قوله تعالى: ﴿وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر﴾ الآية.
المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم؛ لأنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - قد علمها من قبل الله تعالى، والمقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء:
الأول: المقصود منه تقرير أنهم كانوا قد أقْدَمُوا على هذا الذنب القبيح تَنْبِيهاً لهم على إصرارهم على الكفر بمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -.
والثاني: أنَّ الإنسان قد يقول لغيره هل الأمر كذا وكذا؟ ليعرف ذلك بأنه محيط بمعرفةِ تلك الواقعة وغير غافل عنها. ولمَّا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً أمياً لم يعلم علماً، ولم يطالع كتاباً، ثمَّ إنَّه يذكر هذه القصص على وجوهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، كان ذلك جارياً مجرى المعجزة.
قوله: «عَنِ القَرْيَةِ» لا بُدَّ من مضافٍ محذوفٍ، أي: عن خبر القرية، وهذا المحذوفُ هو النَّاصِبُ لهذا الظرف وهو قوله «إذْ يَعْدُون» .
وقيل: هو منصوب ب «حَاطِرَة» .
قال أبُو البقاء: وجوَّزَ ذلك أنها كانت موجودةً في ذلك الوقت ثم خربت.
وقدر الزمخشريُّ: المُضاف «أهل» أي: عن أهل القرية، وجعل الظرف بدلاً من «أهل» المحذوف فإنَّهُ قال: «إذْ يَعْدُون» بدل من القرية، والمرادُ بالقرية: أهلُها كأنه قيل: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في البيت، وهو من بدل الاشتمال.
قال أبُو حيَّان وهذا لا يجوزُ؛ لأن «إذْ» من الظُّرُوف التي لا تتصرَّفُ، ولا يدخل عليها حرفُ جر، وجعلها بدلاً يجَوِّزُ دخول «عن» عليها؛ لأنَّ البدل هو على نِيَّةِ تكرار العامل ولو أَدْخَلْتَ «عن» عليها لم يجز، وإِنَّما يتصرَّف فيها بأن تُضيف إليها بعض الظُّروف الزَّمانية نحو: يوم إذ كان كذا، وأمَّا قول من ذهب إلى أنَّها تكونُ مفعولةً ب «اذكر» فقولُ مَنْ عَجَزَ عن عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً.
وقال الحوفيُّ: «إذ» متعلقةٌ ب «سَلْهم» .
قال أبُو حيان: وهذا لا يتصوَّر، لأن «إذْ» لما مضى، و «سَلْهم» مستقبلٌ، لو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى؛ لأنَّ العادين - وهم أهل القريةِ - مفقودون فلا يمكن سُؤالهم والمسئول غير أهل القرية العادين.
وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك «يَعَدُّون» بفتح العين وتشديد الدَّالِ، وهذه تُشبه قراءة نافع في قوله ﴿لاَ تتَعْدُواْ فِي السبت﴾ [النساء: 154] والأصل: تَعْتَدوا، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها.
وقُرىء «يُعِدُّونَ» بضمِّ الياء وكسر العين وتشديد الدال من: أعَدَّ يُعِدُّ إعداداً إذ هَيَّأ آلاته، لما ورد أنهم كانوا مأمورين في السبت بالعبادةِ، فيتركونها ويُهَيِّئُونَ آلاتِ الصَّيد.
فصل
معنى الآية: واسْأل مُحَمَّد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي: بقرية، والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: ﴿ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام﴾ [البقرة: 196] .
قال ابنُ عباس، وأكثر المفسرين: هي قرية يقال لها: أيْلَة بين مَدْيَن والطُّورِ على شاطىء البحر.
وقيل: مدين.
وقال الزُّهري: هي طبرية الشَّامِ، والعرب تسمِّ] المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء مَا رَأيْتُ قرويين أفصَحَ من الحسين والحجَّاج يعني رجلين من أهل المدنِ، و «يَعْدُون في السَّبتِ» يتجاوزون حد اللَّه فيه، وهو اصطيادهم في يوم السَّبت وقد نُهُوا عنه، والسَّبْتُ: مصدر سَبَتَ اليهود إذَا عظَّمت سُنَّتَهَا، إذا تركوا العمل في سبتهم، وسُبِتَ الرجل سُباتاً إذا أخذه ذلك، وهو مثل الخرس، وأسبت سكن فلم يتحرك والقوم صاروا في السَّبت، واليهود دخلوا في السبت، وهو اليوم المعروفُ، وهو من الرَّاحةِ والقطع، ويجمع على أسْبُت وسُبُوت وأسبات، وفي الخبر عن رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من احْتَجَمَ يوْمَ السَّبْتِ فأصَابَهُ مرضٌ لا يلُومنَّ إلاَّ نَفْسَهُ»
قال القرطبي: قال علماؤنا: لأنَّ الدَّمَ يجمد يوم السبت، فإذا مددته لتستخرجه لم يَجْرِ وعَادَ بَرَصاً.
