الباحث القرآني

(p-٦٢٨٠)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الكافِرُونَ مَكِّيَّةٌ، وآيُها سِتٌّ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ: عَنْ جابِرٍ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ بِهَذِهِ السُّورَةِ وبِ"قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ" في رَكْعَتَيِ الطَّوافِ». وفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ بِهِما في رَكْعَتَيِ الفَجْرِ». ورَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَرَأ في الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الفَجْرِ والرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ المَغْرِبِ بِضْعًا وعِشْرِينَ مَرَّةً أوْ بِضْعَ عَشْرَةَ مَرَّةً "قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ"، و"قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ"». ورَوى الإمامُ أحْمَدُ «عَنِ الحارِثِ بْنِ جِبِلَّةَ قالَ: قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! عَلِّمْنِي شَيْئًا أقُولُهُ عِنْدَ مَنامِي. قالَ: إذا أخَذْتَ مَضْجَعَكَ مِنَ اللَّيْلِ فاقْرَأْ: "قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ"، فَإنَّها بَراءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ». وقَدْ تَقَدَّمَ في الحَدِيثِ «أنَّها تَعْدِلُ رُبُعَ القُرْآنِ». قالَ في (اللُّبابِ): ووَجْهُ ذَلِكَ أنَّ القُرْآنَ مُشْتَمِلٌ عَلى الأمْرِ والنَّهْيِ، وكُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَنْقَسِمُ إلى ما يَتَعَلَّقُ بِعَمَلِ القُلُوبِ وإلى ما يَتَعَلَّقُ بِعَمَلِ الجَوارِحِ، فَحَصَلَ مِن ذَلِكَ أرْبَعَةُ أقْسامٍ، وهَذِهِ السُّورَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلى النَّهْيِ عَنْ عِبادَةِ غَيْرِ اللَّهِ تَعالى، وهي مِن الِاعْتِقادِ، وذَلِكَ مِن أفْعالِ القُلُوبِ. فَكانَتْ هَذِهِ السُّورَةُ رُبُعَ القُرْآنِ عَلى هَذا التَّقْسِيمِ. وسَيَأْتِي في تَفْسِيرِ الإخْلاصِ سِرٌّ آخَرُ. (p-٦٢٨١)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١ - ٦ ] ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾ ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: ٢] ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٣] ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ [الكافرون: ٤] ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٥] ﴿لَكم دِينُكم ولِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦] ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾ أيِ: المُشْرِكُونَ الجاحِدُونَ لِلْحَقِّ، الَّذِي وضَحَتْ حُجَّتُهُ واتَّضَحَتْ مَحَجَّتُهُ. ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: ٢] أيْ: مِنَ الآلِهَةِ والأوْثانِ الآنَ. ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٣] أيِ: الآنَ. ﴿ولا أنا عابِدٌ﴾ [الكافرون: ٤] أيْ: فِيما أسْتَقْبِلُ ﴿ما عَبَدْتُمْ﴾ [الكافرون: ٤] أيْ: فِيما مَضى. ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ﴾ [الكافرون: ٥] أيْ: فِيما تَسْتَقْبِلُونَ أبَدًا ﴿ما أعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٥] أيْ: فِيما أسْتَقْبِلُ ﴿ما عَبَدْتُمْ﴾ [الكافرون: ٤] أيِ: الآنَ وفِيما أسْتَقْبِلُ، هَكَذا فَسَّرَهُ الإمامُ ابْنُ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ، ثُمَّ قالَ: وإنَّما قِيلَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، لِأنَّ الخِطابَ مِنَ اللَّهِ كانَ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ في أشْخاصٍ بِأعْيانِهِمْ مِنَ المُشْرِكِينَ، قَدْ عَلِمَ أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ أبَدًا، وسَبَقَ لَهم ذَلِكَ في السّابِقِ مِن عِلْمِهِ، فَأمَرَ نَبِيَّهُ ﷺ أنْ يُؤَيِّسَهم مِنَ الَّذِينَ طَمِعُوا فِيهِ وحَدَّثُوا بِهِ أنْفُسَهم. وإنَّ ذَلِكَ الغَيْرَ كائِنٌ مِنهُ ولا مِنهم في وقْتٍ مِنَ الأوْقاتِ. وآيَسَ نَبِيَّ اللَّهِ ﷺ مَعَ الطَّمَعِ في إيمانِهِمْ، ومِن أنْ يُفْلِحُوا أبَدًا، فَكانُوا كَذَلِكَ لَمْ يُفْلِحُوا ولَمْ يَنْجَحُوا، إلى أنْ قُتِلَ بَعْضُهم يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ، وهَلَكَ بَعْضٌ قَبْلَ ذَلِكَ كافِرًا. ثُمَّ رَوى رَحِمَهُ اللَّهُ عَنِ ابْنِ إسْحاقَ «عَنْ سَعِيدِ بْنِ مِينا قالَ: لَقِيَ الوَلِيدُ بْنُ المُغِيرَةِ (p-٦٢٨٢)والعاصُ بْنُ وائِلٍ والأسْوَدُ بْنُ المُطَّلِبِ وأُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقالُوا: يا مُحَمَّدُ! هَلُمَّ، فَلْنَعْبُدْ ما تَعْبُدُ وتَعْبُدُ ما نَعْبُدُ، ونُشْرِكُكَ في أمْرِنا كُلِّهِ، فَإنْ كانَ الَّذِي جِئْتَ بِهِ خَيْرًا مِمّا بِأيْدِينا، كُنّا قَدْ شَرَكْناكَ فِيهِ وأخَذْنا بِحَظِّنا مِنهُ، وإنْ كانَ الَّذِي بِأيْدِينا خَيْرًا مِمّا في يَدَيْكَ كُنْتَ قَدْ شَرَكْتَنا في أمْرِنا وخُذْ مِنهُ بِحَظِّكَ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ ﴿قُلْ يا أيُّها الكافِرُونَ﴾ السُّورَةَ، وفي رِوايَةٍ: وأنْزَلَ اللَّهُ في ذَلِكَ هَذِهِ السُّورَةَ، وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ أفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أعْبُدُ أيُّها الجاهِلُونَ﴾ [الزمر: ٦٤] ﴿بَلِ اللَّهَ فاعْبُدْ وكُنْ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ [الزمر: ٦٦]» انْتَهى. وقِيلَ: الجُمْلَتانِ الأخِيرَتانِ لِنَفْيِ العِبادَةِ حالًا كَما أنَّ الأُولَيَيْنِ لِنَفْسِها اسْتِقْبالًا، قالَ أبُو السُّعُودِ: وإنَّما لَمْ يَقُلْ: (ما عَبَدْتُ)؛ لِيُوافِقَ (ما عَبَدْتُمْ)؛ لِأنَّهم كانُوا مَوْسُومِينَ قَبْلَ البَعْثَةِ بِعِبادَةِ الأصْنامِ وهو عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَكُنْ حِينَئِذٍ مَوْسُومًا بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى. وإيثارُ (ما) في "ما أعْبُدُ" عَلى (مَن)؛ لِأنَّ المُرادَ هو الوَصْفُ، كَأنَّهُ قِيلَ: "ما أعْبُدُ مِنَ المَعْبُودِ العَظِيمِ الشَّأْنِ الَّذِي لا يُقادَرُ قَدْرُ عَظَمَتِهِ. وقِيلَ: أنَّ "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، أيْ: لا أعْبُدُ عِبادَتَكم ولا تَعْبُدُونَ عِبادَتِي. وقِيلَ: الأُولَيانِ بِمَعْنى (الَّذِي)، والأُخْرَيانِ مَصْدَرِيَّتانِ. وقِيلَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ [الكافرون: ٤] تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: ٢] وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٣] ثانِيًا تَأْكِيدًا لِمِثْلِهِ المَذْكُورِ أوَّلًا. انْتَهى. ونَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ الإمامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ أنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: ٢] نَفْيُ الفِعْلِ، لِأنَّها جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ [الكافرون: ٤] نَفْيُ قَبُولِهِ لِذَلِكَ بِالكُلِّيَّةِ، لِأنَّ النَّفْيَ بِالجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ آكَدُ، فَكَأنَّهُ نَفى الفِعْلَ وكَوْنَهُ قابِلًا لِذَلِكَ، ومَعْناهُ نَفْيُ الوُقُوعِ ونَفْيُ الإمْكانِ الشَّرْعِيِّ أيْضًا، وهو قَوْلٌ حَسَنٌ. واخْتارَ الإمامُ كَوْنَ "ما" في الأُولَيَيْنِ مَوْصُولَةً وفِيما بَعْدَها مَصْدَرِيَّةً، قالَ: فَمَفادُ الجُمْلَتَيْنِ الأُولَيَيْنِ الِاخْتِلافُ التّامُّ في المَعْبُودِ، ومَفادُ الجُمْلَتَيْنِ الأُخْرَيَيْنِ تَمامُ الِاخْتِلافِ في العِبادَةِ، فَلا (p-٦٢٨٣)مَعْبُودُنا واحِدٌ ولا عِبادَتُنا واحِدَةٌ؛ لِأنَّ مَعْبُودِي ذَلِكَ الإلَهُ الواحِدُ المُنَزَّهُ عَنِ النِّدِّ والشَّفِيعِ، المُتَعالِي عَنِ الظُّهُورِ في شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، الباسِطُ فَضْلَهُ لِكُلِّ مَن أخْلَصَ لَهُ، الآخِذُ قَهْرَهُ بِناصِيَةِ كُلِّ مَن نابَذَ المُبَلِّغِينَ الصّادِقِينَ عَنْهُ، والَّذِي تَعْبُدُونَهُ عَلى خِلافِ ذَلِكَ. وعِبادَتِي مُخْلِصَةٌ لِلَّهِ وحْدَهُ، وعِبادَتُكم مَشُوبَةٌ بِالشِّرْكِ مَصْحُوبَةٌ بِالغَفْلَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى؛ فَلا تُسَمّى عَلى الحَقِيقَةِ عِبادَةً. فَأيْنَ هي مِن عِبادَتِي؟ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿لَكم دِينُكُمْ﴾ [الكافرون: ٦] تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا أعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ﴾ [الكافرون: ٢] وقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ﴾ [الكافرون: ٤] كَما أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦] تَقْرِيرٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا أنْتُمْ عابِدُونَ ما أعْبُدُ﴾ [الكافرون: ٥] والمَعْنى أنَّ دِينَكُمُ الَّذِي هو الإشْراكُ مَقْصُورٌ عَلى الحُصُولِ لَكُمْ، لا يَتَجاوَزُهُ إلى الحُصُولِ لِي أيْضًا، كَما تَطْمَعُونَ فِيهِ؛ فَإنَّ ذَلِكَ مِنَ المُحالاتِ، وأنَّ دِينِي الَّذِي هو التَّوْحِيدُ، مَقْصُورٌ عَلى الحُصُولِ لِي، لا يَتَجاوَزُهُ إلى الحُصُولِ لَكُمْ، فَلا مُشارَكَةَ بَيْنَهُ وبَيْنَ ما أنْتُمْ عَلَيْهِ. تَنْبِيهٌ: قالَ ابْنُ كَثِيرٍ اسْتَدَلَّ الإمامُ الشّافِعِيُّ وغَيْرُهُ بِهَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ ﴿لَكم دِينُكم ولِيَ دِينِ﴾ [الكافرون: ٦] عَلى أنَّ الكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ واحِدَةٌ فَوَرِثَ اليَهُودُ مِنَ النَّصارى وبِالعَكْسِ، إذا كانَ بَيْنَهُما نَسَبٌ أوْ سَبَبٌ يُتَوارَثُ بِهِ؛ لِأنَّ الأدْيانَ -ما عَدا الإسْلامَ- كُلَّها كالشَّيْءِ الواحِدِ في البُطْلانِ. وذَهَبَ أحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ومَن وافَقَهُ إلى عَدَمِ تَوْرِيثِ النَّصارى مِنَ اليَهُودِ، وبِالعَكْسِ؛ لِحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ««لا يَتَوارَثُ أهْلُ مِلَّتَيْنِ شَتّى»» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب