الباحث القرآني

الكاف في «كَذِلِك» في محلِّ نَصْب، نعتاً لِمَصْدَر مَحْذُوف، فقدَّره الزَّمَخْشَري: «ما خَلَّيْنا بَيْنَك وبين أعْدَائِك، كذلك فَعَلْنا بِمَنْ قَبْلك» . وقال الوَاحِدي: «وكذلك» منسُوق على قوله: «وكَذَلِكَ زَيَّنَّا» أي: فَعَلْنا ذَلِك كذلك «جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عَدُوًّا» ، ثم قال: وقيل: مَعْنَاه جَعَلْنا لَكَ عَدُوًّا كما جَعْلْنا لمن قَبْلَك من الأنْبِيَاء، فَيَكُون قوله: «وكذلك» عَطْفاً على مَعْنَى ما تقدَّم من الكلام، وما تقدَّم من الكلام، وما تقدَّم يدلُّ مَعْنَاهُ علىأنَّه جعل له أعْدَاء [والمراد: تَسْلِيَة النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: كما ابتُليت بِهَؤلاء القَوْم، فكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ قَبْلك أعْدَاء] . و «جَعَلَ» يتعدى لاثْنَيْن بمعنى: صَيَّر. وأعْرَب الزَّمَخْشَري، وأبو البقاء والحوفي هنا نحو إعرابهم في قوله: تعالى: ﴿وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن﴾ [الأنعام: 100] فَيَكُون المَفْعُول الأول «شَيَاطِين الإنْس» ، والثاني «عَدُواً» ، و «لكلِّ» : حال من «عَدُواً» لأنَّه صفته في الأصْل، أو مُتعلِّق بالحَعْل قَبْلَه، ويَجُوز أن يكون المَفْعُول الأول «عُدُوّاً» و «لكلِّ» هو الثَّانِي قُدِّم، و «شياطين» : بَدَل من المفعول الأوّل. والإضافة في: «شَيَاطِين الإنْس» يحتمل أن تكون من بابِ إضافَة الصِّفةِ لِمَوْصُوفها، والأصْل: الإنْس والجن الشَّياطين، نحو: جَرْد قَطِيفَة، ورجَّحْتُه؛ بأنَّ المقصود: التَّسلِّي والاتِّسَاءُ بمن سَبَق من الأنْبِيَاء، إذ كان في أمَمِهم مَنْ يُعادِلُهم، كما في أمَّة محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويحتمل أن تكُون من الإضافة الَّتِي بَمَعْنَى اللام، وليست من بابِ إضافة صِفَة لِمَوصُوف، والمعنى: الشَّياطين التي للإنْس، والشَّياطين التي لِلْجِنّ، فإن إلْليس قَسَّم جُنْده قسمين: قِسْمُ مُتسَلِّط على الإنْسِ، وآخر على الجِنِّ، كذا جاء في التَّفْسِير. ووقع «عَدُواً» مفعولاً ثَانِياً ل «شَيَاطِين» على أحَد الإعْرَابَيْنِ بِلَفْظ الإفْراد؛ لأنَّهُ يُكْتَفى به في ذلك، وتقدَّم شَوَاهِده، ومِنْه ما أنْشَده ابن الأنْبَارِي: [الطويل] 2286 - إذَا أنَا لَمْ أنْفَعْ صَدِيقِي بِوْدِّهِ ... فإنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرَّهُمُ بُغْضِي فأعاد الضَّمير مِنْ «يَضُرَّهُم» على «عَدُوّ» فدل على جَمْعِيَّته؛ وكقوله تعالى: ﴿ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين﴾ [الذاريات: 24] ، ﴿أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ﴾ [النور: 31] ﴿إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ [العصر: 2، 3] . وقيل لا حَاجَة إلى هذا التَّكْليف، والتَّقْدِير وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ واحد من الأنْبِيَاء عُدُوّاً واحِداً، إذ لا يَجِبُ أن يَكُون واحدٍ من الأنْبِيَاء أكْثَر من عُدوّ واحد. * فصل في دلالة الآية دلَّ ظاهر قوله - تعالى -: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً﴾ على أنَّه - تبارك وتعالى - هو