قوله: «إذْ تَأتيهم» العامل فيه «تَعْجون» أي: إذَا عَدَوا إذ أتَتْهُمْ؛ لأنَّ الظَّرْفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيِّ.
وقال الزمخشريُّ: و «إذ تأتيهم» بدلٌ من «إذ يَعْدُونَ» بدل بعد بدل، يعني: أنه بدلٌ ثانٍ من القريةِ على ما تقدَّم عنه، وقد تقدَّم ردُّ أبي حيان عليه فيعود هنا.
و «حِيتَان» جمع «حُوت» ، وإنَّما أبدلَت الواوُ يَاءً، لسكونها وانكِسَارِ ما قبلها، ومثلُهُ نُون ونِينَان والنُّونُ: الحُوتُ.
قوله «شُرَّعاً» حالٌ من «حِيتَانُهُمْ» وشُرَّعٌ: جمعُ شارع.
وقرأ عمر بن عبد العزيز: «يَوْمَ إسباتهم» وهو مصدر «أسبت» إذا دخل في السَّبْت.
وقرأ عاصم بخلاف عنه وعيسى بن عمر «لا يَسْبُتُونَ» .
وقرأ عليٌّ والحسنُ وعاصمٌ بخلاف عنه «لا يُسْبِتُونَ» بضم الياء وكسر الباء، من أسْبَت، أي: دخل في السبت.
وقُرىء: «يُسْبَتُونَ» بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول، نقلها الزمخشريُّ عن الحسن.
قال: أي لا يُدَار عليهم السبت ولا يؤمَرُونَ بن يَسْبِتُوا، والعاملُ في:» ﴿وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ﴾ قوله: «لا تَأتيهمْ» أي: لا تأتيهم يوم لا يَسْبِتُونَ، وهذا يَدُلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب» لا «عليها وقد تقدم فيه ثلاث مذاهب: الجواز مطلقاً كهذه الآية، والمنع مطلقاً، والتفصيل بين أن يكون جواب قسم فيمتنع أوْ لا فيجوز.
ومعنى شُرَّعاً أي ظاهرة على الماء كثيرة. من شرع فهو شارع، ودار شارعة أي: قريبة من الطريق، ونجوم شارعة أي: دنت من المغيب، وعلى هذا فالحيتان كانت تَدْنُوا من القرية بحيث يمكنهم صيدها.
وقال الضَّحَّاكُ: متتابعة.
فصل
قال ابنُ عباس ومجاهد: إنَّ اليهود أمرةوا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه، واختاروا السبت، فابتلاهم الله به، وحرم عليهم الصَّيْدَ، وأمروا بتعظيمه، فإذا كان يوم السَّبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها، فإذا انقضى السَّبت ذهبت عنهم، ولم تعد إلاَّ في السبت المقبل، وذلك بلاء ابتلاهم اللَّه به.
فقوله ﴿وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ﴾ أي لا يَفْعَلُونَ السبت، يقال: سَبَتَ يَسْبِتُ إذا عظم السبت. والمعنى: يَدْخُلُونَ في السَّبْتِ، كما يقالك أجْمَعْنَا وأظهرنَا وأشْهَرْنَا، أي: دخلنا في الجمعة، والظهر، والشهر.
كما يقال: أصبحنا أي: دخلنا في الصباح.
قوله: «كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ» . ذكر الزجاجُ، وابن الأنباريِّ في هذه الكافر ومجرورها وجهين:
أحدهما: قال الزَّجَّاج: أي: مثل هذا الاختبار الشَّديد نختبرهم، فموضع الكاف نصبٌ ب «نَبْلُوهُم» .
قال ابن الأنباري: ذلك إشارةٌ إلى ما بعده، يريد: نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان، وينقطع الكلام عند قوله «لا تَأتيهمْ» .
الوجه الثاني: قال الزجاج ويحتمل أن يكون - على بُعْدٍ - أن يكون: ويَوْمَ لا يَسبتُون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم شُرَّاعاً، ويكون «نَبْلُوهُم» مستأنفاً.
قال أبو بكر: وعلى هذا الوجه كذلك راجعةٌُ إلى الشُّرُوع في قوله تعالى: ﴿يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً﴾ والتقدير: ويَوْمَ لا يسبتُونَ لا تأتيهم كذلك الإتيانِ بالشّروع، وموضعُ الكاف على هذا نَصْبٌ بالإتيان على الحالِ، أي: لا تأتي مثل ذلك الإتيان.
قوله: «بِمَا كَانُوا» الباءُ سببيةٌ و «ما» مصدريةٌ، أي: نَبْلُوهم بسبب فسقهم، ويضعُفُ أن تكون بمعنى «الذي» لتكَلُّفِ حذفِ العائد على التدريج.
فقالك وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول: اليوم السَّبْتُ، واليوم الجُمعَةُ فتنصب اليوم على الظَّرْلإِ، وترفع مع سائر الأيام فتقول: اليومُ الأحدُ واليومُ الأربعاءُ لأنَّهُ لا معنى للفعل فيهما فالمبتدأ هو الخبر فترفع.
قال شهابُ الدِّين: هذه المسألة فيها خلافٌ بين النَّحويين، فالجمهورُ كما ذكر يوجبون الرفع؛ لأنَّه بمنزلة قولك: اليومُ الأولُ، اليومُ الثاني. وأجاز الفراء وهشام النَّصبَ، قالا: لأنَّ اليوم بمنزلة: الآن وليست هذه المسألةُ مختصَّةً بالجمعة والسبت بل الضابطُ فيها: أنه إذا ذُكر «اليوم» مع ما يتضمن عملاً أو حدثاً جاز الرفع والنصب نحو قولك: اليوم العيد، اليوم الفطر، اليوم الأضحى.
كأنك قلت: اليوم يحدث اجتماع وفطر وأضحية.
فصل
قال المفسِّرُون: وسْوَسَ لهم الشَّيطان وقال: إنَّ الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنَّما نهاكم عن الأكْلِ فاصطَادُوا.
وقيل: وسوس إليهم أنَّكُمْ إنَّمَا نُهِيتُم عن الأخذ فاتَّخِذُوا حِيَاضاً على شاطىء البَحْرِ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، ثم تأخذونها يوم الأحدش، ففعلوا ذلك زماناً، ثمَّ تَجَرَّءُوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلاَّ قد أحِلَّ لنا، فأحذوا، وأكلوا وباعوا فنهاهم بعضهم، وبعضهم فعل، ولم ينته، وبعضهم سكت وقالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ﴾ [الأعراف: 164] فلمَّا لم يَنْتَهُوا قال النَّأهُونَ لا نُسَاكِنُكُمْ، فقسموا القرية بجدارٍ، للمسلمين باب، وللمعتدين بابٌ، ولعنهم داودُ، فأصبح النَّاهُونَ ذات يوم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن لهم شأناً، لعلّ الخمر غلبتهمن فعلوا الجدار، فإذا هم قِرَدَةٌ.
فصل
دلَّت هذه الآية على أنَّ الحيل في تحليل الأمور الَّتي حرمها الشارع محرمةٌ؛ كالغيبة، ونكاح المحلِّل، وما أشبههما من الحيلِ، ودلَّت على أنَّه تعالى لا يجب عليه رعايةُ الصَّلاح والإصلاح لا في الدِّين ولا في الدنيا؛ لأنَّهُ تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السَّبْتِ مما يحملهم على المعصية والكفر، فلو وجب عليه رعاية الصَّلاح لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذكل اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية، فلمَّا فعل علمنا أن رعاية الصَّلاح لا تجب على الله تعالى.
قوله: ﴿وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً﴾ .
اختلفوا في الذين قالوا هذا القول.
فقيل: كانوا من الفرقة الهالكة؛ لأنَّهُم لمَّا قيل لهم: انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب؛ فإنكم إن لم تنتهوا فإنَّ اللَّهَ ينزل بكم بأسه فأجابوا بقولهم: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ﴾ .
فقال النَّاهُونَ ﴿مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ﴾ أي موعظتنا ﴿مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ﴾ ، والأصحُّ أنها من قول الفرقة السَّاكتة جواباً للنَّاهية، قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ ... مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ﴾ .
ومعناه: أنَّ الأمر بالمعروف واجبٌ علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عُذراً إلى اللَّهِ. «ولَعلَّهُم يتَّقُون» أي: يتَّقُوا اللَّهَ ويتركوا المعصية، ولو كان الخطاب مع المعتدين لقال: «ولعلَّكُم تتَّقُونَ» .
«مَعْذِرَةً» قرأ العامَّةُ: «مَعْذِرَةٌ» رفعاً على أنه خبر ابتداء مضمر، أي: موعظتنا معذرة.
وقرأ حفصٌ عن عاصم، وزيد بن علي، وعيسى بنُ عمر، وطلحةُ بنُ مصرف: «مَعْذِرَةٌ» نصباً وفيها ثلاثةُ أوجه: أظهرها: أنَّهَا منصوبةٌ على المفعول من أجله، أي: «وعَظْنَاهُم لأجل المعذرة» .
وقال سيبويه: ولو قال رجلٌ لرجلٍ: معذرةً إلى الله وإليك من كذا، لنصب.
الثَّاني: أنَّها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها، تقديره: نَعْتَذِرُ مَعْذرةً.
الثالث: ان ينصب انتصابَ المفعول به؛ لأن المعذرةَ تتضمَّنُ كلاماً، والمفردُ الثالث: والمفردُ المتضمِّنُ لكلام إذا وقع بعد القولِ نُصِبَ نصب المفعول به، ك «قلت خطبة» .
وسيبويه يختارُ الرَّفْعَ.
قال: لأنَّهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً.
ولكنهم قيل لهم: لِمَ تَعِظُونَ؟
«فَقَالُوا» موعظتنا معذرةً.
والمَعْذِرَةُ: اسمُ مصدر وهو العذر.
وقال الأزهري: إنَّها بمعنى الاعتذارِ، والعذرُ: التَّنصلُ من الذَّنبِ.
قوله: ﴿فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ الضَّميرُ في نَسُوا للْمنهيِّينَ و «ما» موصولةٌ بمعنى «الذي» أي: فلمَّا نسُوا الوعظ الذي ذكَّرَهُم به الصَّالحون.
قال ابنُ عطيَّة: ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكرُ نفسه، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر.
قال أبُو حيان: ولا يظهرُ لي هذان الاحتمالان.
قال شهابُ الدِّين: يعني ابنُ عطية بقوله: «الذِّكرُ نفسُهُ» أي: نفسُ الموصول مُرادٌ به المصدر كأنه قال: فلمَّا نسُوا الذِّكْرَ الذي ذُكِّروا به، وبقوله: «مَا كان فيه الذِّكر» نَفَسُ الشيء المذكَّر به الذي هو متعلِّق الذكر؛ لأن ابن عطيَّة لمَّا جعل «ما» بمعنى «الذي» قال: إنَّها تحتملُ الوقوع على هذين الشيئن المتغايرين.
فصل
النِّسيان يطلق على السَّاهي، والعامد التَّارك لقوله: ﴿فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ﴾ أي: تركوه عن قصد، ومنه قوله تعالى: ﴿نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ﴾ [التوبة: 67] .
فصل
المعنى: فلمَّا تركوا ما وعظوا به، ﴿أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ﴾ أي الذين أقدموا على المعصية.
واختلف المفسِّرون في الفرقة السَّاكتة. فقنل عن ابن عبَّاسٍ: أنَّهُ توقَّف فيهم، ونقل عنه: هلكت الفرقتان ونجت النَّاهية، وكان ابنُ عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: إنَّ هؤلاء الذين سكتوا عن النَّهي عن المنكر هلكوا، ونحن نرى أشياء ننكرها، ثم نسكت، ولا نقول شيئاً.
وقال الحسنُ: نجت الفرقتانِ، وهلكت العاصية، لأنهم لما قالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ﴾ دلَّ على أنَّهُمْ أنكروا أشد الإنكار، وأنَّهُمْ إنَّما تركوا وعظهم؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلفتون إلى ذلك الوعظِ.
فإن قيل: إن ترك الوعظِ معصية، والنَّهي عنه أيضاً معصية؛ فوجب دخول هؤلاء التَّاركين للوعظ النَّاهين عنه تحت قوله: ﴿وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ .
فالجوابُ: هذا غير لازمٍ؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر إنَّمَا يجب على الكفاية، ولو قام به البعضص سقط عن الباقين.
وروي عن ابن عبَّاس أنه قال: أسمعُ الله يقول: ﴿أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ ، فلا أدري ما فعلت الفرقة السَّاكتة؟
قال عكرمةُ: قلت له: جعلني اللَّهُ فداك، ألا تراهم قد أنكروا، وكرهوا ما هم عليه وقالوا: ﴿لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ﴾ ، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل: أهلكتهم، فأعجبه قولي ورضي به، وأمر لي ببردين فكسانيهما؛ وقال: نَجتِ السَّاكتةُ، وهذا قول يمان بن رباب، والحسن، وابن زيد.
قوله: «بعذابٍ بئيسٍ» . أي: شديد.
قرا نافعٌ، وأبو جعفر، وشيبةٌ بيْسٍ بياء ساكنة، وابن عامر بهمزة ساكنة.
وفيهما أربعة أوجه:
أحدها: أنَّ هذا في الأصْلِ فعلٌ ماضٍ سُمِّيَ به فأعربَ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «أنهاكم عن قيل وقال» بالإعراب والحكاية، وكذا قولهم: «مُذ شبَّ إلى دبَّ ومُذ شبٍّ إلى دَبٍّ» ، فلما نُقل إلى الاسميَّة صار وصفاً ك: نِضْوا ونِقْض.
والثاني: أنَّهُ وصف وضع على فعل ك: حِلْف.
الثالث: أن أصله بَئيس كالقراءةِ المشهورة، فخفَّفَ الهمزة؛ فالتقت ياءان، ثم كسر الياء إتباعاً، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرةٍ، فحذفت الياء المكسورة؛ فصار اللَّفظُ «بِيْسٍ» وهو تخريج الكسائيِّ.
الرابع: أن أصله بَئِس بوزن «كَتِف» ثم أتبعت الياءُ للهمزة في الكسر ثم سُكِّنت الهمزة، ثمَّ أبدلت يا ك: بِيرٍ وذِيبٍ.
وأمَّا قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً، وأن تكون وصفاً ك: حِلْف.
وقرأ أبو بكر عن عاصم بَيْئَسٍ بياء ساكنة بين باء، وهمزة مفتوحتين، وهو صفةٌ على فَيْعَل ك: ضَيْغَم، وصَيْرَف، وصَيْقَل، وهي كثيرةٌ في الأوصافِ.
وقرأ امرؤُ القيسِ: [الرجز]
2602 - كِلاهُمَا كَأنَ رَئِيساً بَيْئَسا ... يَضْرِبُ في يومِ الهِيَاجِ القَوْنَسَا
وقرأ باقي السبعة «بَئِيسٍ» بزنه «رَئِيسٍ» وفيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ وصفٌ على «فَعِيلٍ» ك: شَدِيدٍ، وهو للمبالغة وأصله فاعل.
والثاني: أنه مصدرٌ وصف به أي: بعذابٍ ذي بأس بَئِيس، ف «بَئِيسٍ» مصدر مثل: النكثير والقدير، ومثر ذلك في احتمالِ الوجهين قول أبي الأصبع العدواني: [مجزوء الكامل]
2603 - حَنَقاً عليَّ ولا أرَى ... لِيَ مِنْهُمَا شَرّاً بَئِيساً
وهي أيضاً قراءةُ عليٍّ وأبي رجاء.
وقرأ يعقوبُ القارئ «بَئِسَ» بوزن «شَهِدَ» ، وقرأها أيضاً عيسى بنُ عُمَرَ، وزيد بن علي.
وقرأ نصرُ بنُ عاصم «بَأسَ» بوزن «ضَرَبَ» فعلاً ماضياً.
وقرأ الأعمش ومالك بنُ دينار «بَأس» فعلاً ماضياً، وأصله «بَئِس» بكسر الهمزة، فسكَّنَهَا تخفيفاً ك: شَهْدَ في قوله: [الرجز]
2604 - لَوْ شَهْدَ عَاد فِيَ زَمَانِ تُبَّعِ ... وقرأ ابنُ كثير وأهل مكة بِئِسٍ بكسر البَاءِ، والهمز همزاً خفيفاً، ولم يُبَيِّن هل الهمزة مكسورةٌ أو ساكنةٌ؟
وقرأ طلحة وخارجة عن نافع «بَيْسٍ» بفتح الباء، وسكون الياء مثل: كَيْلٍ، وأصله «بَيْئَس» مثل: ضَيْغَم فخفَّف الهمزة بقلبها ياءً، وإدغام الياء فيها ثم خفَّفهُ بالحذف ك: مَيْت في: مَيِّت.
وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية «بَيْئٍسٍ» كقراءة أبي بكر عنه، إلاَّ أنَّهُ كسر الهمزة، وهذه قد ردَّها النَّاسُ؛ لأن «فَيْعِلاً» بكسر العين في المعتلِّ، كما أن «فَيْعَلاً» بفتحها في الصحيح ك: سَيِّد وضَيْغَم، على أنه قد شذّ «صَيْقِل» بالكسر، و «عَيَّل» بالفتح.
وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عن «بَأسٍ» بفتح الباء والهمزة وجر السِّين، بزنة «جَبَلٍ» .
وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف «بَئِسٍ» مثل كبد وحذر.
قال عبيد الله بن قيس: [المديد]
2605 - لَيْتَنِي ألْقَى رُقَيَّةَ فِي ... خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئِسِ
وقرأ نصر بنُ عاصم في رواية بَيِّسٍ بهمزةٍ مشددة.
قالوا: قلب الياء همةً وأدغمها في مثلها. ورويت هذه عن الأعمش أيضاً.
وقرأت طائفة بَأسَ بفتح الثلاثة، والهمزة مشددة، فعلاً ماضياً، ك «شَمَّرَ» ، وطائفة أخرى بَأسَ كالتي قبلها إلاَّ أنَّ الهمزة خفيفةٌ، وطائفة بَائسٍ بألف صريحة بين الباءِ والسِّينِ المجرورة، وقرأ أهل المدينة بِئيسٍ ك: «رَئِيسٍ» ، غلاَّ أنهم كسروا الباء، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو: بِعِير، وشِعِير، وشِهيد، سواء أكان اسماً أم صفة.
وقرأ الحسن والأعمس «بِئْيَسٍ» بياء مكسورة، ثم همزة ساكنة، ثم يا مفتوحة، بزنة «حِذْيَم» ، و «عِثْيَر» .
وقرأ الحسنُ بِئْسَ بكسر الباءِ، وسكون الهمزة وفتح السِّينِ، جعلها التي للذَّمِّ في نحو: بِئْسَ الرجل زيدٌ.
ورُويت عن أبي بكر.
وقرأ الحسن أيضاً كذلك، إلاَّ أنه بياءٍ صريحة، وتخريجها كالتي قبلها، وهي مرويةً عن نافع وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنَّهُ لا يقالُ: مررت برجلٍ بِئْسَ، حتَّى يقال بِئْسَ الرجل، أو بئس رجلاً.
قال النَّحَّاس: وهذا مردودٌ - يعني قول أبي حاتم - حكى النحويون: إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت، أي: ونعمت الخصلة، والتقدير: بِئْسَ العذابُ.
قال شهابُ الدِّينِ: أبو حاتم معذورٌ في القراءة، فإنَّ الفاعل ظاهراً غير مذكور، والفاعل عمدةٌ لا يجوز حذفه، ولكنه قد ورد في الحديث مَنْ تَوضَّأ فبها ونعْمتُ، ومن اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ ففاعل «نِعْمَتْ» هنا مضمرٌ يفسِّرُهُ سياقُ الكلام.
قال أبُو حيَّان: فهذه اثنتان وعشرون قراءةً، وضبطُها بالتَّلخيص: أنَّها قُرِئتْ ثلاثية اللَّفْظِ، ورباعَّيتَهُ، فالثُّلاثي اسماً: بِئْسٍ، وَبِيْسٍ، وبَيْسٍ، وبَأْسٍ، وبَأَسٍ، وبَئِسٍ، وفعلاً بِيْسَ وبِئْسَ، وبَئِسَ، وبَأَسَ، وبَأْسَ، وبَيِسَ.
والرباعية اسماً: بَيْئَسٍ، وبِيْئِسٍ، وبَيْئِسٍ، وبَيِّسٍ، وبَئِيْسٍ، وبِئَيْسٍ، وبِئْيِسٍ، وبِئْيَسٍ، وفعلاً: بَأَّسَ «.
وقد زا أبو البقاء أربع قراءات أخر: بَيِس بباء مفتوحة وياء مكسورة.
قال: وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء، وبَيَس بفتحهما.
قال: وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة إلاَّ أنَّ حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت، ولم تقلب الياء ألفاً، لأنَّ حركتها عارضةٌ. وبَأْيَسٍ بفتح الباء، وسكون الهمزة وفتح الياء.
قال: وهو بعيد إذ ليس في الكلام» فَعْيَل «وبَيْآس على فَيْعَال. وهو غريب.
قوله تعالى: ﴿فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ﴾ الآية.
قال ابنُ عباسٍ» أبَوْا أن يرجعوا عن المعصية» والعُتو: هو الإباء والعصيان.
فإن قيل: إذا عتوا عمَّا نُهُوا عنه فقد أطاعوا؛ لأنَّهُم أبوا عمَّا نُهُوا عنه، وليس المراد ذلك.
فالجواب: ليس المراد أنهم أبوا عن النهي، بل أبوا عن امثتال ما أمروا به.
وقوله: ﴿قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ .
قال بعضهم ليس المراد منه القول؛ بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك.
قال: وفيه دلالة على أن قوله: ﴿إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [النحل: 40] هو بمعنى الفعل لا الكلام.
وقال الزجاج أمِرُوا بأن يكُونُوا كذلك بقول سمع، فيكون أبلغ.
قال ابنُ الخطيب: وحمل هذا الكلام على الأمر بعيد؛ لأنَّ المأمور بالفعل يجبُ أن يكون قادراً عليه، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة.
فصل
قال ابنُ عبَّاسٍ: أصبح القوم قردةً خاسئين؛ فمكثوا كذلك ثلاثة أيَّام تراهم النَّاس ثمَّ هلكوا، ونقل عن ابن عبَّاسٍ: أن شباب القوم صاروا قردة، والشُّيُوخ خنازير، وهذا خلاف الظَّاهر.
{"ayahs_start":163,"ayahs":["وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلَّتِی كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ یَعۡدُونَ فِی ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِیهِمۡ حِیتَانُهُمۡ یَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعࣰا وَیَوۡمَ لَا یَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِیهِمۡۚ كَذَ ٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُوا۟ یَفۡسُقُونَ","وَإِذۡ قَالَتۡ أُمَّةࣱ مِّنۡهُمۡ لِمَ تَعِظُونَ قَوۡمًا ٱللَّهُ مُهۡلِكُهُمۡ أَوۡ مُعَذِّبُهُمۡ عَذَابࣰا شَدِیدࣰاۖ قَالُوا۟ مَعۡذِرَةً إِلَىٰ رَبِّكُمۡ وَلَعَلَّهُمۡ یَتَّقُونَ","فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦۤ أَنجَیۡنَا ٱلَّذِینَ یَنۡهَوۡنَ عَنِ ٱلسُّوۤءِ وَأَخَذۡنَا ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ بِعَذَابِۭ بَـِٔیسِۭ بِمَا كَانُوا۟ یَفۡسُقُونَ","فَلَمَّا عَتَوۡا۟ عَن مَّا نُهُوا۟ عَنۡهُ قُلۡنَا لَهُمۡ كُونُوا۟ قِرَدَةً خَـٰسِـِٔینَ"],"ayah":"وَسۡـَٔلۡهُمۡ عَنِ ٱلۡقَرۡیَةِ ٱلَّتِی كَانَتۡ حَاضِرَةَ ٱلۡبَحۡرِ إِذۡ یَعۡدُونَ فِی ٱلسَّبۡتِ إِذۡ تَأۡتِیهِمۡ حِیتَانُهُمۡ یَوۡمَ سَبۡتِهِمۡ شُرَّعࣰا وَیَوۡمَ لَا یَسۡبِتُونَ لَا تَأۡتِیهِمۡۚ كَذَ ٰلِكَ نَبۡلُوهُم بِمَا كَانُوا۟ یَفۡسُقُونَ"}