الباحث القرآني

وهذا نَوْعٌ خَامِسٌ من الدَّلائِل على كمال قُدْرَتِهِ تعالى وعلمه وحكمته وحرمته وإحسانه إلى خَلقِهِ. قوله: «فَأخْرَجْنَا» فيه التِفَاتٌ من غيبة إلى تَكَلُّم بنون العظمة والباء في «به» للسَّببية. وقوله: «نَبَات كُلِّ شَيْءٍ» قيل: المراد كُلّ ما يسمّى نباتاً في اللغة. قال الفراء: «رزق كل شيء، أي: ما يصلح أن يكون غِذَاءً لكل شَيءٍ، فيكون مَخْصُوصاً بالمتغذى به» . وقال الطَّبري: «هو جميع ما يَنْمُوا من الحيوان والنبات والمعادن؛ لأن كل ذلك يَتَغَذَّى بالماء» . ويترتب على ذلك صِنَاعَةٌ إعرابية وذلك أنَّا إذا قُلْنَا بقول غير الفراء كانت الإضافة رَجِعَةٌ في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها، إذ يصير المعنى على ذلك: فَأخْرَجْنَا به كُلَّ مُنْبَتٍ، فإن النبات بمعنى المُنْبَتِ، وليس مصدراً كهو في ﴿أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض﴾ [نوح: 17] وإذا قلنا بقول الفراء: كانت الإضافة إضافة بين مُتباينين؛ إذ يصير المعنى غذاء كل شيء أو رزقه، ولم ينقل أبو حيان عن الفراء غير هذا القول والفرَّاء له في هذه الآية القَولانِ المُتقدَّمان، فإن قال: «رزق كل شيء» قال: وكذا جاء في التفسير، وهو وَجْهُ الكلام، وقد يجوز في العربية أن تضيف النبات إلى كُلّ شيء، وأنت تريد بكُلِّ شيء النَّبَات أيضاً، فيكون مثل قوله: «حَقّ اليَقينِ واليقين هو الحق» . * فصل في دحض شبه للمعتزلة هذه الآيةُ تقتضي نُزُولَ المَطَرِ في السماء. قال الجُبَّائِيُّ: إن الله - تبارك وتعالى - ينزل الماء من السَّماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض لظاهر النَّصِّ قال بعض الفَلاسِفَةِ: إن البُخَارَاتِ الكثير تجتمع في بَاطِنِ الأرض، ثم تَصْعَدُ، وترتفع إلى الهواء، فينعقد الغَيْمُ منها، ويَتَقَاطَرُ، وذلك هو المَطَرُ، فقيل: المراد أنزل من جانب السماء ماءً. وقيل: ينزل من السحاب، وسمي السحاب سماء؛ لأن العربَ تُسَمَّى كل ما فَوْقَكَ سماء كسماءِ البيت. ونقل الواحديُّ في «البسيط» عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يريد بالماء هاهُنَا المَطَرَ، ولا تنزل نقطة من الماء إلا ومعها مَلَكٌ. قوله: ﴿فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ﴾ يَدُلُّ على أنَّ إخْراجَ النَّباتِ بواسطة الماء، وذلك يوجب القَوْلَ بالطَّبع، والمتكلمون ينكرونه. قال الفراء: هذا الكلام يَدُلُّ على أنه أخرج به نبات كل شيء، وليس الأمر كذلك، وكأن المراد: فأخرجنا [به نبات كل شيء له نبات، وإذا كان كذلك فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه وقوله: «فأخرجنا» ] بعد قوله: «أنزل» فيه الْتِفَاتٌ، وهو من الفَصَاحةِ مذكور في قوله تبارك وتعالى: ﴿حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس: 22] . وقوله تبارك وتعالى: «فأخْرَجْنَا» هذه النون تمسى نون العَظَمَةِ لا نون الجمع كقوله: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً﴾ [نوح: 1] ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر﴾ [الحجر: 9] ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر﴾ [القدر: 1] قوله: «فَأخْرَجْنَا مِنْهُ» في الهاء وجهان: أحدهما: أن يعود على النَّبَاتِ، وهو الظاهر، ولم يذكر الزمخشري غيره، وتكون «من» على بابها من كونها لابتداء الغاية، أو تكون «من» للتبعيض، وليس كذلك. والثاني: يَعودُ على الماء، وتكون «من» سَبَبِيَّةً. وذكر أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - الوَجْهَيْنِ، فقال: «فَأخْرَجْنَا مِنْهُ» أي: بسببه، ويجوز أن تكون الهاء في «منه» راجعةً علىلنبات، وهو الأشبه، وعلى الأول يكون «فأخْرَجْنَا» بدلاً من «أخْرَجْنَا» الأول أي: أنه يكتفي في المعنى بالإخبار بهذه الجملة الثانية، وإلا فالبدلُ الصناعي لا يظهر، فالظاهر أن «فأخرجنا» عطف على «فأخرجنا» الأول. وقال أبو حيان: وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أن يكون بدلاً من «فأخرجنا» . قلت: إنما جعله بَدَلاً بِنَاءً على عَوْدِ الضمير في «منه» على الماء فلا يَصِحُّ أن يحكى عنه