الباحث القرآني

(p-٦٢٧٦)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورَةُ الكَوْثَرِ مَكِّيَّةٌ، ويُقالُ مَدَنِيَّةٌ، وآيُها ثَلاثٌ. (p-٦٢٧٧)بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ١ - ٣ ] ﴿إنّا أعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ﴾ ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ [الكوثر: ٢] ﴿إنَّ شانِئَكَ هو الأبْتَرُ﴾ [الكوثر: ٣] ﴿إنّا أعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ﴾ أيِ: الخَيْرَ الكَثِيرَ مِنَ القُرْآنِ والحِكْمَةِ والنُّبُوَّةِ والدِّينِ الحَقِّ والهُدى وما فِيهِ مِن سَعادَةِ الدّارَيْنِ. رَوى ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أبِي بِشْرٍ قالَ: سَألْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنِ الكَوْثَرِ، فَقالَ: هو الخَيْرُ الكَثِيرُ الَّذِي آتاهُ اللَّهُ إيّاهُ، فَقُلْتُ لِسَعِيدٍ: إنّا كُنّا نَسْمَعُ أنَّهُ نَهْرٌ في الجَنَّةِ؟ فَقالَ: هو مِنَ الخَيْرِ الَّذِي أعْطاهُ اللَّهُ إيّاهُ. ﴿فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ﴾ [الكوثر: ٢] قالَ الإمامُ: أيْ: فاجْعَلْ صَلاتَكَ لِرَبِّكَ وحْدَهُ، وانْحَرْ ذَبِيحَتَكَ مِمّا هو نُسُكٌ لَكَ لِلَّهِ وحْدَهُ، فَإنَّهُ هو مُرَبِّيكَ ومُسْبِغٌ نِعَمَهُ عَلَيْكَ دُونَ سِواهُ، كَما قالَ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيايَ ومَماتِي لِلَّهِ رَبِّ العالَمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٢] ﴿لا شَرِيكَ لَهُ وبِذَلِكَ أُمِرْتُ وأنا أوَّلُ المُسْلِمِينَ﴾ [الأنعام: ١٦٣] ﴿إنَّ شانِئَكَ هو الأبْتَرُ﴾ [الكوثر: ٣] قالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أيْ: مُبْغِضُكَ يا مُحَمَّدُ، وعَدُوُّكَ هو الأبْتَرُ، يَعْنِي الأقَلَّ الأذَلَّ المُنْقَطِعَ دابِرُهُ الَّذِي لا عَقِبَ لَهُ. رَوى ابْنُ إسْحاقَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومانَ قالَ: «كانَ العاصُ بْنُ وائِلٍ إذا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: (دَعُوهُ فَإنَّهُ رَجُلٌ أبْتَرُ لا عَقِبَ لَهُ. فَإذا هَلَكَ انْقَطَعَ ذِكْرُهُ)؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ السُّورَةَ». (p-٦٢٧٨)وعَنْ عَطاءٍ قالَ: «نَزَلَتْ في أبِي لَهَبٍ، وذَلِكَ حِينَ ماتَ ابْنُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَهَبَ أبُو لَهَبٍ إلى المُشْرِكِينَ فَقالَ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ اللَّيْلَةَ. فَأنْزَلَ اللَّهُ في ذَلِكَ السُّورَةَ». وقالَ شَمِرُ بْنُ عَطِيَّةَ: نَزَلَتْ في عُقْبَةَ بْنِ أبِي مُعَيْطٍ. قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: والآيَةُ تَعُمُّ جَمِيعَ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ، مِمَّنْ ذُكِرَ وغَيْرِهِمْ. وقالَ الإمامُ: كانَ المُسْتَهْزِئُونَ مِن قُرَيْشٍ كالعاصِ بْنِ وائِلٍ وعُقْبَةَ بْنِ أبِي مُعَيْطٍ وأبِي لَهَبٍ وأمْثالِهِمْ، إذا رَأوْا أبْناءَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ يَمُوتُونَ، يَقُولُونَ: بُتِرَ مُحَمَّدٌ، أيْ: لَمْ يَبْقَ لَهُ ذِكْرٌ في أوْلادِهِ مِن بَعْدِهِ، ويَعُدُّونَ ذَلِكَ عَيْبًا يَلْمِزُونَهُ بِهِ ويُنَفِّرُونَ بِهِ النّاسَ مِن أتْباعِهِ، وكانُوا إذا رَأوْا ضَعْفَ المُسْلِمِينَ وفَقْرَهم وقِلَّتَهم يَسْتَخِفُّونَ بِهِمْ ويُهَوِّنُونَ أمْرَهُمْ، ويَعُدُّونَ ذَلِكَ مَغْمَزًا في الدِّينِ، ويَأْخُذُونَ القِلَّةَ والضَّعْفَ دَلِيلًا عَلى أنَّ الدِّينَ لَيْسَ بِحَقٍّ، ولَوْ كانَ حَقًّا لَنَشَأ مَعَ الغِنى والقُوَّةِ شَأْنُ السُّفَهاءِ مَعَ الحَقِّ في كُلِّ زَمانٍ أوْ مَكانٍ غَلَبَ فِيهِ الجَهْلُ. وكانَ المُنافِقُونَ إذا رَأوْا ما فِيهِ المُؤْمِنُونَ مِنَ الشِّدَّةِ والبَأْساءِ يُمَنُّونَ أنْفُسَهم بِغَلَبَةِ إخْوانِهِمُ القُدَماءِ مِنَ الجاحِدِينَ، ويَنْتَظِرُونَ السُّوءَ بِالمُسْلِمِينَ لِقِلَّةِ عَدَدِهِمْ وخُلُوِّ أيْدِيهِمْ مِنَ المالِ. وكانَ الضُّعَفاءُ مِن حَدِيثِي العَهْدِ بِالإسْلامِ مِنَ المُؤْمِنِينَ، تَمُرُّ بِنُفُوسِهِمْ خَواطِرُ السُّوءِ عِنْدَما تَشْتَدُّ عَلَيْهِمْ حَلْقاتُ الضِّيقِ؛ فَأرادَ اللَّهُ سُبْحانَهُ أنْ يُمَحِّصَ مِن نُفُوسِ هَؤُلاءِ، ويُبَكِّتَ الآخَرِينَ، لِيُؤَكِّدَ لَهُ الوَعْدَ بِأنَّهُ هو الفائِزُ وأنَّ مُتَّبِعَهُ هو الظّافِرُ، وإنَّ عَدُوَّهُ هو الخائِبُ الأبْتَرُ الَّذِي يُمْحى ذِكْرُهُ ويُعْفى أثَرُهُ. تَنْبِيهٌ: لَمّا رُوِيَ مِن سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ مِمّا رَوَيْناهُ، ذَهَبَ إمامُ اللُّغَةِ ابْنُ جِنِّي إلى تَأْوِيلِ الكَوْثَرِ بِالذُّرِّيَّةِ الكَثِيرَةِ، وهو مَعْنًى بَدِيعٌ فِيهِ مُناسَبَةٌ لِسَبَبِ النُّزُولِ. قالَ ابْنُ جِنِّي في (شَرْحِ دِيوانِ المُتَنَبِّي ) في قَوْلِهِ يَمْدَحُ طاهِرَ بْنَ الحُسَيْنِ العَلَوِيَّ: ؎وأبْهَرُ آياتِ التِّهامِيِّ أنَّهُ أبُوكَ وأجْدى ما لَكَمَ مِن مَناقِبَ (p-٦٢٧٩)وفِي جُمْلَةِ ما أمْلاهُ عَلِيٌّ أبُو الفَضْلِ العَرُوضِيُّ: «أنَّ قُرَيْشًا وأعْداءَ النَّبِيِّ ﷺ كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ مُحَمَّدًا أبْتَرُ لا عَقِبَ لَهُ، فَإذا ماتَ اسْتَرَحْنا مِنهُ؛ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنّا أعْطَيْناكَ الكَوْثَرَ﴾» أيِ: العَدَدَ الكَثِيرَ، ولَسْتَ الأبْتَرَ الَّذِي قالُوهُ. ومُرادُهُ بِالعَدَدِ الكَثِيرِ الذُّرِّيَّةُ وهو أوْلادُ فاطِمَةَ. قالَ العَرُوضِيُّ: فَإنْ قِيلَ: الإنْسانُ بِالأبْناءِ والآباءِ والأُمَّهاتِ. قُلْنا: هَذا خِلافُ حُكْمِ اللَّهِ تَعالى فَإنَّهُ قَدْ قالَ: ﴿ومِن ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وسُلَيْمانَ﴾ [الأنعام: ٨٤] إلى قَوْلِهِ: ﴿ويَحْيى وعِيسى﴾ [الأنعام: ٨٥] فَجَعَلَ عِيسى مِن أوْلادِ إبْراهِيمَ ومِن ذُرِّيَّتِهِ، ولا خِلافَ في أنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِعِيسى أبٌ. انْتَهى. وقَدْ بَسَطْنا أدِلَّةَ انْتِسابِ الأسْباطِ إلى أجْدادِهِمْ في كِتابِ (شَرَفُ الأسْباطِ) بِما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَراجِعْهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب