الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٧ ] ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلا ولَئِنْ قُلْتَ إنَّكم مَبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا إلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ ﴿وهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ في سِتَّةِ أيّامٍ﴾ مِنَ الأحَدِ إلى الجُمُعَةِ ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ أيْ ما كانَ تَحْتَهُ قَبْلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرْضِ، وارْتِفاعِهِ فَوْقَها إلّا الماءُ. وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ العَرْشَ والماءَ كانا مَخْلُوقَيْنِ قَبْلَ السَّماواتِ والأرْضِ -كَذا في (الكَشّافِ)-. وقالَ القاضِي: أيْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُما حائِلٌ، لا أنَّهُ كانَ مَوْضُوعًا عَلى مَتْنِ الماءِ. قالَ قَتادَةُ: يُنْبِئُنا تَعالى في هَذِهِ الآيَةِ كَيْفَ كانَ بَدْءُ خَلْقِهِ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ السَّماواتِ والأرْضَ. رَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ أبِي رَزِينٍ -واسْمُهُ: لَقِيطُ بْنُ عامِرٍ العُقَيْلِيُّ- قالَ: «قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ أيْنَ كانَ رَبُّنا قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ خَلْقَهُ؟ قالَ: «كانَ في عَماءٍ، ما تَحْتَهُ هَواءٌ، وما فَوْقَهُ هَواءٌ، (p-٣٤١٢)ثُمَّ خَلَقَ العَرْشَ بَعْدَ ذَلِكَ»» . ورَواهُ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ وقالَ: قالَ أحْمَدُ: يُرِيدُ بِالعَماءِ أنَّهُ لَيْسَ مَعَهُ شَيْءٌ. وقالَ البَيْهَقِيُّ في كِتابِ (الأسْماءِ والصِّفاتِ): (العَماءُ) مَمْدُودٌ كَما رَأيْتُهُ مُقَيَّدًا كَذَلِكَ، ومَعْناهُ السَّحابُ الرَّقِيقُ، أيْ فَوْقَ سَحابٍ، مُدَبِّرًا لَهُ، وعالِيًا عَلَيْهِ. كَما قالَ تَعالى: ﴿أأمِنتُمْ مَن في السَّماءِ﴾ [الملك: ١٦] يَعْنِي مَن فَوْقَ السَّماءِ. وقَوْلُهُ: (ما فَوْقَهُ هَواءٌ) أيْ ما فَوْقَ السَّحابِ هَواءٌ. وكَذَلِكَ قَوْلُهُ (وما تَحْتَهُ هَواءٌ) أيْ ما تَحْتَ السَّحابِ هَواءٌ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ ذَلِكَ (العَمى) مَقْصُورٌ، بِمَعْنى لا شَيْءَ ثابِتٌ، لِأنَّهُ مِمّا عَمِيَ عَنِ الخَلْقِ، فَكَأنَّهُ قالَ في جَوابِهِ: كانَ قَبْلَ أنْ يَخْلُقَ الخَلْقَ، ولَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ. و(ما) فِيهِما نافِيَةٌ. أيْ: لَيْسَ فَوْقَ العَمى الَّذِي هو لا شَيْءَ مَوْجُودٌ هَواءٌ، ولا تَحْتَهُ هَواءٌ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ غَيْرَ مَوْجُودٍ فَلا يُثْبِتُ لَهُ هَواءٌ بِوَجْهٍ. انْتَهى مُلَخَّصًا. وقالَ ابْنُ الأثِيرِ: العَماءُ في اللُّغَةِ السَّحابَ الرَّقِيقُ، وقِيلَ الكَثِيفُ، وقِيلَ هو الضَّبابُ. وفي الحَدِيثِ حَذْفٌ، أيْ أيْنَ كانَ عَرْشُ رَبِّنا؟ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكانَ عَرْشُهُ عَلى الماءِ﴾ وحَكى بَعْضُهم أنَّهُ العَمى المَقْصُورُ. قالَ: وهو كُلُّ أمْرٍ لا يُدْرِكُهُ الفَطِنُ. وقالَ أبُو عَبِيدٍ: إنَّما تَأوَّلْنا هَذا الحَدِيثَ عَلى كَلامِ العَرَبِ المَعْقُولِ عَنْهُمْ، وإلّا فَلا نَدْرِي كَيْفَ كانَ ذَلِكَ العَماءُ!. قالَ الأزْهَرِيُّ: فَنَحْنُ نُؤْمِنُ بِهِ ولا نُكَيِّفُ صِفَتَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلا﴾ أيْ أخْلَصُهُ، مُتَعَلِّقٌ بِـ (خَلَقَ) أيْ: خَلَقَهُنَّ لِحِكْمَةٍ بالِغَةٍ، وهي أنْ يَجْعَلَهُنَّ مَساكِنَ لِعِبادِهِ، ويُنْعِمَ عَلَيْهِمْ بِفُنُونِ النِّعَمِ، (p-٣٤١٣)فَيَعْبُدُوهُ وحْدَهُ، ويَتَسابَقُوا في العَمَلِ الَّذِي يُرْضِيهِ. ولَمّا كانَ الِابْتِلاءُ والِاخْتِبارُ لِمَن تَخْفى عَلَيْهِ عاقِبَةُ الأُمُورِ؛ قِيلَ: إنَّهُ هُنا تَمْثِيلٌ واسْتِعارَةٌ، فَشَبَّهَ مُعامَلَتَهُ تَعالى عِبادَهُ في خَلْقِ المَنافِعِ لَهُمْ، وتَكْلِيفِهِمْ شُكْرَهُ، وإثابَتِهِمْ إنْ شَكَرُوا، وعُقُوبَتِهِمْ إنْ كَفَرُوا، بِمُعامَلَةِ المُخْتَبِرِ مَعَ المُخْتَبَرِ، لِيَعْلَمَ حالَهُ ويُجازِيَهُ، فاسْتُعِيرَ لَهُ الِابْتِلاءُ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ (لِيَبْلُوَكُمْ) مَوْضِعَ (لِيُعامِلَكُمْ). ويَصِحُّ أنْ يَكُونَ مَجازًا مُرْسَلًا، لِتَلازُمِ العِلْمِ والِاخْتِبارِ. أيْ: خَلَقَ ذَلِكَ لِيُعْلَمَ، أيْ: لِيَظْهَرَ تَعَلُّقُ عِلْمِهِ الأزَلِيِّ بِذَلِكَ. قالَ القاشانِيُّ: جَعَلَ غايَةَ خَلْقِ الأشْياءِ ظُهُورَ أعْمالِ النّاسِ. أيْ: خَلَقْناهم لِنَعْلَمَ العِلْمَ التَّفْصِيلِيَّ التّابِعَ لِلْوُجُودِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الجَزاءُ، أيُّكم أحْسَنُ عَمَلًا، فَإنَّ عِلْمَ اللَّهِ قِسْمانِ: قِسْمٌ يَتَقَدَّمُ وُجُودُ الشَّيْءِ في اللَّوْحِ، وقِسْمٌ يَتَأخَّرُ وُجُودُهُ في مَظاهِرِ الخَلْقِ، والبَلاءُ الَّذِي هو الِاخْتِبارُ هو هَذا القِسْمُ -انْتَهى-. ونَحْوَ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وما خَلَقْنا السَّماءَ والأرْضَ وما بَيْنَهُما باطِلا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ [ص: ٢٧] وقَوْلُهُ: ﴿أفَحَسِبْتُمْ أنَّما خَلَقْناكم عَبَثًا وأنَّكم إلَيْنا لا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥] ﴿فَتَعالى اللَّهُ المَلِكُ الحَقُّ لا إلَهَ إلا هو رَبُّ العَرْشِ الكَرِيمِ﴾ [المؤمنون: ١١٦] وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] وقَوْلُهُ تَعالى ﴿ولَئِنْ قُلْتَ﴾ أيْ لِأهْلِ مَكَّةَ ﴿إنَّكم مَبْعُوثُونَ﴾ أيْ: مُحْيَوْنَ ﴿مِن بَعْدِ المَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إنْ هَذا﴾ أيِ القَوْلُ بِالبَعْثِ، أوِ القُرْآنُ المُتَضَمِّنُ لِذِكْرِهِ ﴿إلا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ أيْ مِثْلُهُ في الخَدِيعَةِ والبُطْلانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب