مدنية، وهي إحدى عشرة آية ومائتان وتسع وأربعون كلمة وألف وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء﴾ .
قال ابن الخطيب: وجه تعلق هذه السورة بآخر ما قبلها، هو أنه تعالى أشار في آخر التي قبلها إلى كمال علمه بقوله: ﴿عَالِمُ الغيب والشهادة﴾ [التغابن: 18] ، وفي أول هذه السورة أشار إلى كمال علمه بمصالح النِّساء، والأحكام المخصوصة بطلاقهن، فكأنه بيّن ذلك الكلي بهذه الجزئيات.
* فصل في هذا الخطاب.
وهذا الخطاب فيه أوجه:
أحدهما: أنه خطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خوطب بلفظ الجمع تعظيماً له؛ كقوله: [الطويل]
4780 - فَإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِوَاكُمُ ... وإنْ شِئْتُ لَمْ أطْعَمْ نُقَاخاً ولا بَرْداً
الثاني: أنه خطاب له ولأمته، والتقدير: يا أيها النبي وأمته إذا طلقتم فحذف المعطوف لدلالة ما بعده عليه، كقوله: [الطويل]
4781 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا ... ... ... ... ... ... .
أي: ويدها.
كقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: 81] ، أي: والبرد.
الثالث: أنه خطاب لأمته فقط بعد ندائه - عليه الصَّلاة والسلام - وهو من تلوين الخطاب، خاطب أمته بعد أن خاطبه.
الرابع: أنه على إضمار قول، أي: يا أيها النبي قل لأمتك إذا طلقتم النساء.
قال القرطبي: قيل: إنه خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد أمته، وغاير بين اللفظين من حاضر وغائب، وذلك لغة فصيحة، كقوله: ﴿إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: 22] ، والتقدير: يا أيها النبي قل لهم: إذا طلقتم النساء، فطلقوهن لعدتهن، وهذا هو قولهم: إن الخطاب له وحده، والمعنى له وللمؤمنين، وإذا أراد الله بالخطاب المؤمنين لاطفه بقوله: ﴿يا أيها النبي﴾ ، وإذا كان الخطاب باللفظ والمعنى جميعاً له قال: ﴿يا أيها الرسول﴾ .
قال القرطبي: ويدلّ على صحة هذا القول نزول العدة في أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية.
روى أبو داود: أنها طُلِّقت على عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يكن للمطلَّقة عدّة، فأنزل الله - تعالى - العِدّة للطلاق حين طُلقت أسماء، فكانت أولَّ من أُنزل فيها العدة للطلاق.
الخامس: قال الزمخشري: «خصّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنداء وعمّ بالخطاب؛ لأن النبي إمام أمته وقدوتهم كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم: يا فلان افعلوا كيت وكيت اعتباراً لتقدمه وإظهاراً لترؤسه» في كلامٍ حسنٍ.
وهذا هو معنى القول الثالث المتقدم.
قال القرطبي: وقيل: المراد به نداء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تعظيماً له، ثم ابتدأ: ﴿إذا طلّقتم النساء﴾ ، كقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام﴾ [المائدة: 90] الآية فذكر المؤمنين تكريماً لهم، ثم افتتح فقال: ﴿إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام﴾ [المائدة: 90] الآية.
وقوله: ﴿إِذَا طَلَّقْتُمُ﴾ أي: إذا أردتم، كقوله: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة﴾ [المائدة: 6] ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن﴾ [النحل: 98] . وتقدم تحقيقه.
* فصل في طلاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
روى ابن ماجة عن ابن عباس عن عمر بن الخطاب: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلّق حفصة ثم راجعها.
وعن أنس قال: طلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حفصة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - فأتَتْ أهلها، فأنزل الله تعالى عليه: ﴿يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ ، وقيل له: راجعها فإنها صوَّامة قوَّامة، وهي من أزواجك في الجنة. ذكره القشيري والماوردي والثعلبي.
زاد القُشيريّ: ونزل في خروجها إلى أهلها قوله تعالى: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ .
وقال الكلبي: سبب نزول هذه الآية غضبُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على حفصة لما أسر إليها حديثاً فأظهرته لعائشة، فطلقها تطليقة، فنزلت الآية.
وقال السُّديُّ: نزلت في عبد الله بن عمر، طلق امرأته حائضاً تطليقة واحدة، فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن أراد أن يطلقها فليطلِّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدَّة التي أمر اللَّه أن تطلق لها النساء.
وقد قيل: إن رجالاً فعلوا مثل ما فعل عبد الله بن عمر، منهم عبد الله بن عمرو بن العاص، وعمرو بن سعيد بن العاص، وعتبة بن غزوان، فنزلت الآية فيهم.
قال ابن العربي: وهذا كله وإن لم يكن صحيحاً فالقول الأول أمثل وأصح، والأصح فيه أنه بيان لشرع مبتدأ.
* فصل في الطلاق
روى الثعلبي من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ مِنْ أبْغَضِ الحَلالِ إلى اللَّهِ الطَّلاقُ» .
وعن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «تَزَوَّجُوا ولا تُطَلِّقُوا، فإنَّ الطَّلاقَ يَهْتَزُّ مِنْه العَرْشُ» .
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تُطلِّقُوا النِّساءَ إلاَّ من ريبَةٍ فإنَّ اللَّه - عزَّ وجلَّ - لا يُحِبُّ الذَّوَّاقِينَ ولا الذواقات» .
وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا حَلَفَ بالطَّلاقِ ولا اسْتَحْلَفَ بِهِ إلاَّ مُنَافِقٌ» أسنده الثعلبي.
وروى الدارقطني عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَا مُعَاذُ مَا يَخْلُقُ اللَّهُ تَعالَى شَيْئاً عَلَى وَجْهِ الأرْضِ أحَبُّ إليْهِ مِنَ العِتَاقِ، ولا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى شَيْئاً أبْغَضَ إِليْهِ من الطَّلاقِ، فإذَا قَالَ الرَّجُلُ لمَمْلُوكَهِ: أنتَ حُرٌّ - إن شَاءَ اللَّهُ - فَهُو حُرٌّ ولا اسْتِثْنَاءَ لَهُ، وإذَا قَالَ الرَّجلُ لامْرأتِهِ: أنت طَالِقٌ إن شَاءَ الله فَلهُ اسْتِثْنَاؤهُ، ولا طَلاقَ عَلَيْهِ» .
وعن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أحَلَّ اللَّهُ شَيْئاً أبْغَضَ إلَيْهِ مِنَ الطَّلاقِ، فَمَن طلَّقَ واسْتَثْنَى فَله ثنياه» .
قال ابن المنذر: واختلفوا في الاستثناء في الطلاق والعتق: فقالت طائفة بجوازه، وهو مروي عن طاووس.
قال حماد الكوفي: والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي.
وقال مالك والأوزاعي: لا يجوز الاستثناء في الطلاق خاصة.
قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول.
* فصل في وجوه الطلاق
روى الدارقطني عن ابن عباس أنه قال: الطلاق على أربعة وجوه وجهان حلالان، ووجهان حرامان.
فأما الحلال، فأن يطلقها [طاهراً] من غير جماع، وأن يطلّقها حاملاً متبيناً حملها، وأما الحرام فأن يطلقها حائضاً، وأن يطلقها حين يجامعها لا يدري أشْتَمَلَ الرَّحمُ على ولدٍ أمْ لاَ.
واعلم أن الطلاق في حال الحيض والنفاس بدعة، وكذلك في الطُّهر الذي جامعها فيه لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وإن شَاءَ طلَّق قَبْلَ أن يمضي» .
وطلاق السُّنة: أن يُطلِّقها في طُهْرٍ لم يجامعها فيه، وهذا في حقِّ المرأة يلزمها العدة بالأقراء.
وأما طلاق غير المدخول بها في حيضها، أو الصغيرة التي لم تحض، والآيسة بعدما جامعها، أو طلق الحامل بعد ما جامعها، أو في حال رؤية الدم لا يكون بدعيًّا ولا سنيًّا لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ثُمَّ ليُطلِّقْهَا طَاهِراً أو حَاملاً» .
والخُلْع في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه فلا يكون بدعياً، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أذن لثابت بن قيس في مخالعة زوجته من غير أن يعرف حالها، ولولا جوازه في جميع الأحوال لاستفسره.
قوله: ﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ .
قال الزمخشري: «مستقبلات لعدتهن» ، كقولك: أتيته لليلة بقيت من المحرم أي: مستقبلاً لها، وفي قراءة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ﴿من قبل عدتهن﴾ انتهى.
وناقشه أبو حيان في تقدير الحال التي تعلق بها الجار كوناً خاصًّا.
وقال: «الجار إذا وقع حالاً إنما يتعلق بكون مطلق» .
وفي مناقشته نظر، لأن الزمخشري لم يجعل الجار حالاً، بل جعله متعلقاً بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام.
وقال أبو البقاء: «لعدَّتهنَّ» أي: عندما يعتد لهن به، وهن في قبل الطهر. وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب.
وقال أبو حيان: «هو على حذف مضاف، أي: لاستقبال عدتهن، واللام للتوقيت، نحو: لقيته لليلة بقيت من شهر كذا» انتهى.
فعلى هذا تتعلق اللام ب «طلقوهن» .
وقال الجرجاني: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ﴾ صفة للطَّلاق.
كيف يكون، وهذه اللام تجيء لمعان مختلفة؟
للإضافة، وهي أصلها، أو لبيان السبب والعلة، كقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله﴾ [الإنسان: 9] .
أو بمعنى «عند» كقوله تعالى: ﴿أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس﴾ [الإسراء: 78] أي: عنده.
وبمنزلة «في» كقوله تعالى: ﴿أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحشر﴾ [الحشر: 2] ، أي: في أول الحشر.
وهي في هذه الآية بهذا المعنى، لأن المعنى: فطلقوهن في عدتهن، أي: في الزمان الذي يصلح لعدتهن.
* فصل في قوله: لعدتهن
قال القرطبي: قوله: «لعدَّتِهِنَّ» يقتضي أنهن اللاتي دخل بهن الأزواج، لأن غير المدخول بهن خرجن بقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا﴾ [الأحزاب: 49] وحصل الإجماع على أن الطلاق في الحيض ممنوع منه، وفي الطهر مأذون فيه، وهذا يدل على أن القرء هو الطهر.
فإن قيل: معنى قوله: «فطَلِّقُوهُنَّ لعِدَّتِهِنَّ» أي: في قُبُل عدتهن، أو لقبل عدتهن وهي قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال ابن عمر، فقبول العدة آخر الطهر حتى يكون القرء الحَيْض؟ .
قيل: هذا هو الدليل الواضح لمن قال: بأن الأقْراءَ هي الأطْهَار، ولو كان كما قال الحنفي، ومن تابعه لوجب أن يقال: إن من طلق في أول الطهر لا يكون مطلقاً لقبل الحيض لأن الحيض لم يُقْبِل بعد، وأيضاً إقبال الحيض يكون بدخول الحيض، وبانقضاء الطهر لا يتحقق إقبال الحيض، ولو كان إقبال الشيء إدبار ضده لكان الصائم مفطراً قبل انقضاء النهار ثُمَّ إذا طلق في آخر الطهر فبقيّة الطهر قرء، ولأن بعض القرء يسمى قرءاً، كقوله تعالى: ﴿الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ [البقرة: 197] ، يعني شوال وذو القعدة وذو الحجة، وكقوله: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ﴾ [البقرة: 203] وهو ينفر في بعض اليوم الثاني.
وقال البغوي: معنى قوله «لِعدَّتهِنَّ» أي: لطهرهن الذي يحضنه من عدتهن، وكان ابن عبَّاس وابن عمر يقرآن: ﴿فطلقوهن في قبل عدتهن﴾ ، والآية نزلت في عبد الله بن عمر.
* فصل في الطلاق في الحيض
من طلق في طهر جامع فيه أو حائضاً نفذ طلاقه، وأخطأ السُّنة.
وقال سعيد بن المسيب في آخرين: لا يقع الطلاق في الحيض لأنه خلاف السنة، وإليه ذهبت الشيعة.
* فصل في طلاق السنة
قال عبد الله بن مسعود: طلاق السنة أن يطلقها في كل طُهْر تطليقة، فإذا كان آخر ذلك، فتلك العدّة التي أمر الله بها.
قال القرطبي: قال علماؤنا: طلاق السُّنة ما جمع شروطاً سبعة: وهو أن يطلقها واحدة، وهي ممن تحيض طاهراً، لم يمسّها في ذلك الطُّهر، ولا تقدمه طلاق في حيض ولا تبعه طلاق في طهر يتلوه، وخلا عن العوض، وهذه الشروط السبعة من حديث ابن عمرو. وقال الشافعي: طلاق السُّنة: أن يطلقها في كل طُهْرٍ خاصة، ولو طلقها ثلاثاً في طُهْر لم يكن بدعة.
قال ابن العربي: «وهذه غفلة عن الحديث الصحيح، فإنه قال فيه:» مُرةُ فَليُرَاجِعْهَا» وهذا يدفع الثلاث «.
وفي الحديث أنه قال:» » أرَأيْتَ لَوْ طَلقَّهَا ثلاثاً «؟ قَال:» حَرُمَتْ عليْكَ، وكَانَتْ مِنكَ بِمَعْصيَةٍ «» .
وقال أبو حنيفة: ظاهر الآية يدل على أن الطلاق الثلاث والواحد سواء.
وهو مذهب الشافعي. لولا قوله بعد ذلك: ﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾ [الطلاق: 1] ، وهذا يبطل دخول الثلاث تحت الآية، وبذلك قال أكثر العلماء.
قال القرطبي: وأما مالك فلم يخف عليه إطلاق الآية، ولكن الحديث فسرها، وأما قول الشعبي فمردود بحديث ابن عمر.
واحتج الشافعي بأن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية وهي أم أبي سلمة ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، ولم يبلغنا أن أحداً من الصحابة عاب ذلك عليه.
وأن حفص بن المغيرة طلق امرأته فاطمة بنت قيس على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاث تطليقات في كلمة واحدة، فأبانها منه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولم يبلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاب ذلك عليه.
وبحديث عويمر العجلاني، لما لاعن، قال: يا رسول الله، هي طالق ثلاثة، فلم ينكر عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
* فصل في نزول العدة للطلاق
روى أبو داود عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية، أنها طلقت على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يكُن للمطلقة عدة فأنزل الله - تعالى - حين طلقت أسماء العدّة للطلاق، فكانت أول من أنزل فيها العدة للطلاق.
قوله: ﴿وَأَحْصُواْ العدة﴾ .
يعني في المدخول بها، أي: احفظوا الوقت الذي وقع فيه الطلاق.
قيل: أمر بإحصاء العدة لتفريق الطلاق على الأقراء إذا أراد أن يطلق ثلاثاً، وقيل: للعلم ببقاء زمان الرجعة ومراعة أمر النفقة والسكن.
وفي المخاطب الإحصاء أقوال.
أحدها: أنهم الأزواج.
والثاني: هم الزوجات.
والثالث: هم المسلمون.
قال ابن العربي: والصحيح أنهم الأزواج؛ لأن الضمائر كلها من «طَلَّقتُمْ» ، و «أحْصُوا العِدَّة» و «لا تُخْرجُوهُنَّ» على نظام واحد، فرجع إلى الأزواج، ولكن الزوجات داخلة فيه بالإلحاق، لأن الزوج يُحْصِي ليراجع، وينفق أو يقطع، وليسكن أو يخرج، وليلحق نسبه أو يقطع، وهذه أمور كلها مشتركة بينه وبين المرأة، وتنفرد المرأة دونه بغير ذلك وكذلك الحاكم يفتقر إلى إحصاء العدة للفَتْوَى عليها، وفصل الخصومة عند المنازعة، وهذه فوائد الأمر بإحصاء العدّة.
قوله: ﴿واتقوا الله رَبَّكُمْ﴾ . أي: لا تعصوه.
﴿لا تخرجوهنَّ من بيوتهنَّ﴾ . أي: ليس للزَّوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدّة، ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثِمَتْ، ولا تنقطع العدّة.
فإن قيل: ما الحِكمةُ في قوله تعالى: ﴿واتقوا الله رَبَّكُمْ﴾ ولم يقتصر على قوله ﴿واتقوا الله﴾ ؟ .
فالجواب: إن في هذا من المبالغة ما ليس في ذاك، فإن لفظ الرَّبِّ يفهم منه التربية، وينبه على كثرة الإنعام بوجوه كثيرة، فيبالغون في التَّقوى حينئذ خوفاً من فوت تلك التربية.
* فصل في الرجعية والمبتوتة.
والرجعية والمبتوتة في هذا سواء، وذلك لصيانة ماء الرجل، وهذا معنى إضافة البيوت إليهن، كقوله تعالى: ﴿واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: 24] ، وقوله تعالى: ﴿وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: 33] فهو إضافة إسكان لا إضافة تمليك، وقوله ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ﴾ يقتضي أن يكون حقًّا على الأزواج، وقوله: ﴿ولا يخرجن﴾ يقتضي أنه حق على الزوجات، فلا يجوز لها أن تخرج ما لم تنقض عدتها، فإن خرجت لغير ضرورة أو حاجة أثمت، فإن وقعت ضرورة أو خافت هدماً أو غرقاً، فلها أن تخرج إلى منزل آخر، وكذلك إن كانت لها حاجة من بيع غَزْل أو شراء قطن، فيجوز لها الخروج نهاراً ولا يجوز ليلاً؛ فإن رجالاً استشهدوا ب «أحد» ، فقالت نساؤهم: نستوحش في بيوتنا فإذِنَ لهن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتحدثن عند إحداهن، فإذا كان وقت الليل تأوي كل امرأة إلى بيتها.
وأذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لخالة جابر لما طلقها زوجها أن تخرج لجداد نخلها.
وإذا لزمتها العدة في السفر تعتد ذاهبة وجائية، والبدوية تَنْتَوي حيث يَنْتَوي أهلها في العدة، لأن الانتقال في حقهم كالإقامة في حق المقيم.
وقال أبو حنيفة: ذلك في المتوفى عنها زوجها، وأما المطلقة فلا تخرج ليلاً ولا نهاراً. وهذا مردود بحديث فاطمة بنت قيس «لما قدمت أرسل زوجها أبو حفص بن عمرو بتطليقة كانت بقيت من طلاقها، وأرسل إليها وكيله بشير فسخطته، فقال لها الحارث بن هشام وعياش بن أبي ربيعة: والله ما لك من نفقة إلا أن تكوني حاملاً، فأتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكرت له قولهما، فقال: لا نفقة لك» ، وفي رواية: «ولاَ سَكَنَ» ، فاستأذنت في الانتقال، فأذن لها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، فلما انقضت عدتها أنكحها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسامة بن زيد، فأرسل إليها مروان قبيصة بن ذؤيب يسألها عن الحديث، فحدثته، فقال مروان: لم نسمع بهذا الحديث إلا من امرأة سنأخذ بالعصْمَةِ التي وجدنا النَّاس عليها، فقالت فاطمة حين بلغها قول مروان: فبيني وبينكم القرآن، قال الله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ ، قالت: هذا لما كانت له رجعة، لقوله: ﴿لعلّ الله يحدث بعد ذلك أمراً﴾ ، فأي أمر يحدث بعد الثَّلاث؟ فكيف تقولون: «لا نَفقَةَ إذَا لَمْ تَكُنْ حامِلاً، فعلام تَحبسُونهَا» لفظ مسلم.
فبين أن الآية في تحريم الإخراج، والخروج إنما هو في الرجعية.
فاستدلّت فاطمة أن الآية إنما تضمنت النهي عن خروج المطلقة الرجعية لأنها بصدد أن يحدث لمطلقها رأي في ارتجاعها ما دامت في عدتها فكانت تحت تصرف الزوج في كل وقت.
وأما البائن فليس له شيء في ذلك، فيجوز أن تخرج إذا دعتها لذلك حاجة.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ﴾ .
قال ابن عباس، وابن عمر، والحسن، والشعبي، ومجاهد: هو الزِّنا، فتخرج ويقام عليها الحد.
وعن ابن عباس أيضاً: أنه البذاء على أحمائها، فيحل لهم إخراجها.
وعن سعيد بن المسيب أنه قال في فاطمة: تلك امرأة استطالت على أحمائها بلسانها فأمرها النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن تنتقل.
وفي كتاب أبي داود، قال سعيد: تلك امرأة فتنت النَّاس، إنها كانت لسنةً فوضعت على يدي أم مكتوم الأعمى.
قال عكرمة: في مصحف أبيٍّ ﴿إلا أن يفحشن عليْكم﴾ .
ويقوي هذا أن محمد بن إبراهيم بن الحارث روي أن عائشة قالت لفاطمة بنت قيس: اتَّقي الله، فإنك تعلمين لم أخرجت.
وعن ابن عبَّاس أيضاً: أن الفاحشة كل معصية كالزِّنا والسرقة والبذاء على الأهل، وهو اختيار الطبري.
وعن ابن عباس أيضاً والسدي: «الفاحشة خروجها من بيتها في العدة» .
وتقدير الآية: إلا أن يأتين بفاحشة لخروجهن من بيوتهن بغير حق، أي: لو خرجت كانت عاصية.
وقال قتادة: «الفاحشة» النشوز، وذلك أن يطلقها على النُّشوز، فتتحول عن بيته.
وقال ابن العربي: أما من قال: إنه الخروج للزنا، فلا وجه له؛ لأن ذلك الخروج هو خروج القَتْل والإعدام، وليس ذلك بمستثنى في حلال ولا حرام، وأما من قال: إنه البذاء، فهو معتبر في حديث فاطمة بنت قيس، وأما من قال: إنه كل معصية فوهم، لأن الغيبة ونحوها من المعاصي لا تبيح الإخراج ولا الخروج، وأما من قال: إنه الخروج بغير حقًّ فهو صحيح، وتقدير الكلام: لا تخرجوهن من بيوتهن، ولا يخرجن شرعاً إلا أن يخرجن تعدِّياً.
قوله: ﴿مُّبَيِّنَةٍ﴾ .
قرىء: بكسر الياء.
ومعناه: أن الفاحشة إذا تفكَّرت فيها تبين أنها فاحشة.
وقرىء: بفتح الياء المشددة.
والمعنى: أنها مبرهنة بالبراهين، ومبينة بالحُجَجِ.
قوله: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ الله﴾ .
أي: هذه الأحكام المبينة أحكام الله على العباد، وقد منع التجاوز عنها، فمن تجاوزها فقد ظلم نفسه وأوردها مورد الهلاك.
قوله: ﴿لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً﴾ .
الأمر الذي يحدث الله أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليها فيراجعها.
وقال جميع المفسرين: أراد بالأمر هنا الرغبة في الرجعة، ومعنى الكلام: التحريض على طلاق الواحدة والنهي عن الثلاث، فإنه إذا طلق ثلاثاً أضر بنفسه عند الندم على الفراق والرغبة في الارتجاع فلا يجد للرجعة سبيلاً.
وقال مقاتل: «بعد ذلك» أي بعد طلقة أو طلقتين «أمراً» أي: المراجعة من غير خلاف.
قوله: ﴿لَعَلَّ الله﴾ .
هذه الجملة مستأنفة، لا تعلُّق لها بما قبلها، لأن النحاة لم يعدوها في المعلقات.
وقد جعلها أبو حيَّان مما ينبغي أن يعد فيهن، وقرر ذلك في قوله: ﴿وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ﴾ [الأنبياء: 111] .
فهناك يطلب تحريره.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّبِیُّ إِذَا طَلَّقۡتُمُ ٱلنِّسَاۤءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحۡصُوا۟ ٱلۡعِدَّةَۖ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ رَبَّكُمۡۖ لَا تُخۡرِجُوهُنَّ مِنۢ بُیُوتِهِنَّ وَلَا یَخۡرُجۡنَ إِلَّاۤ أَن یَأۡتِینَ بِفَـٰحِشَةࣲ مُّبَیِّنَةࣲۚ وَتِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن یَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدۡ ظَلَمَ نَفۡسَهُۥۚ لَا تَدۡرِی لَعَلَّ ٱللَّهَ یُحۡدِثُ بَعۡدَ ذَ ٰلِكَ أَمۡرࣰا"}