الذي جَعَل أولَئِك الأعْداء أعْدَاءً للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا شكَّ أن تلك العدَاوة مَعْصِيَة وكُفْر، فهذا يَقْتَضِي أن خَالِق الخَيْر، والشَّر، والطَّاعة، والمَعْصِيَة، والإيمان والكُفْر هُواللَّه تعالى. وأجاب الجُبَّائي عَنْه؛ بأن المُرَاد من هذا الجَعْل: الحُكم والبَيَان فإن الرَّجُل إذا حَكَم بِكُفْر إنْسَان، قيل: كإنه كَفَّرَه، وإذا أخْبر عن عَدَالتِه، قيل إنه عدّله، فكذا ههنا أنَّه - تعالى - لما بيَّن للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كونهم أعْدَاء له لا جَرَم قال: إنَّه جعلهُم أعْدَاءً له وأجاب الأصَمُّ: بأنه - تعالى - لما أرْسَل محَمّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى العَلمِيَن، وخصَّه بِتِلْكَ المُعْجِزات، حسدُوه، وصار ذلك الحَسَد سَبَاً للعَداوَة القَوِيّضة فَلِهَاذا قال إنَّه - تعالى -: جعلهم أعْدَاء له ونَظِيرُه قول المُتَنَبِّي: [الطويل] 2287 - ... ... ... ... . ... وأنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ [لِيَ] حُسَّدَا وأجاب الكَعْبِي عنه: بأنَّه - تبارك وتعالى - أمَر الأنْبِيَاء بعَداوتهم، وأعْلَمهم كونهم أعْداءً له، وذَلِك يَقْتَضِي صَيْرُورتهم أعْداءً للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام -؛ لأنَّ العَدَاوَة لا تَحْصُل إلاَّ من الجَانِبَيْن، فلهذا أنْ يُقَال: إنه - تعالى - جعلهم أعْدَاء للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام -. وهذه أوجوبه ضَعِيفَة لما تقدَّم الأفْعَال مُسنَدة إلى الدَّواعي، وهي حَادِثة من قبل اللَّه - تعالى - وإذا كان كذلك، صَحَّ مَذْهَبُنَا، ثم هَهُنا بَحْث آخر، وهُو أنَّ العَدَاوَة، والصداقة يمتنع أن تَحْصُل باخْتِيَار الإنْسَان؛ فإن الرَّجُل قد يَبْلُغ في عَدَاوَة غَيره إلى حَيْث لا يَقْدِر ألْبَتَّة على إزَالة تلك الحَالَةِ عن قَلْبَه، بل قَدْ لا يَقْدِر على إخْفَاء آثَار تلك العَداوة، ولو أتى بكل تَكِلُّفِ وحيلة، لعجز عنه، ولو كان حُصُول العَدَاوة والصَّداقة في القَلْبِ باختيار الإنْسَان، لوجَبَ أن يَكُونَ الإنْسَان متمكناً مِن قَلْب العَدَاوة بالصَّداقة، وبالعَكْس، فكيف لا، والشُّعَراء عَرَفُوا أنّ ذلك خَارجٌ عن الوُسْع قال المُتَنَبِّي [المتقارب] 2288 - يُرَادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيَانُكُمْ ... وَتَأبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِل والعاشق الَّذِي يشتد عِشْقُه [قد] يَحْتَال بجميع الحِيَل في إزالة عِشْقِه، ولا يقدر عَلَيْه ولو كان حُصُول ذلك الحُبِّ والبَغْضِ باخْتِيَاره، لما عَجَز عن إزَالَتِهِ. * فصل في معنى الآية قال عِكْرمة، والضَّحَّاك، والكَلْبِي: المعنى: شَيَاطِين الإنْس الَّتِي مع شَيَاطِين الجِنِّ، وذلك أنَّ إبْلِيس قَسَّم جنده فَرِيقَيْن، فبعث فَريقاً منهم إلى الإنْس، وفريقاً إلى الجِنِّ، وكلا الفَرِيقَيْن أعْداءٌ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولأوْلِيَائه، وهم يَلْتَقُون في كل حين، فيقول شَيْطان الإنْس لشيطان الجنِّ: أضَلْلت صَاحِبي بكَذا، فأضلل صَحِبك بِمُله، ويقول شَيْطَان الجن لشيطان الإنس كذلك. فلذلك وصَّى بَعْضُهم إلى بَعْض. وقال قتَادة، وَمُجاهِد، والحَسَن: إن من الإنْس شَيَاطين، كما أن من الجنِّ شياطين، والشَّيْطَان الثَّاني المتمرد من كُلِّ شَيْء. قالُوا: إن الشَّيْطان إذا أعْيَاه المُؤمِن، وعَجز عن إغوائه، ذهب إلى مُتَمَرِّد من الإنْس: وهو شَيْطَان الإنْس، فأغراه بالمُؤمِن ليفتنه، يدلُّ عليه ما «رُوِي عن أبِي ذرِّ، قال: قال رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هل تَعَوَّذت باللَّه من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس، قلت يا رسُول الله، وهل للإنْس من شَيَاطين، قال نَعَمْ، هم شرُّ من شَيَاطين الجِن» . وقال مَالك بن دِينَار: إن شَيَاطين الإنْس أشَد عليَّ من شَيَاطِين الجِنِّ، وذلك أنِّي إذَا تعَوَّذت باللَّه، ذهب عني شَيَطان الجِنِّ، وشيطان الإنس يجيبني، فَيَجرُّني إلى المَعَاصي. قوله: «يُوحي» يُحْتَمل أن يكون مُسْتَأنفاً، أخبْرَ عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من «شياطين» وأن يكون وَصْفاً ل «عَدُوّاً» وقد تقدَّم وَاقِع مَوْقع أعْدَاء، فَلذلك عَادَ الضَّمِير عَلَيْه جَمْعاً في قوله «بَعْضُهم» انتهى. * فصل في معنى قوله: «يوحي» الوحي: هو عِبَارة عن الإيماءِ، والقَوْل السَّريع، والزُّخْرُف هو الذي يَكُون بَاطِنُه باطلاً، وظاهر مُزَيَّناً، يقال: فلان يزخرف كلامه، إذا زَيَّنه بالبَاطِل والكذب، وكلُّ شيء حَسَن مَمَوّه، فهو مُزَخْرَف والزُّخْرف: الزِّينة، وكلام مُزَخْرَف، [أي] : مُنَمَّق، وأصله الذَّهب، ولما كان الذَّهب مُعْجِبٌ لكل أحَد، قيل لكل مُسْتَحْسن مزين: زُخْرُف. وقال أبو عُبَيْدة: كل ما حَسَّنْتَه، وزيَّنته، وهو بَاطِل: فهو زُخْرُف، وهذا لا يَلْزَم، إذ قد يُطْلَق على مَا هُو زِينَة حَقّ، وبيت مُزَخْرَف، أي: مُزَيَّن بالنَّقْش، ومنه الحَدِيث: أنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يَدْخُل الكَعْبَة حتى أمر بالزُّخْرف فَنُحِّيَ يعني: أنهم كَانُوا يُزَيِّنُون الكعبة بِنُقُوش ووتصاوير مُمَوِّهة بالذَّهب، فأمر بإخْرَاجِها. قوله: «غُرُواً» قيل: نُصِب على المَفْعُول له، أي: لا يَغُرُّوا غيرهم. وقيل: هو مَصْدر في مَوْضِع الحَالِ، أي: غارِّين، وأن يَكُون مَنْصُوباً على المَصْدَر؛ لأن العَامِل فيه بِمَعْنَاه، كأنه قِيل: «يَغُرُّون غُرواً بالوَحي» . قوله: «ولَوْ شَاءً ربُّكَ ما فَعَلُوه» ما ألْقواه من الوسْوَسة في القُلُوب، وقد تقدَّم الكلام في المَشِيئَة ومَدْلُولِها مع المُعتزلة. قوله: «وما يَفْتَرُون» «ما» موصولة اسميَّة، أو نكرة مَوْصُوفة، والعَائِد على كلا هَذَين القَوْلَيْن محذُوفٌ، أي: «وما يَفْتَرُونَه» أو مصدريَّة، وعلى كُلِّ قوله فمحلُّهَا نَصْب، وفيه وَجهَان: أحدهما: أنها نَسَق على المَفْعُول في: «فَذَرْهُمْ» أي: اتْرُكْهُم، واترك افْتِرَاءهم. والثاني: أنَّها مفعول مَعَه، وهو مَرْجُوحٌ، لأنه متى أمكن العَطْف من غير ضَعْفٍ في التركب، أو في المَعْنَى، كان أوْلَى من المَفْعُول معه. قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يُرِيد بقوله: «فَذَرْهُم وما يَفْتَرون» : ما زيَّن لهم إبْليس وغرَّهُم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب