الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٨٤ ] ﴿وقالَ مُوسى يا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ ﴿وقالَ مُوسى﴾ أيْ تَطْمِينًا لِقُلُوبِهِمْ، وإزالَةً لِلْخَوْفِ عَنْهم ﴿يا قَوْمِ إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا﴾ (p-٣٣٨٧)أيْ فَإلَيْهِ أسْنِدُوا أمْرَكم في العِصْمَةِ مِمّا تَخافُونَ، وبِهِ ثِقُوا، فَإنَّهُ كافِيكم ﴿ومَن يَتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ فَهو حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: ٣] وقَوْلُهُ ﴿إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ أيْ مُخْلِصِينَ وُجُوهَكم لَهُ. قالَ القاشانِيُّ: جَعَلَ التَّوَكُّلَ مِن لَوازِمِ الإسْلامِ، وهو إسْلامُ الوَجْهِ لِلَّهِ تَعالى، أيْ: إنْ كَمُلَ إيمانُكم ويَقِينُكُمْ، بِحَيْثُ أثَّرَ في نُفُوسِكُمْ، وجَعَلَها خالِصَةً لِلَّهِ؛ لَزِمَ التَّوَكُّلُ عَلَيْهِ. وإنْ أُرِيدَ (الإسْلامُ) بِمَعْنى الِانْقِيادِ، كانَ شَرْطًا في التَّوَكُّلِ، لا مَلْزُومًا لَهُ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ مَعْناهُ: إنْ صَحَّ إيمانُكم يَقِينًا فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا، بِشَرْطِ أنْ تَكُونُوا مُنْقادِينَ. كَما تَقُولُ: إنْ كَرِهْتَ هَذا الشَّجَرَ فاقْلَعْهُ إنْ قَدِرْتَ -انْتَهى-. وقالَ الكَرْخِيُّ: قَوْلُهُ تَعالى ﴿إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ أيْ: مُنْقادِينَ لِأمْرِهِ. فَقَوْلُهُ ﴿فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا﴾ جَوابُ الشَّرْطِ الأوَّلِ، والشَّرْطُ الثّانِي وهو ﴿إنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾ شَرْطٌ في الأوَّلِ. وذَلِكَ أنَّ الشَّرْطَيْنِ مَتى لَمْ يَتَرَتَّبا في الوُجُودِ، فالشَّرْطُ الثّانِي شَرْطٌ في الأوَّلِ. ولِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ تَقْدِيمُهُ عَلى الأوَّلِ. قالَ الفُقَهاءُ: المُتَأخِّرُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُتَقَدِّمًا، والمُتَقَدِّمُ يَجِبُ أنْ يَكُونَ مُتَأخِّرًا، مِثالُهُ: قَوْلُ الرَّجُلِ لِامْرَأتِهِ: إنْ دَخَلْتِ الدّارَ فَأنْتِ طالِقٌ إنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا، فَمَجْمُوعُ قَوْلِهِ: (إنْ دَخَلْتِ الدّارَ فَأنْتِ طالِقٌ) مَشْرُوطٌ بِقَوْلِهِ (إنْ كَلَّمْتِ زَيْدًا) والمَشْرُوطُ مُتَأخِّرٌ عَنِ الشَّرْطِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ المُتَأخِّرُ في اللَّفْظِ، مُتَقَدِّمًا في المَعْنى، وأنْ يَكُونَ المُتَقَدِّمُ في اللَّفْظِ مُتَأخِّرًا في المَعْنى، فَكَأنَّهُ يَقُولُ لِامْرَأتِهِ: حالَ ما كَلَّمْتِ زَيْدًا إنْ دَخَلْتِ الدّارَ فَأنْتِ طالِقٌ، فَلَوْ حَصَلَ هَذا المُعَلَّقُ قَبْلَ إنْ كَلَّمَتْ زَيْدًا لَمْ يَقَعِ الطَّلاقُ. فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ﴾ إلَخْ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ كَوْنُهم مُسْلِمِينَ شَرْطًا لِأنْ يَصِيرُوا مُخاطَبِينَ بِقَوْلِهِ: ﴿إنْ كُنْتُمْ آمَنتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا﴾ فَكَأنَّهُ تَعالى يَقُولُ لِلْمُسْلِمِ حالَ إسْلامِهِ: إنْ كُنْتَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ فَعَلى اللَّهِ تَوَكَّلْ. والأمْرُ كَذَلِكَ، لِأنَّ الإسْلامَ عِبارَةٌ عَنْ الِاسْتِسْلامِ، (p-٣٣٨٨)وهُوَ الِانْقِيادُ لِتَكالِيفِ اللَّهِ، وتَرْكُ التَّمَرُّدِ والإيمانُ عِبارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةِ القَلْبِ بِأنَّ واجِبَ الوُجُودِ لِذاتِهِ واحِدٌ، وما سِواهُ مُحْدَثٌ تَحْتَ تَدْبِيرِهِ وقَهْرِهِ. وإذا حَصَلَتْ هاتانِ الحالَتانِ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُفَوِّضُ العَبْدُ جَمِيعَ أُمُورِهِ إلَيْهِ تَعالى، ويَحْصُلُ في القَلْبِ نُورُ التَّوَكُّلِ عَلى اللَّهِ تَعالى. انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب