الباحث القرآني

(p-٣٤٩٨)القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١١٩ ] ﴿إلا مَن رَحِمَ رَبُّكَ ولِذَلِكَ خَلَقَهم وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ ﴿إلا مَن رَحِمَ رَبُّكَ﴾ أيْ لَكِنَّ ناسًا رَحِمَهم بِهِدايَتِهِمْ إلى التَّوْحِيدِ، وتَوْفِيقِهِمْ لِلْكَمالِ، فاتَّفَقُوا في المَذْهَبِ والمَقْصِدِ، ووافَقُوا في السِّيرَةِ والطَّرِيقَةِ، قِبْلَتُهُمُ الحَقُّ، ودِينُهُمُ التَّوْحِيدُ والمَحَبَّةُ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ في المُشارِ إلَيْهِ أقْوالٌ. أظْهَرُها أنَّهُ لِلِاخْتِلافِ الدّالِّ عَلَيْهِ (مُخْتَلِفِينَ)، فالضَّمِيرُ حِينَئِذٍ لِلنّاسِ، أيْ لِثَمَرَةِ الِاخْتِلافِ، مِن كَوْنِ فَرِيقٍ في الجَنَّةِ، وفَرِيقٍ في السَّعِيرِ، خَلَقَهم. واللّامُ لامُ العاقِبَةِ والصَّيْرُورَةِ، لِأنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهِمْ لَيْسَ هَذا، لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] ولِأنَّهُ لَوْ خَلَقَهم لَهُ لَمْ يُعَذِّبْهم عَلَيْهِ. أوِ الإشارَةُ لَهُ ولِلرَّحْمَةِ المَفْهُومَةِ مِن (رَحِمَ) لِتَأْوِيلِها بِـ (أنْ والفِعْلِ) أوْ كَوْنِها بِمَعْنى الخَيْرِ. وتَكُونُ الإشارَةُ لِاثْنَيْنِ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿عَوانٌ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ [البقرة: ٦٨] والمُرادُ لِاخْتِلافِ الجَمِيعِ ورَحْمَةِ بَعْضِهِمْ، خَلَقَهم. وهَذا مَعْزُوٌّ إلى ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما. وإنْ كانَ الضَّمِيرُ لِـ (مِن) فالإشارَةُ لِلرَّحْمَةِ بِالتَّأْوِيلِ السّابِقِ -كَذا في (العِنايَةِ)-. وأشارَ القاشانِيُّ إلى بَقاءِ اللّامِ عَلى مَعْناها، وهو التَّعْلِيلُ بِوَجْهٍ آخَرَ، حَيْثُ قالَ: ولِلِاخْتِلافِ خَلَقَهم لِيَسْتَعِدَّ كُلٌّ مِنهم لِشَأْنٍ وعَمَلٍ، ويَخْتارُ بِطَبْعِهِ أمْرًا وصَنْعَةً، ويَسْتَتِبُّ بِهِمْ نِظامُ العالَمِ، ويَسْتَقِيمُ أمْرُ المَعاشِ، فَهم مَحامِلُ لِأمْرِ اللَّهِ، حُمِلَ عَلَيْهِمْ حُمُولَ الأسْبابِ والأرْزاقِ وما يَتَعَيَّشُ بِهِ النّاسُ، ورَتَّبَ بِهِمْ قِوامَ الحَياةِ الدُّنْيا، كَما أنَّ الفِئَةَ المَرْحُومَةَ مَظاهِرٌ لِكَمالِهِ، أظْهَرَ اللَّهُ بِهِمْ صِفاتِهِ وأفْعالَهُ، وجَعَلَهم مُسْتَوْدَعَ حِكَمِهِ ومَعارِفِهِ وأسْرارِهِ. (p-٣٤٩٩)وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ﴾ أيْ أُحْكِمَتْ وأُبْرِمَتْ وثُبِّتَتْ وهي هَذِهِ: ﴿لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ والنّاسِ أجْمَعِينَ﴾ والمُرادُ مِنَ " الجِنَّةِ والنّاسِ" عُصاتُهُما، والتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ، والقَرِينَةُ عَقْلِيَّةٌ لِما عُلِمَ مِنَ الشَّرْعِ أنَّ العَذابَ مَخْصُوصٌ بِهِمْ، وأنَّ الوَعِيدَ لَيْسَ إلّا لَهُمْ، ولا حاجَةَ إلى تَقْدِيرِ مُضافٍ كَما قِيلَ. بِـ (أجْمَعِينَ) حِينَئِذٍ ظاهِرٍ، وإنْ لَمْ يُحْمَلْ عَلى العَهْدِ، وأبْقى عَلى إطْلاقِهِ، فَفائِدَةُ التَّأْكِيدِ بَيانُ أنَّ مَلْءَ جَهَنَّمَ مِنَ الصِّنْفَيْنِ، لا مِن أحَدِهِما فَقَطْ، ويَكُونُ الدّاخِلُوها مِنهُما مَسْكُوتًا عَنْهُ، مَوْكُولًا إلى عِلْمِهِ تَعالى، فانْدَفَعَ ما أوْرَدَ عَلى ظاهِرِها مِنِ اقْتِضائِهِ دُخُولَ جَمِيعِ الفَرِيقَيْنِ جَهَنَّمَ. وبُطْلانُهُ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ. أمّا عَلى الأوَّلِ فَظاهِرٌ، وأمّا عَلى الثّانِي فالمُرادُ بِلَفْظِ (أجْمَعِينَ) تَعْمِيمُ الأصْنافِ، وذَلِكَ لا يَقْتَضِي دُخُولَ جَمِيعِ الأفْرادِ، كَما إذا قُلْتَ: مَلَأْتُ الجِرابَ مِن جَمِيعِ أصْنافِ الطَّعامِ، فَإنَّهُ لا يَقْتَضِي ذَلِكَ إلّا أنْ يَكُونَ فِيهِ شَيْءٌ مِن كُلِّ صِنْفٍ مِنَ الأصْنافِ، لا أنْ يَكُونَ فِيهِ جَمِيعُ أفْرادِ الطَّعامِ، كَقَوْلِكَ: امْتَلَأ المَجْلِسُ مِن جَمِيعِ أصْنافِ النّاسِ، لا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ في المَجْلِسِ جَمِيعُ أفْرادِ النّاسِ، بَلْ يَكُونُ مِن كُلِّ فَرْدٍ صِنْفٌ، وهو ظاهِرٌ. وعَلى هَذا تَظْهَرُ فائِدَةُ لَفْظِ (أجْمَعِينَ)؛ إذْ فِيهِ رَدٌّ عَلى اليَهُودِ وغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ زَعَمَ أنَّهُ لا يَدْخُلُ النّارَ -كَذا في (العِنايَةِ)-. ولَمّا ذَكَرَ تَعالى فِيما تَقَدَّمَ مِن أنْباءِ الأُمَمِ الماضِيَةِ، والقُرُونِ الخالِيَةِ، ما جَرى لَهم مَعَ أنْبِيائِهِمْ -أشارَ هُنا إلى سِرِّ ذَلِكَ وحِكْمَتِهِ، بِقَوْلِهِ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب