قوله: ﴿وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ﴾ كقوله: ﴿فَرَقْنَا بِكُمُ البحر﴾ [البقرة: 50] من كونِ الباء يجوز أنْ تكون للتَّعدية، وأن تكون للحاليَّة، كقوله: [الوافر]
2565 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبَا
وقد تقدَّم. و «جاوز» بمعنى: جاز، ف «فاعل» بمعنى «فَعَل» .
وقرأ الحسنُ، وإبراهيم، وأبو رجاء ويعقوب جَوَّزْنَا بالتِّشْديدِ وهو أيضاً بمعنى «فَعَلَ» المجردِ ك قَدَرَ وقَدَّر.
قوله: يَعْكُفُونَ صفة ل «قَوْم» . وقرأ الأخوان «يَعْكِفُونَ» بكسر الكاف، وتروى عن ابي عمرو أيضاً، والباقون بالضمِّ، وهما لغتان في المضارع ك «يَعْرشُون» . وقد تقدَّم معنى «العكوف» واشتقاقه في البقرة.
قال قتادة: كان أولئك القومُ من لَخْم، وكانُوا نُزولاً بالرِّقَّةِ.
وقال ابنُ جريج: كانت تلك الأصْنَام تماثيل بقر، وذلك أول شأن قصة العِجْلِ.
قال الكلبيُّ: عبر بهم موسى البَحْرَ يومَ عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه، فصاموه شكراً للَّه عزَّ وجلَّ.
قوله: ﴿قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها﴾ أي: مثالاُ نعبده. ولم يكن ذلك شكّاً من بني إسرائيل في وحدانية اللَّهِ، وإنَّمَا معناه: أجعل لنا شيئاً نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى اللَّهِ، وظَنُّوا أنَّ ذلك لا يضر الدِّيانة، وكان ذلك لشدَّة جهلهم، لأنَّ العبادة غاية التَّعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وهو خالقُ الجسمِ، والحياةِ والقدرةِ، والعقلِ، والأشياءِ المنتفع بها. وليس ذلك إلاَّ الله تعالى.
فصل
واعْلَمْ أنَّ هذا القولَ لم يصدر عن كلّهم، وإنَّما صدرَ من بعضهم؛ لأنَّه كان مع موسى السبعون المُختارون، وفيهم من يرتفعُ عن مثل هذا السُّؤالِ.
قوله كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ الكافُ في محلِّ نصب صفة ب «إلهاً» ، أي: إلهاً مماثلاُ لإلههم.
وفي «ما» ثلاثةُ أوجه: أحدها: موصولةٌ حرفية، أي: تتأوَّلُ بمصدرِ، وعلى هذا فصلتُهَا محذوفة، وإذا حُذِفَتْ صلة «ما» المصدريَّة، فلا بدَّ من إبقاء معمولِ صلتها، كقولهم: لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِرَاءَ مَكَانَهُ، أي: ما ثَبَتَ أنَّ حِرَاءَ مكانه، وكذا هنا تقديره: كما ثبت لهم آلهة، ف «آلهة» فاعل «ثبت» المقدر، أي: كما أنَّ «أنَّ» المفتوحةَ في المثالِ المتقدم فاعل «ثبت» المقدر.
وقال أبُو البقاءِ - هذا الوجه - ليس بجيد «والجملة بعدها صلةٌ لها، وحسَّن لك أنَّ الظرف مقدَّرٌ بالفعل» .
فصل
قال شهابُ الدِّينِ: كلامُهُ على ظاهِره ليس بجيِّد؛ لأنَّ «ما» المصدريةَ لا تُوصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك، فيشترط فيها غَالِباً أن تُفْهِم الوقت كقوله: [الكامل] 2566 - وَاصِلْ خِلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ ... فلأنْتَ أوْ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ ذَاهِبُ
ولكنَّ المراد أنَّ الجارَّ مقدَّرُ بالفعل، وحينئذٍ تؤولُ إلى جملةٍ فعليّة، أي: كما استقرَّ لهم آلهةٌ.
