مدنية في قول ابن عباس وقتادة، ومكية في قول ابن مسعود وعطاء وجابر، وهي ثمان آيات، وخمس وثلاثون كلمة، ومائة وتسع وأربعون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا﴾ . «إذّا» شرط، وجوابه «تُحدِّثُ» ، وهو النَّاصب لها عند الجمهور.
وجوَّز أبو البقاء أن يكون العامل فيها مصدراً.
وغيره يجعل العامل فيها ما بعدها، وإن كان معمولاً لها بالإضافة تقديراً، واختاره مكي، وجعل ذلك نظير «من وما» ، يعني أنهما يعملان فيما بعدهما الجزم، وما بعدهما يعمل فيهما النصب، ولو مثل ب «أي» لكان أوضح.
وقيل: العامل فيها مقدر، أي: يحشرون.
وقيل: اذكر، وحينئذ يخرج عن الظرفية والشرط.
* فصل في المناسبة بين أول هذه السورة وآخر السورة المتقدمة
وجه المناسبة بين أول هذه السُّورة وآخر السورة المتقدمة، أنه تعالى لما قال: ﴿جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ فكأن المكلف قال: ومتى يكون ذلك؟ .
فقيل له: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض﴾ فالعاملون كلهم يكونون في الخوف، وأنت في ذلك الوقت تنال جزاءك، وتكون آمناً، لقوله تعالى: ﴿وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ﴾ [النمل: 89] .
وقيل: لما ذكر في السُّورة المتقدمة وعيد الكافر ووعد المؤمن أراد أن يزيد في وعيد الكافر، فقال: أجازيه، حتى يقول الكافر السابق ذكره: ما للأرض تزلزلت، نظيره ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: 106] ، فذكر سبحانه الطائفتين، وذكر ما لكل طائفةٍ، ثم جمع بينهما في آخر السورة بذكر الذرة من الخير، فإن قيل: «إذَا» للوقت، فكيف وجه البداية بها في السورة؟ الجواب: أنهم كانوا يسألونه عن الساعة، فقال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا﴾ فإنه تعالى يقول: لا سبيل إلى تعيينها بحسب وقتها، ولكن أعينه بحسب علاماته، أو أنه تعالى أراد أن يخبر المكلف أن الأرض تتحدث وتشهد يوم القيامة مع أنها في هذه الساعة جماد، فكأنه لما قيل: متى يكون ذلك؟ قال تعالى: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض﴾ .
* فصل في معنى الزلزلة
روى عكرمة عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه كان يقول: النفخة الأولى تزلزلها، وهو قول مجاهد، لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة تَتْبَعُهَا الرادفة﴾ [النازعات: 6، 7] ، ثم تزلزل ثانية، فتخرج موتاها، وهي الأثقال، وذكر المصدر للتأكيد، ثم أضيف إلى الأرض، كقولك: لأعطينَّكَ عطيتك، أي: عطيتي لك، وحسن ذلك لموافقة رءوس الآي بعدها.
وهو مصدر مضاف لفاعله، والمعنى زلزالها الذي تستحق ويقتضيه عظمها.
قال الزمخشري: «ونحوه قولك: أكرم التقي إكرامه، وأهن الفاسق إهانته» .
قرأ الجمهور: «زِلْزالهَا» بكسر الزاي، والجحدري وعيسى: بفتحها.
قيل: هما مصدران بمعنى.
وقيل: المكسور مصدر، والمفتوح اسم، قاله الزمخشري. وليس في الأبنية «فعلال» يعني غالباً، وإلا فقد ورد: ناقة جزعال.
قال القرطبيُّ: «والزَّلزال - بالفتح - مصدر، كالوسواس، والقلقال والجرْجَار» .
قوله: ﴿وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا﴾ .
قال أبو عبيدة والأخفش: إذا كان الميت في بطن الأرض، فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها، فهو ثقل عليها.
وقال ابن عباس ومجاهد: «أثْقَالهَا» موتاها، تخرجهم في النفخة الثانية.
ومنه قيل للجن والإنس: الثقلان، وقيل: «أثْقالهَا» : كنوزها، ومنه الحديث: «تقيء الأرض أفلاذ كبدها أمثال الإسطوان من الذهب والفضة» .
قوله: ﴿وَقَالَ الإنسان﴾ ، أي ابن آدم، الكافر.
وقال ابن عباس: هو الأسود بن عبد الأسد.
