فالجوابُ: يحتمل أن من أسفل العالم إلى أعلى العرش خمسين ألف سنةٍ، ومن أعلى سماءِ الدنيا إلى الأرض ألف سنةٍ؛ لأن عرض كل سماءٍ خمسمائة، وما بين أسفل السماء إلى قرار الأرض خمسمائة، فقوله: ﴿في يَوْمٍ﴾ يريد: في يوم من أيام الدنيا، وهو مقدار ألف سنةٍ لو صعدوا فيه إلى سماء الدنيا، ومقدار خمسين ألف سنةٍ لو صعدوا إلى أعلى العرش.
قوله
: ﴿فاصبر صَبْراً جَمِيلاً﴾ قال ابن الخطيب: هذا متعلق ب «سألَ سَائلٌ» ؛ لأن استعجالهم بالعذاب كان على وجه الاستهزاءِ برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتعنُّت فأمر بالصبر.
ومن قَرَأ: «سَالَ سَائِل» ، وسيل فالمعنى جاء العذاب لقرب وقوعه فاصبر على أذى قومك، والصَّبرُ الجميلُ هو الذي لا جزع فيه، ولا شكوى لغير الله.
وقيل: أن يكون صاحب مصيبة في القوم لا يدرى من هو.
قال ابنُ زيدٍ والكلبيُّ: هذه الآيةُ منسوخة بالأمر بالقتال.
قوله: ﴿إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً﴾ .
الضميرُ في «إنَّهُمْ» لأهل «مكة» ، وفي «يَرونَهُم، ونَرَاه» لليوم إن أريد به يوم القيامة.
قال القرطبيُّ: أي: نعلمه؛ لأن الرؤية إنما تتعلقُ بالموجودِ، كقولك: الشافعي يرى في هذه المسألةِ كذا.
وقال الأعمشُ: يرون البَعْثَ بعيداً؛ لأنهم لا يؤمنون به، كأنهم يستبعدونه على جهة الإحالة كمن يقول لمن يناظره: هذا بعيدٌ لا يكون.
وقيل: الضمير يعودُ إلى العذاب بالنار، أي: غير كائن، «ونراه قريباً» لأن ما هو آت، فهو قريب.
قوله: ﴿يَوْمَ تَكُونُ﴾ ، فيه أوجه: أحدها: أنه متعلق ب «قريباً» وهذا إذا كان الضمير في «نراه» للعذاب ظاهراً.
الثاني: أنه يتعلق بمحذوف يدل عليه «واقع» ، أي: يقع يوم يكون.
الثالث: أنه يتعلق بمحذوفٍ مقدر بعده، أي: يوم يكون كان وكيت وكيت.
الرابع: أنه بدل من الضمير في «نَرَاهُ» إذا كان عائداً على يومِ القيامةِ.
الخامس: أنَّه بدل عن «فِي يَوْمٍ» ، فيمن علقه ب «واقع» . قاله الزمخشري.
وإنَّما قال: فيمن علقه «بِواقعٍ» لأنه إذا علق ب «تَعْرُجُ» في أحد الوجهين استحال أن يبدل عنه هذا لأن عروج الملائكة ليس هو في هذا اليوم الذي تكون السماء كالمُهْلِ، والجبال كالعِهْنِ، ويشغل كل حميمٍ عن حميمه.
قال أبو حيان: «ولا يجوز هذا» يعني: إبداله من «في يوم» قال: لأن «فِي يَوْمٍ» وإن كان في موضع نصبٍ لا يبدل منه منصوب؛ لأن مثل هذا ليس بزائد، ولا محكوم له بحكم الزائد، ك «رُّبَّ» وإنما يجوز مراعاة الموضع في حرف الجر الزائد؛ كقوله: [الكامل]
4859 - أبَنِي لُبَيْنَى لَسْتُمَا بِيدٍ ... إلاَّ يَداً ليْسَتْ لَهَا عَضُدُ
ولذلك لا يجوز «مررتُ بزيد الخياط» على موضع «بزيد» ولا «مررتُ بزيد وعمراً» ، ولا «غضب على زيد وجعفراً» ولا «مررت بزيد وأخاك» على مراعاة الموضع.
قال شهاب الدين: قد تقدم أن قراءة ﴿وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ﴾ [المائدة: 6] من هذا الباب فمن نصب الأرجل فليكن هذا مثله.
ثم قال أبو حيَّان: فإن قلت: الحركة في «يوم» تكون حركة بناء لا حركة إعرابٍ، فهو مجرور مثل «فِي يَوْمٍ» .
قلتُ: لا يجوز بناؤه على مذهب البصريين؛ لأنه أضيف إلى مُعرب، لكنه يجوز على مذهب الكوفيين فيتمشى كلامُ الزمخشريِّ على مذهبهم إن كان استحضره وقصده انتهى.
قال شهاب الدين: إن كان استحضره فيه تحامل على الرجل، وأي كبير أمر في هذا حتى لا ييستحضر مثل هذا. وتقدم الكلام على المهل في «الدخان» .
قوله: ﴿وَتَكُونُ الجبال كالعهن﴾ .
قيل: «العِهْنُ» هو الصُّوف مطلقاً، وقيل: يقدر كونه أحمر وهو أضعف الصوف، ومنه قول زهير: [الطويل]
4860 - كَأنَّ فُتَاتَ العِهْنِ في كُلِّ مَنْزِلٍ ... يَزَالُ بِه حَبُّ الفَنَا لمْ يُحَطَّمِ
الفتات: القطع، والعِهْنُ: الصُّوف الأحمر، واحده عهنة.
وقيل: يقيد كونه مصبوغاً ألواناً، وهذا أليق بالتشبيه؛ لأن الجبال متلونة، كما قال تعالى: ﴿جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ﴾ [فاطر: 27] .
والمعنى: أنها تلين بعد شدة، وتتفرق بعد الاجتماع.
وقيل: أول ما تتفرق الجبال تصير رمالاً ثم عِهْناً منفوشاً، ثم هباءً مَنْثُوراً.
قوله: ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ .
قرأ العامة: «يَسْألُ» مبنياً للفاعل، والمفعول الثاني محذوف، فقيل: تقديره: لا يسأله نصره، ولا شفاعته لعلمه أنَّ ذلك مفقود.
وقيل: لا يسأله شيئاً من حمل أو زادٍ.
وقيل: «حَمِيْماً» منصوب على إسقاط الخافض، أي: عن حميم، لشغله عنه. قاله قتادة. لقوله تعالى: ﴿لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: 37] .
وقرأ أبو جعفر، وأبو حيوة، وشيبة، وابن كثير في رواية قال القرطبيُّ: والبزي عن عاصم: «يُسْألُ» مبنياً للمفعول.
فقيل: «حميماً» مفعول ثان لا على إسقاط حرف، والمعنى: لا يسأل إحضاره.
وقيل: بل هو على إسقاط «عَنْ» ، أي: عن حميم، ولا ذو قرابة عن قرابته، بل كل إنسان يُسأل عن عمله، نظيره: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38] .
قوله: ﴿يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ عدي بالتضعيف إلى ثان، وقام الأول مقام الفاعل، وفي محل هذه الجملة وجهان:
أحدهما: أنها في موضع الصفة ل «حَمِيم» .
والثاني: أنها مستأنفة.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما موقع «يُبصَّرُونهُم» ؟
قلت: هو كلام مستأنف، كأنه لمَّا قال: ﴿لاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً﴾ قيل: لعله لا يبصره، فقال: «يُبَصَّرُونهُم» ، ثم قال: ويجوز أن يكون «يبصرُونهُم» صفة، أي: حميماً مبصرين معرفين إياهم انتهى.
وإنما اجتمع الضميران في «يبصرُونهُم» وهما للحميمين حملاً على معنى العمومِ؛ لأنهما نكرتان في سياق النفي.
وقرأ قتادةُ: «يُبصِرُونهُمْ» مبنياً للفاعل، من «أبصَرَ» ، أي: يبصر المؤمن الكافر في النار.
* فصل في قوله تعالى يبصرونهم
«يُبصَّرُونهُم» ، أي: يرونهم، يقال: بصرت به أبصر، قال تعالى: ﴿بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ﴾ [طه: 96] ، ويقال: «بصَّرَني زيدٌ بكذا» فإذا حذفت الجار قلت: بصَّرني زيدٌ، فإذا بنيت الفعل للمفعول، وقد حذفت الجارَّ، قلت: بصرت زيداً، فهذا معنى: «يُبَصَّرونهُمْ» أي: يعرف الحميمُ الحميمَ حين يعرفه، وهو مع ذلك، لا يسأله عن شأنه لشغله بنفسه، فيبصر الرجلُ أباه، وأخاه، وقرابته، وعشيرته، فلا يسألهُ، ولا يكلمه؛ لاشتغالهم بأنفسهم.
وقال ابن عبَّاس: يتعارفون ساعة، ثم لا يتعارفون بعد ذلك.
وقال ابن عباس أيضاً: يُبْصِرُ بعضهم بعضاً، فيتعارفون ثم يفرُّ بعضهم من بعضٍ، فالضمير في «يُبَصَّرونهُم» على هذا للكافر، والهاءُ والميم للأقرباء.
وقال مجاهدُ: المعنى: يُبَصِّرُ الله المؤمنين الكفَّار في يوم القيامةِ، فالضمير في «يُبَصَّرونهم» للمؤمنين، والهاءُ والميمُ للكفار.
وقال ابنُ زيدٍ: المعنى: يُبصِّرُ الله الكفار في النار الذين أضلوهم في الدُّنيا، فالضميرُ في «يُبَصَّرونَهُم» للتابعين، والهاءُ والميم للمتبوعين.
وقيل: إنه يُبصِرُ المظلومُ ظالمه، والمقتولُ قاتله.
وقيل: إن الضمير في «يُبصَّرونَهم» يرجع إلى الملائكة، أي: يعرفون أحوال الناس، فيسوقون كلَّ فريقٍ إلى ما يليق بهم، وتمَّ الكلامُ عند قوله: «يُبصَّرُونَهُم» . قوله: «يَوَدُّ المُجرِمُ» ، أي: يتمنَّى الكافرُ ﴿لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ﴾ ، أي: من عذاب جهنم، وقيل: المرادُ بالمجرم كلُّ مذنب، وتقدم الكلام على قراءتي «يَومئذٍ» فتحاً وجرًّا في «هود» والعامة: على إضافة «عَذابِ» ل «يَومِئذٍ» .
وأبو حيوة: بتنوين «عذابٍ» ، ونصب «يَومئذٍ» ، على الظرف.
قال ابنُ الخطيب: وانتصابه بعذاب؛ لأن فيه معنى تعذيب.
وقال أبو حيَّان هنا: «والجمهور يكسرها - أي: ميم يومئذ - والأعرج وأبو حيوة: يفتحها» انتهى.
وقد تقدم أنَّ الفتح قراءةُ نافع، والكسائي.
قوله: ﴿وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ﴾ .
قال ثعلب: الفصيلةُ: الآباء الأدنون.
وقال أبو عبيدة: الفخذ.
وقال مجاهد وابن زيدٍ: عشيرته الأقربون.
وقد تقدم ذكر ذلك عند قوله: «شعوباً وقبائل» .
وقال المُبرِّدُ: الفصيلةُ: القطعةُ من أعضاء الجسدِ، وهي دون القبيلةِ، وسُمِّيت عترةُ الرجلِ فصيلته تشبيهاً بالبعض منه.
قال ابنُ الخطيبِ: فصيلة الرجل: أقرباؤه الأقربون الذين فصل عنهم، وينتمي إليهم؛ لأن المراد من الفصيلة المفصولة؛ لأن الولد يكون مفصولاً من الأبوين، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَاطِمَةُ قِطعَةٌ منِّي» فلما كان مفصولاً منهما، كانا أيضاً مفصولين منه، فسُمِّيا فصيلة لهذا السببِ.
وكان يقالُ للعباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: فصيلةُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن العمَّ قائم مقام الأب.
وقوله: «التي تؤويه» ، أي: ينصرونه.
وقال مالك: أمُّه التي تربيه، حكاه الماورديُّ، ورواه عنه أشهبُ.
قال شهاب الدين: ولم يبدله السوسي عن أبي عمرو، قالوا: لأنه يؤدي إلى لفظ هو أثقل منه، والإبدال للتخفيف.
وقرأ الزهريُّ: «تؤويهُ، وتُنجِيهُ» بضم هاء الكناية، على الأصل.
و «ثُمَّ نُنجِيْهِ» عطف على «يَفْتَدِي» فهو داخلٌ في خبر «لَوْ» وتقدم الكلامُ فيها، هل هي مصدريةٌ أم شرطيةٌ في الماضي، ومفعول «يَوَدُّ» محذوف، أي: يودُّ النَّجاة.
وقيل: إنها هنا بمعنى «أن» وليس بشيء، وفاعل «ينجيه» إما ضميرُ الافتداء الدالُّ عليه «يَفْتَدي» ، أو ضمير من تقدم ذكرهم، وهو قوله: ﴿وَمَن فِي الأرض﴾ .
و ﴿مَن فِي الأرض﴾ مجرور عطفاً على «بَنِيْهِ» وما بعده، أي: يودُّ الافتداء بمن في الأرض أيضاً و «حميماً» إما حال، وإما تأكيد، ووحد باعتبار اللفظ.
* فصل فيما يترتب على معنى «فصيلته» من أحكام
إذا وقف على فصيلته، أو أوصى لها فمن ادعى العموم حمله على عشيرته، ومن ادعى الخصوص حمله على الآباء الأدنى فالأدنى، والأول أكثر في النطقِ، قاله القرطبي و «تؤويه» تضمه وتؤمنهُ من خوف إن كان به، ﴿وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً﴾ ، أي: ويود لو فدي بهم لافتدى «ثُمَّ يُنجِيْهِ» أي: ويخلصه ذلك الفداءُ، فلا بُدَّ من هذا الإضمار، كقوله: ﴿وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ﴾ [الأنعام: 121] أي: وإن أكلهُ لفسقٌ.
وقيل: «يَودُّ المُجرمُ» يقتضي جواباً بالفاء كقوله: ﴿وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [القلم: 9] .
والجوابُ في هذه الآية «ثُمَّ يُنجِيهِ» لأنَّها من حروف العطف، أي يودُّ المجرم لو يفتدي، وينجيهِ الافتداءُ.
{"ayahs_start":5,"ayahs":["فَٱصۡبِرۡ صَبۡرࣰا جَمِیلًا","إِنَّهُمۡ یَرَوۡنَهُۥ بَعِیدࣰا","وَنَرَىٰهُ قَرِیبࣰا","یَوۡمَ تَكُونُ ٱلسَّمَاۤءُ كَٱلۡمُهۡلِ","وَتَكُونُ ٱلۡجِبَالُ كَٱلۡعِهۡنِ","وَلَا یَسۡـَٔلُ حَمِیمٌ حَمِیمࣰا","یُبَصَّرُونَهُمۡۚ یَوَدُّ ٱلۡمُجۡرِمُ لَوۡ یَفۡتَدِی مِنۡ عَذَابِ یَوۡمِىِٕذِۭ بِبَنِیهِ","وَصَـٰحِبَتِهِۦ وَأَخِیهِ","وَفَصِیلَتِهِ ٱلَّتِی تُـٔۡوِیهِ","وَمَن فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا ثُمَّ یُنجِیهِ"],"ayah":"فَٱصۡبِرۡ صَبۡرࣰا جَمِیلًا"}