الثاني: أن تكون «ما» كافَّةً لكاف التَّشبيه عن العمل، فإنَّهَا حرفُ جر، وهذا كما تُكَفُّ رُبَّ فيليها الجملُ الاسميَّة، والفعليَّة، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب، بل يجوزُ في الكافِ وفي «رُبَّ» مع «ما» الزَّائدة بعدهما وجهان: العَمَلُ والإهمالُ، وعلى ذلك قول الشَّاعر: [الطويل]
2567 - وَنَنْصُرُ مَوْلانَا ونَعْلَمُ أنَّهُ ... كَمَا النَّاس مَجْرُومٌ عَليْهِ وجَارِمُ
وقول الآخر: [الخفيف]
2568 - رُبَّمَا الجَامِلُ المؤبِّلُ فِيهِمْ ... وعَنَاجِيحُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ
وروي برفع «النَّاس، والجامل» وجرِّهما، هذا إذا أمكن الإعمالُ، إمَّا إذَا لم يمكن تَعَيَّنَ أن تكونَ كافَّةً كهذه الآية، إذا قيل: بأن «ما» زائدة.
الثالثُ: أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، و «لَهُمْ» صلتها، وفيه حينئذٍ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر، و «آلهة» بدلٌ من ذلك الضَّمير، والتَّقديرُ: كالذي استقَرَّ هو لهم آلهة.
وقال أبُو البقاءِ - في هذا الوجه -: والعَائِدُ محذوفٌ، و «آلهة» بدلٌ منه، تقديره: كالَّذِي هُوَ لهُم وتَسْميتُهُ هذا حَذْفاً تَسَامحٌ، لأنَّ ضمائرَ الرفع إذا كانت فاعلةٌ لا تُوسف بالحذف، بل بالاستتار.
قوله إنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ. هؤلاءِ إشارة لِمَنْ عَكَفُوا على الأصنام، ومُتَبَّرٌ فيه وجهان: أحدهما: أن يكون خبراً ل «إنَّ» و «مَا» موصولةٌ بمعنى «الَّذي» وهُمْ فِيهِ جملةٌ اسميةٌ صلةٌ وعائده، وهذا الموصولُ مرفوعٌ باسم المفعول فتكون قد أخْبَرْتَ بمفرد رفعت به سَبَبّاً.
والثاني: أن يكون الموصولُ مبتدأ، ومُتَبَّرٌ خبره قُدِّم عليه، والجملةُ خبرٌ ل «إنَّ» .
قال الزخشريُّ: وفي إيقاع «هؤلاء» اسماً ل «إنَّ» ، وتقديمُ خبر المبتدأ من الجملة الواقعةِ خبراً لها وسمٌ لعبدة الأصنام بأنَّهم هم المُعَرَّضُونَ للتَّبَار، وأنَّهُ لا يَعْدُوهُم ألْبتَّة، وأنَّهُ لهم ضربةُ لازم، ليحذِّرهم عاقبة ما طلبوا، ويبغض إليهم ما أحَبُّوا.
قال أبُو حيَّان: «ولا يتعيَّنُ ما قاله من تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً ل» إنَّ «، لأنَّ الأحْسَنَ في إعراب مثل هذا أن يكونُ مُتَبَّرٌ خبراً» إنَّ «وما بعده مرفوعٌ» فذكر ما قرَّرْتُهُ، ونظَّره بقولك: «إنَّ زَيْداً مضروبٌ غلامُهُ» .
قال: فالأحْسَنُ أن يكون «غلامه» مرفوعاً ب «مضروب» ، ثم ذكر الوجه [الثاني] وهو أن يكون «مُتَبَّرٌ» خبراً مقدماً من الجملة، وجعله مرجوحاً.
وهو كما قال، لأنَّ الأصلَ في الأخبارِ أن تكون مفردةً، فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه، إلا أنَّ الزمخشريَّ لم يذكر ذلك على سبيل التَّعيين، بل على أحد الوجهين وقد يكونُ هذا عنده أرجحَ من جهة ما ذكر من المعنى، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظيّ، ومُرَجِّح معنويٍّ فاعتبارُ المعنويِّ أولى، ولا أظُنُّ حَمَلَ الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت.
وقوله ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ كقوله ﴿مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما.
والتَتْبيرُ: التَّكسير، والتَّحطيم. والبطلان قيل: عدم الشَّيءِ إمَّا بعد ذاته، وإما بعدم فائدته ومقصوده.
قوله: «أغَيْرَ اللَّهِ» الهمزةُ للإنكار، والتَّوبيخِ، وفي نَصْبِ غير وجهان: أحدهما: أنَّه مفعولٌ به ل «أبْغِيكُمْ» على حذفِ اللاَّمِ، تقديره: أبغي لكم غير اللَّهِ، أي: أطلُبُ لكم فَلَمَّا حذف الحرف، وصل الفعل بنفسه، وهو غيرُ منقاص، وفي إلهاً على هذا وجهان: أظهرهما: أنَّهُ تمييز ل «غير» ، والثاني: أنَّهُ حالٌ، ذكره أبو حيان وفيه نظر.
والثاني: من وجهي «غير» : أنَّهُ منصوب على الحال من إلهاً وإلهاً هو المفعول به ل «أببْغِيكُمْ» على ما تقرَّرَ صفةُ النَّكرةِ عليها نُصِبتْ حالاً.
وقال ابنُ عطيَّة: و «غير» منصوبة بفعل مضمر، وهذا هو الظَّاهِرُ، ويجوزُ أن يكون حالاً. وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ إليه فإن أرَادَ أنَّهُ على الاشتغال فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ شرطهُ أن يعمل المفسِّر في ضميرِ الأوَّل، أو سببه.
قوله: «أبْغِيكُمْ» قال الواحديُّ.
يقال: بَغَيْتُ فلاناً شيئاً وبغيتُ له.
قال تعالى: ﴿يَبْغُونَكُمُ الفتنة﴾ [التوبة: 47] أي: يبغون لكم. والمعنى: أطلبُ لكم غير اللَّه معبوداً.
واعلم أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما قالوا له: ﴿اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ﴾ أجابهم بوجوهٍ كثيرة: أوَّلُهَا: حكم عليهم بالجَهْل فقال: ﴿إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ .
وثانيها: قوله: ﴿إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ﴾ أيْ: بِسَبَبِ الخسران والهلاك.
وثالثها: قوله: ﴿وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ أي هذا العَمَلُ الشَّاقُّ لا يفيدُهم نفعاً في الدُّنْيَا والدِّينِ.
ورابعها: استفهامُهُ منهم على وجه الإنكار والتَّوبيخ، فقال: ﴿أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين﴾ أي: أن الإله ليس شيئاً يطلب ويتخذ، بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة، وجميع النِّعم، وهو المُرَادُ بقوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين﴾ ، فهذا هو الذي يجبُ على الخلق عبادته، فكيفَ يجوزُ العُدُولُ عن عبادته إلى عبادة غيره.
قوله: ﴿وَهُوَ فَضَّلَكُمْ﴾ يجوز أنْ يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ، إمَّا من اللَّهِ وإمَّا من المخاطبين، لأنَّ الجملةَ مشتملةٌ على كلٍّ مِنْ ضَميرَيْهِمَا، ويجوزُ ألاّ يكونَ لها محلٌّ، لاستئنافها.
وفي هذا التَّفضيل قولان: الأول: أنَّهُ تعالى فضلكم على علامي زمانِكم، الثاني: أنَّهُ تعالى خَصَّهمْ بتلك الآياتِ القاهرةِ، ولم يحصل مِثْلُهَا لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصَال، مثل: رجل تعلم علماً واحداً، وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحدِ يفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحدِ، إلاَّ أنَّ صاحب العلوم الكثيرة يفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة.
{"ayahs_start":138,"ayahs":["وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡا۟ عَلَىٰ قَوۡمࣲ یَعۡكُفُونَ عَلَىٰۤ أَصۡنَامࣲ لَّهُمۡۚ قَالُوا۟ یَـٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمࣱ تَجۡهَلُونَ","إِنَّ هَـٰۤؤُلَاۤءِ مُتَبَّرࣱ مَّا هُمۡ فِیهِ وَبَـٰطِلࣱ مَّا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ","قَالَ أَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡغِیكُمۡ إِلَـٰهࣰا وَهُوَ فَضَّلَكُمۡ عَلَى ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"وَجَـٰوَزۡنَا بِبَنِیۤ إِسۡرَ ٰۤءِیلَ ٱلۡبَحۡرَ فَأَتَوۡا۟ عَلَىٰ قَوۡمࣲ یَعۡكُفُونَ عَلَىٰۤ أَصۡنَامࣲ لَّهُمۡۚ قَالُوا۟ یَـٰمُوسَى ٱجۡعَل لَّنَاۤ إِلَـٰهࣰا كَمَا لَهُمۡ ءَالِهَةࣱۚ قَالَ إِنَّكُمۡ قَوۡمࣱ تَجۡهَلُونَ"}