وقيل: أراد كلَّ إنسان يشاهد ذلك عند قيام الساعة في النفخة الأولى من مؤمن وكافر، وقوله: ﴿مَا لَهَا﴾ ابتداء وخبر، وهذا يرد قول من قال: إن الحال في نحو قوله تعالى: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ﴾ [المدثر: 49] لازمة لئلا يصير الكلام غير مفيد، فإنه لا حال هنا، ومعنى: ﴿مَا لَهَا﴾ أي: ما لها زلزلت، وقيل: ما لها أخرجت أثقالها ﴿وهي كلمة تعجب، أي: لأي شيء زلزلت؟﴾ ويجوز أن يُحيي الله الموتى بعد وقوع النفخة الأولى، ثم تتحرك الأرض، فتخرج الموتى، وقد رأوا الزلزلة، وانشقاق الأرض عن الموتى فيقولون من الهول: ما لها، [كأنهم يخاطبون أنفسهم تعجباً] .
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ﴾ ، أي: يوم إذا زلزلت، والعامل في «يَومَئذٍ» : «تُحدِّثُ» إن جعلت «إذَا» منصوبة بما بعدها، [أو بمحذوف، وإن جعلت العامل فيها «تحدّث» كان «يومئذ» بدلاً منها فالعامل فيه] العامل فيها، أو شيء آخر، لأنه على تكرير العاملِ، وهو خلاف مشهور.
* فصل في معنى الآية
معنى «تحدث أخبارها» ، أي: تخبر الأرض بما عمل عليها من خير، أو شر يومئذ.
ثم قيل: هو من قول الله تعالى.
وقيل: من قول الإنسان، أي: يقول الإنسان «مَا لَهَا» ، «تُحدِّثُ أخْبارهَا» متعجباً.
روى الترمذي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «قال قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية ﴿يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ قال: أتدْرُونَ ما أخْبارُهَا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فإنَّ أخبارها أن تشْهَدَ على كُلِّ عبدٍ أو أمةٍ بما عمل على ظهرهَا تقُول: عملَ يَوْمَ كَذَا، كَذَا وكَذَا، قال:» فهَذهِ أخْبارُهَا «» .
قال الماورديُّ: قوله تعالى: ﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ فيه ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن تحدث أخبارها بأعمال العباد على ظهرها، قاله أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ورواه مرفوعاً، وهو قول من زعم أنها زلزلة القيامة.
الثاني: قال يحيى بن سلام: ﴿تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾ بما أخرجت من أثقالها، وهو قول من زعم أنها زلزلة أشراط الساعة.
الثالث: قال ابن مسعود: أنها تحدث بقيام الساعة، إذا قال الإنسان: ما لها؟ فتحبر أن أمر الدنيا قد انقضى، وأمر الآخرةِ قد أتى، فيكونُ ذلك منها جواباً لهم عند سؤالهم، ووعيداً للكافر، وإنذاراً للمؤمن.
وفي حديثها بأخبارها ثلاثةُ أقاويل:
أحدها: أن الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً، فتتكلم بذلك.
الثاني: أن الله يحدث فيها الكلام.
الثالث: أنه يكون منها بيان يقوم مقام الكلام.
قال الطبريُّ: تبين أخبارها بالرَّجَّة، والزلزلة، وإخراج الموتى.
قوله: ﴿بِأَنَّ رَبَّكَ﴾ متعلق ب «تُحدِّثُ» ، أي: تحدث الأرض بما أوحى إليها ويجوز أن يتعلق بنفس أخبارها.
وقيل: الباء زائدة و «أنَّ» وما في حيزها بدل من أخبارها.
وقيل: الباء سببية، أي: بسبب إيحاء الله إليها.
وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: أين مفعولاً» تُحدِّثُ» ؟ .
قلت: حذف أولهما، والثاني: أخبارها، أي: تحدث الخلق أخبارها، إلا أن المقصود ذكر تحديثها الأخبار لا ذكر الخلق تعظيماً لليوم.
فإن قلت: بم تعلقت الباء، في قوله «بأنَّ ربَّك» ؟ .
قلتُ: ب» تحدث «ومعناه: تحدث أخبارها بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث، ويجوز أن يكون المعنى: يومئذٍ تحدثُ بتحديث أن ربَّك أوحى لها أخبارها على أن تحديثها بأن ربِّك أوحى لها تحديث بأخبارها، كما تقول: نصحتني كُلَّ نصيحة بأن نصحتني في الدين» .
قال أبو حيان: وهو كلام فيه عفش، ينزه القرآن عنه.
قال شهاب الدين: وأي عفش فيه، فصحته وفصاحته، ولكنه لما طال تقديره من جهة إفادة هذا المعنى الحسن جعله عفشاً وحاشاه.
ثم قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون» بأنَّ ربَّك «بدلاً من» أخبارها «كأنه قيل: يومئذ تحدث بأخبارها بأن ربَّك أوحى لها، لأنك تقول: حدثته كذا، وحدثته بكذا» .
قال أبو حيَّان: «وإذا كان الفعل تارة يتعدى بحرف جر، وتارة يتعدى بنفسه، وحرف الجر ليس بزائد، فلا يجوز في تابعه إلاَّ الموافقة في الإعراب، فلا يجوز:» استغفرتُ الذنب العظيم «بنصب» الذنب «وجر» العظيم «لجواز أنك تقول:» من الذنب «، ولا» اخترتُ زيداً الرجال الكرام «بنصب» الرجال «وخفض» الكرام «وكذلك لا يجوز:» استغفرتُ من الذنب العظيم «بجر» الذنب «ونصب» العظيم «وكذلك في» اخترتُ «فلو كان حرف الجر زائداً جاز الإتباع على موضع الاسم، بشروطه المحررة في علم النحو، تقول: ما رأيت من رجل عاقلاً، لأن» من «زائدة، ومن رجل عاقل على اللفظ، ولا يجوز نصب» رجل «وجر» عاقل «على مراعاة جواز دخول» من «وإن ورد شيء من ذلك، فبابه الشعر» . انتهى.
قال شهاب الدين: ولا أدري كيف يلزم الزمخشري ما ألزمه به من جميع المسائلِ التي ذكرها، فإن الزمخشري يقول: إن هذا بدل مما قبله، ثم ذكر مسوغ دخول الباءِ في البدل، وهو أن المبدل منه يجوز دخول الباء عليه، فلو حل البدل محل المبدل منه ومعه الباء لكان جائزاً، لأن العامل يتعدى به، وذكر مسوغاً لخلو المبدل منه من الباء، فقال: «لأنك تقول: حدثته كذا وحدثته بكذا» ، وأما كونه يمتنع أن يقول: «استغفرتُ الذنب العظيم» بنصب «الذنب» وجرّ «العظيمِ» إلى آخره، فليس في كلام الزمخشري شيء منه ألبتة، ونظير ما قاله الزمخشري في باب «استغفر» ان تقول: استغفرت الله ذنباً من شتمي زيداً، فقولك «من شتمي» بدل من «الذنب» ، وهذا جائزٌ لا محالة.
قوله
﴿أوحى لَهَا ﴾ . في هذه اللام أوجه: أحدها: أنها بمعنى «إلى» ، وإنما أوثرت على «إلى» لمراعاة الفواصل، والمعنى: أوحى لها تحدث أخبارها بوحي الله تعالى لها أي إليها، والعرب تضع لام الصفة موضع «إلى» ، قال العجَّاجُ يصفُ الأرض: [الرجز]
5265 - أوْحَى لهَا القَرار فاسْتقرَّتِ ... وشدَّهَا بالرَّاسياتِ الثُّبَّتِ
قاله أبو عبيدة.
الثاني: على أصلها، «أوحَى» يتعدى باللام تارة، وب «إلى» أخرى، ومنه البيت.
الثالث: اللام على بابها من العلة، والموحى إليه محذوف، وهو الملائكة، تقديره: أوحى إلى الملائكة لأجل الأرض، أي: لأجل ما يفعلون فيها.
قال الثوريُّ: تحدث أخبارها مما كان عليها من الطَّاعات والمعاصي، وما كان على ظهرها من خير وشر.
{"ayahs_start":1,"ayahs":["إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا","وَأَخۡرَجَتِ ٱلۡأَرۡضُ أَثۡقَالَهَا","وَقَالَ ٱلۡإِنسَـٰنُ مَا لَهَا","یَوۡمَىِٕذࣲ تُحَدِّثُ أَخۡبَارَهَا","بِأَنَّ رَبَّكَ أَوۡحَىٰ لَهَا"],"ayah":"إِذَا زُلۡزِلَتِ ٱلۡأَرۡضُ زِلۡزَالَهَا"}