ الشَّرَّ، قالَ: ؎البِيضُ لَمْ تُصْطَدْ عَلى ظَهْرِ لَأْمَةٍ ∗∗∗ ولَمْ تَمْشِ بَيْنَ الحَيِّ بِالحَطَبِ الرَّطْبِ يَمْدَحُها بِأنَّها مِنَ البِيضِ الوُجُوهِ وأنَّها بَرِيئَةٌ مِن أنْ تُصْطادَ عَلى سُوءٍ ولُؤْمِ فِيها، ومِن أنْ تَمْشِيَ بِالسِّعايَةِ والنَّمِيمَةِ بَيْنَ النّاسِ. وإنَّما جَعَلَ رَطْبًا لِيَدُلَّ عَلى التَّدْخِينِ الَّذِي هو زِيادَةُ الشَّرِّ. ويُقالُ: فُلانٌ يَحْطِبُ عَلى فُلانٍ، إذا أغْرى بِهِ. (p-٦٢٩٣)قالَ الشِّهابُ: وهي اسْتِعارَةٌ مَشْهُورَةٌ لَطِيفَةٌ، كاسْتِعارَةِ حَطَبِ جَهَنَّمَ لِلْأوْزارِ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وكانَتْ زَوْجَتُهُ مِن ساداتِ نِساءِ قُرَيْشٍ، وهي أُمُّ جَمِيلٍ، واسْمُها أرْوى بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أُمَيَّةَ، وهي أُخْتُ أبِي سُفْيانَ وعَمَّةُ مُعاوِيَةَ، وكانَتْ عَوْنًا لِزَوْجِها عَلى كُفْرِهِ وجُحُودِهِ وعِنادِهِ. ﴿فِي جِيدِها حَبْلٌ مِن مَسَدٍ﴾ [المسد: ٥] قالَ الإمامُ رَحِمَهُ اللَّهُ: أيْ: في عُنُقِها حَبْلٌ مِنَ اللِّيفِ، أيْ: أنَّها في تَكْلِيفِ نَفْسِها المَشَقَّةَ الفادِحَةَ، لِلْإفْسادِ بَيْنَ النّاسِ وتَأْرِيثِ نِيرانِ العَداوَةِ بَيْنَهُمْ، بِمَنزِلَةِ حامِلِ الحَطَبِ الَّذِي في عُنُقِهِ حَبْلٌ خَشِنٌ، يَشُدُّ بِهِ ما حَمَلَهُ إلى عُنُقِهِ، حَتّى يَسْتَقِلَّ بِهِ. وهَذِهِ أشْنَعُ صُورَةٍ تَظْهَرُ بِها امْرَأةٌ تَحْمِلُ الحَطَبَ، وفي عُنُقِها حَبْلٌ مِنَ اللِّيفِ، تَشُدُّ بِهِ الحَطَبَ إلى كاهِلِها، حَتّى تَكادَ تَخْتَنِقُ بِهِ. وقالَ أيْضًا: قَدْ أنْزَلَ اللَّهُ في أبِي لَهَبٍ وفي زَوْجَتِهِ هَذِهِ السُّورَةَ، لِيَكُونَ مَثَلًا يَعْتَبِرُ بِهِ مَن يُعادِي ما أنْزَلَ اللَّهُ عَلى نَبِيِّهِ؛ مُطاوَعَةً لِهَواهُ وإيثارًا لِما ألِفَهُ مِنَ العَقائِدِ والعَوائِدِ والأعْمالِ، واغْتِرارًا بِما عِنْدَهُ مِنَ الأمْوالِ، وبِما لَهُ مِنَ الصَّوْلَةِ أوْ مِنَ المَنزِلَةِ في قُلُوبِ الرِّجالِ، وأنَّهُ لا تُغْنِي عَنْهُ أمْوالُهُ ولا أعْمالُهُ شَيْئًا، وسَيَصْلى ما يَصْلى. نَسْألُ اللَّهَ العافِيَةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب