الباحث القرآني
وهذا من تمام القصة الأولى بيَّن تعالى أنه أخذهم بالبَأسَاءِ والضرَّاءِ لعَلَّهُمْ يَتَضرَّعُوا ثُمَّ بيَّن في هذه الآية أنهم لما نَسُوا ما ذُكِّروا به من البَأسَاءِ والضَّرَّاءِ فَتَحْنَا عليهم أبواب كُلِّ شيء، ونَقَلْنَاهُمْ من البَأسَاءِ والضَّرَّاء إلى الرَّاحةِ والرَّخاءِ، وأنواع الآلاَءِ والنعماءِ والمقصودُ أنه - تعالى - عَامَلَهُمْ بِتَسْلِيطِ المَكَارِهِ والشَّدَائِدِ تَارَةً، فلم ينتفعوا به، فَنَقَلَهُمْ من تلك الحَالَةِ إلى ضِدِّهَا، وهو فتح أبواب الخيرات عليهم، فلم ينتفعوا به أيضاً، وهذا كما يَفْعَلُهُ الأبُ المُشْفِق بولَدِهِ يُخَاشِنُهُ تَارَةً ويُلاطِفُهُ أخرى طَلَباً لصَلاحِهِ.
قوله: «فَتَحْنَا» : قرأ الجمهور «فَتَحْنَا» مخفَّفاً، وابن عامر «فَتَّحْنَا» مثقلاً، والتقيلُ مُؤذِن بالتكثير؛ لأن بَعْدَهُ «أبواب» فناسب التكثير والتخفيف هو الأصل.
وقرا ابن عامر أيضاً في «الأعراف» ﴿لَفَتَحْنَا﴾ [الأعراف: 96] وفي «القمر» ﴿فَفَتَحْنَآ﴾ [القمر: 11] بالتَّشديد أيضاً، وشدَّدَ أيضاً ﴿فُتِحَتْ يَأْجُوجُ﴾ [الأنبياء: 96] والخلافُ أيضاً في ﴿فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا﴾ في «الزمر» في الموضعين [آية 71، 73] ، ﴿وَفُتِحَتِ السمآء﴾ في النبأ [آية 19] فإن الجماعة وافقوا ابن عامر على تشديدها، ولم يَقْرَأها بالتخفيق إلاَّ الكوفيون، فقد جَرَى ابن عامر على نَمَطٍ واحدٍ في هذا الفِعْلِ، والباقون شَدَّدُوا في المواضع الثلاثة المُشَارِ إليها، وخَفَّفُوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين.
قوله: «فَإذَا مُبْلِسُونَ» «إذا» هي الفُجَائِيَّةُ، وفيها ثلاثة مذاهب:
مذهب سيبويه أنها ظرف مكان، ومذهبُ جماعة منهم الرّياشي أنها ظرف زمان، ومذهب الكُوفيين أنها حرف، فعلى تقدير كونها ظَرْفاً زماناً أو مكاناً النَّصابُ لها خبر المبتدأ، أي: أبْلِسُوا في مكان إقامَتِهِمْ أو في زمانها.
والإبْلاسُ: الإطْرَاقُ.
وقيل: هو الحزن المعترض من شدة البَأسِ، ومنه أشْتُقَّ «إبْلِيسُ» وقد تقدَّم في موضعه، وأنَّهُ هل هو أعجمي أم لا؟
قال القرطبي: المُبْلسُ الباهت الحزين الآيسُ من الخير الذي لا يحيرُ جواباً لشدَّةِ ما نزل به من سُوءِ الحالِ.
قال العجَّاج: [الرجز]
2175 - يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا ... قال: نَعَمْ أعْرِفُه وأبْلَسَا
أي: تحيّر لهَوْل ما رَأى، ومن ذلك اشْتُقَّ اسم إبْلِيس، وأبْلَسَ الرَّجُلُ سَكَتَ، وأبْلَسَت النَّاقَةُ وهي مبلاسٌ إذا لم تَرْعَ من شِدَّةِ الضّبَعة يقال: ضَبِعَت النَّاقة تَضْبَع ضَبَعَةً وضَبْعاً إذا أرادت الفَحْلَ.
* فصل في معنى الآية
المعنى: فتحنا عليهم أبْوابَ كُلِّ شيء كان مُغْلَقاً عنهم من الخير، أي: لمَّا قَسَتْ قلوبهم ولم يَتَفَطَّنُوا ونَسُوا ما ذكروا به من الوَعْظِ فَتَحْنَا عليهم أبْوَابَ الخير مكان البلاء والشِّدَّة حتى إذا فَرِحُوا بما أوتوا، وهذا فَرَحُ بَطَرٍ مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا.
قال الحسنُ: في هذه الآية مَكْرٌ بالقوم وربِّ الكعبة.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا رَأيْتَ اللَّهَ يُعْطِي العَاصِي، فإنَّ ذَلكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّهِ»
ثم قرأ هذه الآية. ثم قال «أخَذْنَاهُم بَغْتَةً» : فُجَاءةً أين ما كانوا.
قال أهْلُ المعاني: وإنما أخذوا في حَالِ الرَّاحةِ والرَّخَاءِ ليكون أشَدَّ لِتحَسُّرِهِمْ على ما فَاتَهُمْ من حال السلامة والعَافِيَةِ، «فإذا هم مُبْلسون» آيِسُونَ من كُلِّ خيرٍ.
قال الفرَّاء: المُبْلسُ الذي انقطع رَجَاؤهُن ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حُجَّتِهِ: قد أبْلِسَ.
وقال الزَّجَّاجُ: المُبْلسُ الشديد الحَسْرَةِ الحزين.
قوله: «فَقُطَعَ دَابِرُ» الجمهور على «فَقُطِعَ» مِبْنِيَّا للمفعولِ «دابرُ» مرفوعٌ به.
وقرأ عِكْرِمَةُ: «قطع» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى، «دَابِرَ» مفعول به، وفيه التَفَاتٌ، إذ هو خورج من تكلم في قوله: «أخَذْنَاهُمْ» إلى غَيْبَةٍ.
و «الدَّابِرُ» التَّابعُ من خَلْفٍ، يقال: دَبَرَ الوَلَدُ والِدَه، ودَبَرَ فلان القَوْمَ يَدْبُرُهُمْ دُبُوراً ودَبْراً.
وقيل: الدَّابرُ الأصْلُ، يقال: قَطَع اللَّهُ دَابِرَهُ، أي: أصله قاله الأصْمَعِيُّ، وقال أبُو عُبَيْدٍ «» دَابِرُ القوم آخِرُهُمْ «، وأنشدوا لأميَّة بن أبي الصَّلْتِ: [البسيط]
2176 - فاستُؤصِلُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ ... فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفاً وَلاَ انْتَصَرُوا ومنه دَبَرَ السَّهْمُ الهَدَفَ، أي: سقط خَلْفَهُ.
وفي الحديث عن عبد الله بن مَسْعُودٍ «مِنَ النَّاسِ مَنْ لا يَأتِي الصَّلاةَ إلاَّ دُبريًّا»
أي: في آخر الوقت.
* فصل في المراد بالآية
والمعنى أنَّ الله - تعالى - اسْتَأصَلَهُمْ العذاب، فلم يُبْقِ بَاقِيَةً.
و «الحمد لله رب العالمين» .
قيل: على هَلاّكِهِمْ.
وقيل: تعليمٌ للمؤمنين كيف يَحْمَدُونَهُ، حَمَدَ اللَّهُ نَفْسَهُ على أنْ قَطَعَ دَابِرَهُم؛ لأنه نِعْمَةٌ على الرُّسُلِ، فَذَكرَ الحمْدَ تَعْلِماً لهم، ولمن آمن بهم أن يَحْمَدُوا الله على كِفَايَتِهِ شَرَّ الظالمين، وليحمد محمد وأصحابه رَبَّهُمْ إذا أهلكنا المكذّبين.
وتضَمَّنَتْ هذه الآية الحُجَّة على وحوب ترك الظلم لما تعقَّب من قَطْعِ الدَّابرِ إلى العذابِ الدئام مع اسْتَحْقَاقِ القاطعِ للحمد من كل حَامِدٍ.
{"ayahs_start":44,"ayahs":["فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَبۡوَ ٰبَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَاۤ أُوتُوۤا۟ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ","فَقُطِعَ دَابِرُ ٱلۡقَوۡمِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوا۟ۚ وَٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ"],"ayah":"فَلَمَّا نَسُوا۟ مَا ذُكِّرُوا۟ بِهِۦ فَتَحۡنَا عَلَیۡهِمۡ أَبۡوَ ٰبَ كُلِّ شَیۡءٍ حَتَّىٰۤ إِذَا فَرِحُوا۟ بِمَاۤ أُوتُوۤا۟ أَخَذۡنَـٰهُم بَغۡتَةࣰ فَإِذَا هُم مُّبۡلِسُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