أنه جَعَلَهُ بدلاً مطلقاً؛ لأن البدليَّة لا تتصَوَّرُ على جعل الهاء في «منه» عائدةً على النبات، والخَضِرٌ بمعنى الأخْضَر ك «عَوِر» و «أعور» . قال أبو اسحاق: يقال: أخضر يخضر فهو خضر وأخضر ك «أعور» فهو عَوِر وأعور. والخُضْرَة أحد الألوان، وهو بين البياض والسواد ولكنها إلى السَّوادِ أقرب، وكذلك أطْلِقَ الأسود على الأخضر، وبالعكس، ومنه «سواد العراق» لِخُضْرَةِ أرضه بالشجر، وقال تبارك وتعالى: ﴿مُدْهَآمَّتَانِ﴾ [الرحمن: 64] أي: شَديدتَا السواد لريِّهِمَا، والمُخاضَرَةُ مُبايَعَةُ الخُضَرِ والثمار قبل بلوغها، والخضيرة: نخلة ينتثر بُسْرُهَا أخضر. وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إيَّاكُمْ وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ» فقد فَسَّرَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «المَرْأةُ الحَسْنَاءُ في المَنْبَتِ السُّوءِ» والدِّمنُ: مَطَارحُ الزِّبَالَةِ، وما يُسْتَفْذّرُ، فقد يَنْبُت منها ما يَسْتَحْسِنُهُ الرائي. قال اللَّيْثُ: الخضر في كتاب الله الزَّرْعُ والكلأ، وكل نبت من الخضر. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز، والمراد بهذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أوّلاً، وتكون السُّنْبُلَةُ مركبةً عليه من فوقه قوله: «نُخْرِجُ مِنْهُ» أي: من الخضر. والجمهور على «نخرج» مُسْنَداً إلى ضمير المعظم نفسه. وقرأ ابن محيصن والأعمش: «يخرج» بياء الغيبة مبنياً للمفعول و «حَبٌّ» قائم مقام فاعله، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفةً ل «خَضِراً» وهذا هو الظاهر، وجوّزوا فيها أن تكون مُسْتَانَفَةً، و «متراكب» رفعاً ونصباً صفة ل «حب» بالاعتبارين، والمعنى أن تكون الحبَّات متراكبةً بعضها فوق بعض، مثل [سَنَابِلِ] البُرِّ والشعير والأرز، وسائر الحبوب، ويحصل فوق السُّنْبُلَةِ أجسام دقيقة حادة كأنها الإبَرُ، والمقصود [من تخليقها مَنْعُ الطير من التِقَاطِ تلك الحبَّاتِ المتراكبة. قوله: ﴿وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ يجوز في هذه الجملة أوجه:] أحسنها: أن يكون «من النخل» خبراً مقدماً، و «من طلعها» بدل بعض من كل بإعادة العامل، فهو كقوله تعالى: ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر﴾ [الأحزاب: 21] . و «قِنْوَانٌ» مبتدأ مؤخر، وهذه الجملة ابتدائية عطفت على الفعلية قبلها. الثاني: أن يكون «قِنْوان» فاعلاً بالجار قبله، وهو «من النخل» و «من طلعها» على ما تقدَّم من البدليَّة، وذلك على رأي الأخفش. الثالث: أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُعِ، يعني أن كلاَّ من الجارَّيْنِ يطلب «قنوان» على أنه فاعل على رأي الأخفش، فإن أعملت الثاني، وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأوّل، وإن أعملت الأوَّل كما هو مختار قول الكوفيين أضمرت في الثاني. قال أبو البقاءِ: والوجه الآخر أن يرتفع «قنوان» على أنه فاعل «من طلعها» فيكون في «من النخل» ضمير يفسره «قنوان» وإن رفعت [ «قنوان» ] بقوله: «ومن النخل» على قول من أمعلم أول الفعلين جاز، وكان في «من طلعها» ضمير مرفوع قلت: فقد أشار بقوله: على أنه فالع «من طلعها» إلى إعمال الثاني. الرابع: أن يكون «قنوان» مبتدأ، و «من طلعها» الخبر، وفي «من النخل» ضمير، تقديره ونبت من النخل شيء أو ثمر، فيكون «من طلعها» بدلاً منه. قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ، وهذا كلام لا يصيح؛ لأنه بعد أن جعل «من طعلها» الخبر، فكيف يجعله بدلاً؟ فإن قيل: يجعله بدلاً منه؛ لأن «من النخل» خبر للمبتدأ. فالجواب: أن قد تقدَّم هذا الوجه، وجعله مقابلاً لهذا، فلا بد أن يكون هذا غيره، فإنه قال قبل ذلك: وفي رفعه وجهان: أحدهما: هو مبتدأ، وفي خبره وجهان: أحدهما: هو «من النخل» ، و «من طلعها» بدل بإعادة الجار. قال أبو حيان: وهذا إعراب فيه تخليط. الخامس: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة «أخرجنا» عليه، تقديره: ومخرجه من طلع النخل «قنوان» . هذا نص الزمخشري، وهو كما قال أبو حيان لا حاجة إليه؛ لأن الجملة مُسْتَقِلَّةٌ في الإخبار بدونه. السادس: أن يكون «من النخل» متعلقاً بفعل مقدر، ويكون «من طلعها قنوان» جملة ابتدائية في موضع المفعول ب «نخرج» وإليه ذهب ابن عطية، فإنه قال: «ومن النخل» تقديره: نخرج من النخل» ، و «من طلعها قنوان» ابتداء خبر مقدم، والجملة موضع المفعول ب «نخرج» . قال الشيخ: وهذا خطأ؛ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق، وكان في الجلمة مَانِعٌ من العمل في شيء من مفرداتها على ما شرح في النحو، و «نخرج» ليس مما يعلّق، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها؛ إذ لو سُلِّطَ الفعل على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب: ويخرج من النخل من طلعها قنوان [بالنصب مفعولاً به. وقال أبو حيَّان: ومن قرأ «يخرج منه حبّ متراكب» جاز أن يكون قوله «ومن النخل من طلعها قنوان» ] معطوفاً عليه نحو: ضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو أي: إنه يعطف «قنوان» على حب «ومن النخل» على «منه» ، ثم قال: «وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه» . والقنوان جمع ل «قِنْو» ، كالصِّنْوَان جمع ل «صِنُو» والقِنْو: العِذْق بكسر العين وهو عُنْقُودُ النخلة، ويقال له: الكِبَاسَةُ. قال امرؤ القيس: [الطويل] 2268 - وَفَرْع يُغَشِّي المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِمٍ ... أثِيثٍ كَقِنُوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ وقال الآخر [الطويل] : 2269 - سَوَامِقُ جَبَّارٍ أثِيثٍ فُرُوُعُهُ ... وعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ البُسْرِ أحْمَرَا والقنوان: جمع تكسير. قال أبو علي: الكسرة التي في قنوان ليست التي في «قِنْو» ؛ لأن تلك حذفت في التكسير، وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّرَ تَغَيُّرُ كسرة «هِجَان» جمعاً عن كَسْرته مفرداً، فكسرة «هجان» جمعاً ككسرة «ظِرَاف» . قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا مما تُوَضِّحُهُ الضمة في آخر «منصُور» على قول من قال «يا حارُ» يعني بالضمة ليست التي كانت فيه في قول من قال: «يا حَار» يعين بالكسر. وفي لقات: فَلُغَةُ «الحجاز» : قِنْوان «بكسر القاف، ويه قراءة الجمهور وقرأ الأعمش، والحباب عن أبي عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، والأعرج بضمها، ورواها السمي عن علي بن أبي طَلْحَةَ، وهي لغة» قَيْس» . ونقل ابن عطية عكس هذا، فجعل الضم لغة «الحجاز» ، فإنه قال: «وروي عن اعرج ضم القاف على أنه جع» قُنْو «بضم القاف» . قال الفراء: «وهي لغة» قيس» ، وأهل «الحجاز» ، والكسر أشهر في العرب» . واللغة الثالثة «قَنْوَان» بفتح القاف، وهي قراءة ابي عمرو - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في رواية هارون عنه، وخرَّجها ابن جني على أنها اسم جمع «قنو» لا جمعاً؛ إذ ليس في صِيَغِ الجمنع ما هو على وَزْن «فَعْلان» بفتح الفاء، ونظَّره الزمخشري ب «رَكْب» ، وأبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ ب «الباقر» ، وتنظير أبي البقاء أوْلَى؛ لأنه لا خلاف في «الباقر» أنه سام جمع، وأما «رَكْب» فيه خلاف لأبي الحسن مشهور، ويَدُلُّ على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سمع في المفرد كسر القاف، وضمها، فجاء الجمع عليهما، وأما الفتح فلم يَرِدْ في المفرد. واللغة الرابعة «قنيان» بضم القاف مع الياء دون الواو. والخامسة: «قِنْيان» بكسر القاف مع الياء أيضاً، وهاتان لغتا «تميم» و «ربيعة» . وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً، بل بالواو، سواء كسروا القاف أو ضموها، فلا يقولون إلا قِنْواً وقُنْواً، ولا يقولون: قِنِياً ولا قُنْياً، فخالف الجمع مفرده في الماة، وهو غريب، واختلف في مدلول «القِنْو» ؛ فقيل: هو الجُمَّار، وهذا يكاد يكون غَلَطاً، وكيف يوصف بكونه دانياً؛ أي: قريب الجَنَى والجُمَّارُ إنما هو في قَلْبِ النخلة؟ والمشهور أنه العِذْقُ كا تقدم ذلك. وقال ابن عباس: يريد العراجينَ الَّتي قد تدلّت من الطلع دَانِيَةً ممن يَجْتَنيها. وروي عنه أنه قال قصار النخل اللاصقة عُذُوقها بالأرض. قال الزجاج ولم يقل: ومنها قنوان بعيدة؛ لأن ذِكْرَ أحد القسمين يَدُلُّ على الثاني، لقوله: ﴿سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر﴾ [النحل: 81] ، ولم يقل: سرابيل تقيكم البرد. وقيل أيضاً: ذكر الدانية القريبة، وترك البعيدة؛ لأن النعمة في القريبة أكثر. قال أبو عبيد: «وإذَا ثَنَّيْتَ» قِنْواً «قلت: قِنْوانِ بكسر النون ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل: صِنْو وصِنْوَان، والإعراب على النون في الجمع [وليس لهما في كلام العرب نظير؛ قال الشاعر: [الطويل] 2270 - ... ... ... ... ... . ... وقال بِقِنوانٍ البُسْرِ أحْمَرَا قال شهبا الدين: إذا وقف على» قنوان «المُثَنّى رفعاً، وعلى» قنوان «جمعاً وقع الاشتراك اللفظي، ألا ترى أنك إذا قلت» عندي قنوان «وقفاً احتمل ما ذكرته في التثنية والجمع، وإذا وصلت وقع الفرق، فإنك تجعل الإعراب على النون حال جمعه كغِرْبَان وصردان، وتكسر النون في التثنية، ويقع الفرق أيضاً بوجوه آخر: منها انقلاب الألف ياء نصباً وجراً في التقينة نحو رأيت قِنْويك وصنويْكَ، ومررت بِقنويْك وصِنْوَيْك. ومنها: حذف نون التثنية إضافة وثبوت النون في الجمع] . نحو: جاء قواك وصنواك [ونوانك وصنوانك] ومنها في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية، فتقول: قنوي وصنوي، ولا تحذف الألف والنون إذا أردت الجمع بل تقول: قنواني وصنواني، وهذا اللفظان في الجمع تكسراً يشبهان الجمع تصحيحاً، وذلك أن كُلاًّ منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان، ولم يتغير معهما بناء الواحد، والفرق ما تقدم. وأيضاً فإن الجمع من قِنْوان وصِنْوَان إنما فهمناه من صيغة فعلان، ولا من الزيادتين، بخلاف» الزيدين» فإن الجمع فهمناه منهما، وهذا الفصل الذي من محاسن علم الإعارب والتصريف واللغة. وقال الراغب: بعد أن ذكر أنه العِذق: والقناة تُشْبِهُ القِنْوَ في كونها غُصْنَيْنِ، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك؛ لأنها تشبه القناة في الخطِّ والامتداد. وقيل: أصلة من قَنَيْتُ الشيء إذا ادّخرته؛ لأنها مُدَّخرة للماء. وقيل: هو من قَانَاهُ أي: خالطه. قال امرؤ القيس: [الطويل] 2271 - كبِكْرِ مُقَانَاةِ البيَاضِ بِصُفْرَةٍ ... غَذَاهَا نُمَيْرُ غَيْرَ مَحَلِّلِ وأما «القَنَا» الذي هو الاحْدِيدابُ في الأنْفِ فَيْشَبَّهُ في الهيئة بالقنا يقال: رجل أقْنَى، وأمرأةٌ قَنْوَاء، كأحْمَر وحمراء. والطَّلْعُ: أوَّل ما يخرج من النَّخْلة في أكْمامِهِ. قال أبو عبيد: الطَّلْعُ الكُفُرَّى قبل أن تَنْشَقَّ عن الإغريض والإغْريضُ يسمى طلعاً يقال: أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها تطلع إطلاعاً وطلع الطلع يطلع طلوعاً؛ ففرقوا بين الإسنادين، وأنشد بعضهم في مراتب ام تثمره النخل قول الشاعر: [الرجز] 2272 - إنْ شِئْتَ أنْ تَضْبِطَ يَاخَلِيلُ ... أسْمَاء مَا تُثْمِرُهُ النَّخِيل فَاسْمَعْهُ مَوْصُوفاً عَلَى مَا أذْكُرُ ... طَلْعٌ وبَعءدَهُ خلالٌ يَظْهَرُ وبَلَحٌ ثُمَّ يَلِيهِ بُسْرُ ... ورُطَبٌ تَجْنِيهِ ثُمَّ تَمْرُ فَهَذِهِ أنْواعُهَا يَا صِاحِ ... مَضْبُوطَةً عَنْ صَاحِبِ الصِّحَاحِ قوله: «وجَنَّاتٍ» الجمهور على كَسْرِ التاء من «جنات» ؛ لأنها مَنْصُوبة نَسَقاً على «نبات» أي: فأخرجنا بلاماء النبات وجنات، وهو من عَطْفِ الخاصِّ على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98] وعلى هذا فقوله: ﴿وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ﴾ جملة معترضة وإنما جيئ بهذه الجملة معترضة وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للْمنَّةِ به لأنه من أعظم قُوتِ العرب، ولأنه جامع بين التَّفَكُّهِ والقوت. ويجوز أن ينتصب «جنات» نسقاً على «خَضِراً» ، وجوز الزمخشري - وجعلهُ الأحسن - أن ينتصب على الاختِصَاصِ، كقوله: ﴿والمقيمي الصلاة﴾ [الحج: 35] . قال: «لفضل هذين الصِّنفين» وكلامه يفهم أن القراءة الشهيرة عنده رفع «جَنَّات» والقراءة بنصبهما شاذَّة، فإنه أوَّل ما ذكر توجيه الرَّفْع كما سياتي، ثم قال: وقرئ «وجنات» بالرفع وفيها ثلاثة أوجه: أحدهما: أنها مرفوعة بالابتداء، والخبر محذوف، واختلفت عبارة العربين في تقديره فمنهم من قدَّرهُ متأخراً ومنهم من قدَّرَهُ متقدماً؛ فقدَّره الزمخشري متقدماً أي: وثمَّ جنات، وقدره أبو البقاء: ومن الكَرْمِ جنَّاتٌ، وهذا تقدير حسن لِمُقابلةِ قوله: «ومِنَ النَّخْل» أي: من النخل كذا، ومن الكرم كذا، وقدَّرهُ النَّحَّاسُ «ولَهُمْ جنَّاتٌ» ، وقدره ابن عطية: «ولكن جنَّات» . ونظيره قوله في قراءته ﴿وَحُورٌ عِينٌ﴾ [الواقعة: 22] بعد قوله: ﴿يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ﴾ [الواقعة: 17، 18] أي: ولهم حُورٌ عين، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويه، والكسائي، والفراء. وقدره الزمخشري، وأبو حيان متأخراً؛ فقال: أي: وجنات من أعناب أخْرجناها قال الشيخ: ودلَّ على تقديره قوله قبل: «فأخْرَجْنَا» كما تقول: أكرمت عبد الله وأخوه، أي: وأخوه أكرمته. قال شهاب الدين: وهذا التَّقديرُ سَبَقَهُ إليه ابن الأنْبَارِيّ، فإن قال: «الجنَّات» رفعت بمضمر بعدها تأويلها: وجنات من أعناب أخرجناها، فجرى مجرى قول العرب «أكرمت عبد الله وأخوه» تريد وأخوه أكرمته. قال الفرزدق: [الطويل] 2273 - غَدَاةَ أحَلَّتْ لابْنِ أصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حُصَيْنٍ عَبِيطاتِ السِّدائِفِ والخَمْرُ فرفع «الخمر» وهي مفعول على معنى: والخمر أحَلَّها الطَّعْنَة. والوجه: الثاني: أن يرتفع عَطْفاً على «قِنْوان» تغليباً للجوار؛ كقول الشاعر: [الوافر] 2274 - ... ... ... ... ... . ... وَزَجَّحْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا فنسق «العيون» على «الحواجب» تَغْلِيباً للمُجَاورِةِ، والعيون لا تُزَجَّج كما أن الجنَّاتِ من الأعناب لايَكُنَّ من الطَّلْع، هذا نص مذهب ابن الأنباري أيضاً، فَتَحَصَّلَ له في الآية الكريمة مذهبان، وفي الجملة فَالجواب ضَعيفٌ وقد تقدَّم أنه من خَصَائِصِ النَّعْتِ. والثالث: أن يُعطف على «قنوان» . قال الزمخشري: على معنى مُحَاطَة أو مخرجه من النخل قنوان، وجنات من أعناب أي من نبات أعناب. قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وهذا العَطْفُ على ألاَّ يلحظ فيه قَيْدٌ من النخل، فكأنه قال: ومن النخل قِنْوانق دانية، وجنات من أعناب حَاصِلة، كما تقول: «من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش مُنْطَلِقان» . قال شهاب الدين رحمها لله: وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوَجْهَ أعني عَطْفَهَا على «قنوان» ، وضعَّفَهُ ابن عطية، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه، ومنع أبو البقاء عطفه على «قنوان» ، قال: «لأن العِنبَ لا يخرج من النخل» . وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة قال أبو حاتم: «هذه القرءاة محال لأن الجنات من الأعناب لا تكون من النخل» . قال شهاب الدين: أما جواب أبي البقاء فبما قاله الزمخشري. وأما جواب أبي عبيد وأبي حاتم فبما تقدَّم من تَوْجِيهِ الرفع، و «ن أعاب» صفة ل «جنات» فتكون في محلِّ رفع ونصب بحسب القراءتين، وتتعلق بمحذوف. قوله: «والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ» لم يقرأهما أحد إلاَّ مَنْصُوبَيْنِ، ونصبهما: إما عطف على «جنات» ، وإما على «نبات» وهذا ظاهر قول الزمخشري، فإنه قال: وقرئ «وجنات» بالنصب عطفاً على «نبات كل شيء» أي: وأخرجنا به جنات من أعناب، وكذلك قوله: «والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ» . ونص أبو البقاء على ذلك فقال: «وجنات» بالنصب عَطْفاً على «نبات» ومثله «الزيتون والرمان» . وقال ابن عطية: عطفاً على «حبًّا» وقيل على «نبات» وقد تقدم أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين: أحدهما: عطفه على ما يليه. والثاني: عطفه على الأوَّل نحوه مررت بزيد وعمرو وخالد، فخالد يحتمل عطفه على زيد وعمرو، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو: «مررت بك وبزيد وبعمرو» ، فإن جعلتهُ عطفاً على الأول لزمت الباء، وإلاَّ جَازتْ. و «الزَّيْتُون» وزنه «فَيْعُول» فالياء مزيدة، والنون أصْلِيَّة لسقوط تلك في الاشتقاق، وثبوت ذي، قالوا: أرض زتنَةٌ، أي: كثيرة الزيتون، فهو نظير قَيْصُوم، لأن فَعْلُولاً مفقود، أو نادرٌ ولا يتوهم أن تَاءَهُ أصلية ونوه مزيدة لدلالة الزَّيْتِ، فإنهما مادَّتانِ مُتغايرتان، وإن كان الزيت مُعْتصراً منه، ويقال: زاتَ طعامه، أي: جعل في زَيْتاً، وزاتَ رَأسَهُ أي: دَهَنَهُ به، وزْدَاتَ: أي ادَّهَنَ أبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازْدَجَرَ وازْدَانَ. و «الرُّمَّان» وزنه فُعَّال نونه أصلية، فهو نظير: عُنَّاب وحُمَّاض، لقولهم: أرض رَمِنَهُ أي: كثيرَتُهُ. قال الفراء: قوله تعالى: ﴿والزيتون والرمان﴾ يريد شجر الزيتون، وشجر الرمان؛ كقوله تعالى: ﴿واسأل القرية﴾ [يوسف: 82] يريد أهْلَهَا. * فصل في معنى تقدم النخل على الفواكه في الآية ذكر تبارك وتعالى هاهنا أربعة أنواع من الأشْجَارِ: النخل والعنب والزيتون والرمان، وقدَّم الزرع على الشَّجرِ؛ لأن الزَّرْعَ غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مُقدَّمٌ، وقدم النخل على الفواكه؛ لأن الثمر يجري مُجْرَى الغذاءِ بالنسبة إلى العرب. قال الحكماء: بينه وبين الحيوان مُشابهةٌ في خواصَّ كثيرة لا توجد في النبات، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أكْرِمُوا النَّخْلَةَ فإنَّهَا عَمَّتُكُمْ فإنَّها خُلِقَتْ مِنْ طينَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ» . وذكر العِنَب عقيبَ النخل؛ لأن العنب أشْرَفُ أنواع الفواكه؛ لأنه أول ما يظهر يصير مُنْتَفَعاً به إلى آخر الحال، فأول ما يظهر على الشجر خُيُوطٌ خُضْرٌ رقيقة حَامِضَةُ الطعم لذيذَةٌ، وقد يمكن اتِّخَادُ الصبائِغ منه، ثم يظهر بعده الحُصْرُمُ، وهو طعام شَريفٌ للأصْحِّاءِ والمَرْضَى، وقد يتخذون من الحصم أشربة لطيفة المذاقِ نافعَةٌ لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، لأنه ألَذّ الطبائخ الحامضة، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه [وأشهاها فيمكن ادِّخار العنب المعلق سننة أو أكثر وهو ألذ الفواكه] المُدَّخرة، ثم يخرج منه أربعة أنواع من المتناولات: وهي الزَّبِيبُ والدبْسُ والخَمْرُ والخَلُّ، ومنافع هذه الأربع لا تنحصر إلا من مجلدات والخمر فإن كان الشَّرْعُ قد حَرَّمَهَا، ولكنه تبارك وتعالى قال في صفتها: ﴿وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ﴾ [البقرة: 219] ثم قال: ﴿وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا﴾ [البقرة: 219] والأطباء يتخذون من عجمه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة، فتبيّن أن العنب كأنه سلطان الفواكه، وأما الزَّيْتُونُ فهو أيضاً كثير النَّفْعِ كثير البركة؛ لأنه يمكن تَنَاوُلُهُ كما هو، ونفصل عنه أيضاً دهن كثير عظيم النفع في الأكل، وسائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب جداً؛ لأنه جِسْمٌ مُرَكَّبٌ من أربعة أقسام: قشرة وشحمه وعجمه وماءه، فأما الأقسام الثلاثة وهي القشر والشحم والعجم، فهي باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عَفِصَةٌ قوية في هذه الصفات وأما ماءُ الرمان فبالضَّدِّ من هذه الصفات، فإنه ألَدُّ الأشْرِبَةِ وألْطَفُهَا، وأقربها إلى الاعتدال، وأشَدُّهَا مناسبة للطَّبائِع المعتدلة فيه تقوية للمِزَاج الضعيفن وهو غذاء من وَجْهٍ، ودواء من وجه آخر، فإذا تَأمَّلت في الرُّمَّان وجدت الأقسام الثلاثة في غاية الكثافةِ التامة الأرضية، ووجدت القسم الرابع وهو مَاءُ الرُّمَّانِ في غاية اللَّطَافَةِ والاعتدال، فكأنه تبَارك وتعالى جمع فيه بين المُتَضَادَّيْنِ المُتَغَايريْنِ، فكانت دلالة القدرة والحكمة فيه أكمل وأتم. نَبَّه تعالى بذكر هذه الأقسام الأربعة [التي هي أشرف أنواع النبات] على الباقي. قوله: «مُشْتَبِهاً» حالٌ؛ إما من «الرُّمَّان» لِقُرْبِهِ، وحذفت الحال من الأول؛ تقديره: والرمان مشتبهاً، ومعنى التشابه أي في اللَّوْنِ، وعدم التشابه أي في الطعم. وقيل: هي حال من الأول، وحذفت حال الثاني، وهذا كما تقدَّم في الخبر المحذوف، نحو: ﴿والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ﴾ [التوبة: 62] وإلى هذا نحا الزمخشري، فإنه قال: تقديره: والزيتون مشتبهاً، وغير مشتبه، والرمان كذلك؛ كقول القائل في ذلك: [الطويل] 2275 - رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنءهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئاً ... ... ... ... ... ... ... . . أي: ولم يقل: مشتبهين اكتفى بوصف أحدهما أو على تقدير: «والزيتون مشتبهاً وغير متشابه، والرُّمَّان كذلك» . قال أبو حيان: «فعلى قوله يكون تقدير البيت: كنت منه بريئاً، ووالدي كذلك، أي: بريئاً، والبيت لا يتَعيَّنُ فيه ما ذكره؛ لأن» ريئاً «على وزن» فعيل «كصديق ورفيق، فَصَحَّ أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع، فيحتمل أن يكون» بريئاً «خبر» كان «على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه إذ لا يجوز أن يكون خبراً عنهما، ولا يجوز أن يكون حالاً عنهما، إذ لو كان كذلك لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين» . وقال أبُو البقاءِ: حَالٌ من «الرمان» ومن الجميع، فإن عَنَى في المعنى فصحيح، ويكون على الحذف، وكما تقدم فإن أراد بالصِّناعةِ، فليس بشيء؛ لأنه كأنه يلزم المطابقة. والجمهور على «مشتبهاً» . وقرئ شاذاً «متشابهاً» وغير متشابه كالثانية، وهما بمعنى واحِدٍ قال الزمخشري: «كقولك اشتبه الشيئان، وتشابها كاسْتَوَيَا وتَساوَيَا والافتعال والتَّفَاعُل يشتركان كثيراً» . انتهى وقد جمع بنيهما في هذه الآية الكريمة في قوله «مشتبهاً وغير متشابه» . * فصل في معنى «متشابه» في الآية قال بعضهم: متشابه في اللون والشكل، ومع أنها تكون مُتشابِهَةً في الطعم واللَّذَّةِ، فإن الأعناب والرمان قد تكون مُتَشابِهَةً في الصورة واللون والشكل، مع أنها تكون مختلفةً في الحلاوةِ والحُمُوضَةِ. وقيل: إن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القِشْرِ والعجم متشابهة في الطعم والخَاصيَّة. وقال قتادة: مشتبهاً وَرَقُهَا مختلفاً ثمرها؛ لأن وَرَقَ الزيتون يشبه ورق الرمان. وقيل: إنك إذا أخذت عنقود العنب وجدْت جميع حبَّاتِهِ نَاضِجةً حلوة طيبة إلاَّ حبَّاتٍ مخصوصة لم تدرك، بل بقيت على أوَّل حالها في الحموضة والعُفُوصَةِ، ولعى هذا قبعض حبَّات ذلك العنقود متشابه، وبعضها غير متشابه. قوله: «إلَى ثَمَرِهِ» متعلق ب «انظروا» وهو بمعنى الرُّؤية، وإنما تَعَدَّتْ ب «إلى» لما تَتَضَمنَّهُ من التفكر. وقرأ الأخوان «ثُمُرِهِ» بضمتين، والباقون: فتحتين. وقرئ شاذاً بضم الأوّل، وسكون الثاني. وأما قراءة الأخوين فتحتمل أربعة أوجه: أحدها: أن يكون اسماً مفرداً؛ كطُنُب وعُنُق. والثاني: أنه جمع الجمع، فَثْمر جمع: ثمار، وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو: أكُم جمع إكَام، وإكَام حمع أكَمَة، فهو نظير كُثْبَان وكُثُب. والثالث: أنه جمع «ثَمَر» كا قالوا: أسَد وأسُد. والرابع: أنه جمع: ثمرة. قال الفارسي: «الأحْسَنُ أنيك ون جمع ثَمَرَة، كخَشَبَة وخُشُب، وأكَمَة وأكُمُ، ونظيره في المعتل: لابَةٌ ولُوبٌ، وناقةٌ ونوقٌ، وسَاحَةٌ وسُوحٌ» . وأما قراءة الجماعة، فالثَّمَر اسم جنس، مفرده ثمرة، كشجر وشجرة، وبقر وبقرة، وجَرَز وجَرَزَة. وأما قراءة التسكين فيه تخفيف قراءة الأخوين وقيل: بل هي جمع «ثمرة» كبُدْن جمع «بَدضنة» ، ونقل بعضهم أنه يقال: ثمرة بزنة سمرة، وقياسها على هذا ثَمُر كَسَمُر بحذف التاء إذا قصد جمعه، وقياس تكسيره أثمار، كعضد وأعْضَاد. وقد قرأ عمرو الذي في سورة «الكهف» بالضم وسكون الميم، فهذه القرءاة التي هنا فَصِيحَةٌ كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مُسْتَنَدُهَا النقل. وقرا أبو عمرو والكسائي وقنبل «خُشْب» والباقون بالضم فهذه القراءة نظير تيك. وهذا الخلاف أعني في «ثمره» والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس [آية 35] وأما الذي في سورة «الكهف» ففيه ثلاث قراءات: فعاصم يقرؤه بفتحتين، كما يقرؤه في هذه السورة، وفي يس فاستمر على عَمَلٍ واحد، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث، فاستمر على عمل واحد، وأما نفاع وابن كثير وأبن عامر فقراوا في «الأنعام» و «يس» فتحتين، وقرأوا ما في «الكهف» بضمتين. وأما أبو عمرو فقرأ ما في «الأنعام» و «يس» بفتحتين، وما في «الكهف» بضمة وسكون، وقد ذكروا في توجيه الضمتين في «الكهف» ما لا يمكن أن يأتي في السورتين، وذلك أنهم قالوا في الكهف: الثُّمُر بالضم: المال، وبالفتح المأكول. قوله: «إذَا أثْمَرَ» ظرف لقوله: «انْظُرُوا» وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف، وأن يكون شرطاً، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي: إذا أثمر فانظروا إليه. قوله: «وَيَنْعِهِ» الجمهور على فتح الياء مِنْ «يَنْعهِ» وسكون النون. وقرأ ابن محيصن بضم الياء، وهي قراءة قتادة والضحاك. وقرأ إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ واليماني: يانعة، ونسبها الزمخشري لابن محيصن، فيجوز أن يكون عنه قراءتان، والينعُ بالفتح والضم مصدر يَنَعَتِ الثمرة؛ أي: نضجت، والفتح لغة «الحجاز» والضم لغة بعض «نجد» ، ويقال أيضاً: يُنُع بضم الياء والنون ويُنُوع بواو بعد ضمتين. وقيل: اليَنْعُ بالفتح جمع «يانع» كتاجر وتَجْر، وصاحب وصَحْب، ويقال: يَنَعت الثمرة، وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى. وقال الحجاج: «أرى رءوساً قد أيْنَعَتْ وحان قِطَافُهَا» ، ويانع: اسم فاعل. وقيل: أينعت الثمرة وينعت احْمَرَّتْ قاله الفراء، ومنه الحديث في المُلاعَنَةِ: «إنْ ولدَتْهُ أحْمَرَ مِثْلَ اليَنَعَةِ» . ويه خَرَزَةٌ حمراء، قيل: هي العَقيقُ، أو نوع منه ويقال: يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل، هذا قول أبي عبيده وأنشد: [المديد] 2276 - فِي قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا وقال الليث بعكس هذا، أي بكسرها في الماضي، وبفتحها في المستقبل وأينعت فهي تينعُ وتَوْنَعُ إيناعاً ويَنَعاً بفتح الياء ويُنعاً بضم الياء، والنَّعت يَانِعٌ ومُونِعٌ. فإن قيل هذا في أول حال حدوث الثمرة، وقوله: «وينعه» أمر بالنظر في حَالِ تمامها وكمالها، والمقصود منه أنَّ هذه الثمار في أول حدوثها على صفات مخصوصة عند مالها تنتقل إلى أحوال مُتَضَادَّةٍ للأحوال السابقة. قيل: إنها كانت مَوْصُوفَةً بالخضرة، فتصير سَوْدَاءَ، أو حمراء، أو صفراء، أو كانت مَوْصُوفَةً بالحموضة، وربما كانت في أوَّل الأمرْرِ بَارِدَةً بحسب الطبيعة، فتصير في آخر الأمر حَارَّةً بحسب الطبيعة، فحصول هذه التّبَدُّلاتِ والتغيرات لا بُدّ له من سَبَبٍ ليس هو تأثير الطَّبائعِ والفُصُولِ والأنجم والأفلاك؛ لأن نِسْبَةَ هذه الأفعال بأسْرِهَا إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية مُتَشَابِهَةٌ، والنِّسَبُ المتشابهة لا يمكن ان تكون سبباً لِحُدُوثِ الحوادث المختلفة، ولما بَطَلَ إسْنادُ حدوث هذه الحوادث إلى الطَّبائع والأنْجُمِ والأفلاك، وجب إسْنَادُهَا إلى القادرِ الحكيم العليم المُدَبِّرِ لهذا العالم على وَفْقِ الرحمة والمصلحة والحكمة، فَنَاسَبَ ختام هذه الآية الكريمة بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ للدلالة على ما تقدم في وَحْدَانِيَّتِهِ، وإيجاد المَصْنُوعَاتِ المختلفة من أنها ناَبِتَةً من أرض واحدة، وتُسْقَى بماء واحد، وهذه الدلائل إنما تَنْفَعُ المؤمنين دون غيرهم، كقوله تبارك وتعالى: ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: 2] قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: المراد لمن يطلب الإيمان بالله - تبارك وتعالى -؛ لأنه لمن آمن ولمن لا يؤمن فإن قيل: لم أوقع الاختلاف بين الخَلْقِ في هذه المسْألةِ مع وجود مثل هذه الدلالة [الجلية القوية؟] . أجيب عنه بأن قولة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلاَّ إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان، فكأنه قيل: هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان. فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينفع بهذه الدلالةِ ألبتة أصلاً فكان المقصود من هذه التخصيص التنبيه على ما ذكرنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب