الباحث القرآني
لما حَكَى عَن المُشْرِكين أنَّهُم يَنْسِبُونه في إظْهَار هذا القُرْآن العظيم إلى الافْتِرَاء، وإلى مُدَارسة من يَسْتَفِيد هذه العلُوم مِنْهُم، ثمَّ ينظِّمُهَا قُرْآناً، ويدَّعي أنَّه عليه من اللَّه، أتبعه بقوله: ﴿اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك﴾ لئلا يصير ذلك القول سَبَاً لفتوره عن تَبْلِيغ الدَّعْوَة والرِّسالة، والمقصُود: تقوية «قَلْبِه» ، وإزالة الحُزْن الذي حَصَل بسَمَاع تلك الشُّبْهَة.
قول: «ما أوحِي» يجُوز أن تكُون «ما» : اسميَّة، والعائد هو القائمُ مقام الفاعل، و «إليك» : فَضْلَه، وأجَازُوا أن تكون مَصْدريَّة، والقائِم مقام الفاعل حينئذٍ: الجار والمجرُور، أي: الايحاء الجَائِي مِنْ ربِّك، و «مِنْ» لابْتِدَاء مَجَازاً، ف «مِنْ ربِّك» :
متعلِّقٌ ب «أوحِيَ» .
وقيل بل هُو حالٌ من «ما» نَفْسِها.
وقيل: بل هُو حالٌ من الضَّمير المُسْتترِ في «أوحِيَ» وهو بِمَعْنَى ما قَبْلَه.
وقوله: «لا إلهَ إلاَّ هُو» جملة مُعْتَرِضة بَيْن هاتَيْن الجُمْلَتيْن الأمْرِيَّتيْن، هذا هو الأحْسن.
وجوّز أبُو البقاءِ أن تكُون حالاً من «ربِّك» وهي حالٌ مؤكِّدَةٌ، تقديره: من ربِّك مُنْفَرِداً.
قوله: «وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكين» أي: لا تُجَادِلْهم.
وقيل: المرادُ: ترك المُقاتَلة؛ فلذلك قالوا: إنَّه مَنْسوخٌ، وهذا ضعيف؛ لأن الأمْر بترك المُقاتلة في الحالِ لا يُفِيدُ الأمر بِتَرْكِها دائماً، وإذا كان الأمْر كذلك لم يَجِيبِ التزام النَّسْخ.
قوله: «ولوْ شَاء اللَّه» مفعول المشيئة مَحْذُوف، أي: «لو شَاءَ اللَّه إيمانَهُم» وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لِغَرَابتِه، والمعنى: لا تلتفتْ إلى سَفَاهَات هؤلاء الكُفَّار، فإنّي لو أرَدْت إزالَة الكُفْرِ عنهم، لَقَدَرْت، ولكنِّي تركْتُهم مع كُفْرِهم، فلا يَشْتَغِل قلبك بِكلماتِهم.
وتمسَّك أهل السُّنَّة بقوله - تعالى -: ﴿وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ﴾ والمعنى: لو شَاءَ ألاَّ يُشْرِكوا، ما أشْرَكوا، وحيث لَمْ يَحْصُلِ الجَزَاء، لم يَحْصُل الشَّرْط.
وقالت المُعتزلَة: ثبت بالدَّلِيل أنَّه - تعالى - أراد مِنَ الكُلِّ الإيمان، وما شَاءَ من أحدٍ الكُفْر، وهذه الآيَة الكريمة تَفْتَضِي: أنَّه - تعالى - ما شَاءَ من الكُلِّ الإيمانَ؛ فوجب التَّوفيق بين الدَّليليْن، فيجعل مَشِيئةِ اللَّه لإيمانهم، على مَشِيئة الإيمان الاخْتِيَاريِّ الموجبِ للثُّواب، ويحمل عدم مشيئته لإيمانِهِم، على الإيمان الحاصِل بالقَهْر والجَبْر، يعني: أنه - تبارك وتعالى - ما شاء أن يَحْمِلَهُم على الإيمان على سبيل القَهْر والإلْجَاء؛ لأنَّ ذلك يُبْطِل التَّكْليف، ويخرج الإنْسَان عن اسْتِحقاق الثَّواب.
والجواب من وُجُوهٍ:
أحدها: أنه - تبارك وتعالى - ما شَاءً مِنْهُم أن يَحْمِلَهم على الإيمان على سَبِيل القَهْر وهو الذي أقْدَر الكَافِر على الكُفْر فَقُدْرَةٌ الكُفْر إن لم تَصْلُح للإيمان، فخالِقُ تلك القُدْرَة لا شكَّ أنه كان مُريداً للكُفْر، فإن كان صَالِحة للإيمان، لَمْ يَتَرجَّحْ جانب الكُفْرعلى جَانِب الإيمان، إلاَّ عند حصولِ داعٍ يَدْعُو إلى الإيمان، وإلاَّ لَزِم رُجْحان أحد طرَفِي المُمْكِن على الآخرَر [لا] لمرجَح.
وهو مُحَالٌ، ومَجْمُوع القُدْرَة مع الدَّاعِي إلى الكُفْر، يُوجِب الكُفْرَن فإذا كان خالِق القُدْرة والدَّاعِي هو اللَّه - تعالى -، وثبت أنَّ مَجْمُوعَهما يوجِبُ الكُفْر، ثبت أنَّ الله - تعالى - أراد الكُفْر من الكافِرِ.
وثانيها: أنَّ الله - تبارك وتعالى - كان عالماً بعدم الإيمان من الكَافِر، ووجُود الإيمَان مع العِلْم بِعدم الإيمان مُتضَادَّانِ، ومع وُجودِ أحَد الضِّدَّيْن كان حُصُول الضدِّ الثاني محالاً، مع العِلْمِ بِكَوْنه محالاً غير مُرَادِ، فامْتَنَع أن يُقال: إنه - تعالى - يريد الإيمان من الكافر.
وثالثها: هَبْ أن اإيمان الاخْتِيَاري أفْضلُ وأنْفع من الإيمان الحَاصِل بالجَبْر والقَهْر، إلاَّ أنَّه - تعالى لما عَلِم أنَّ ذلك النَّفْع لا يَحْصُل ألْبَتَّةَ، فقد كان يَجِبُ في رَحْمَته وحكمته، أن يخلق فيهم الإيمان على سَبِيل الإلْجَاء؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يُوجِب الثُّواب العظيم، فأقَل ما فيه أن يُخَلِّصَة من العِقَاب العَظيم، وتَرْك إيجَاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلْجَاء، يُوجِب وقوعَهُ في أشَدِّ العذاب، وذلك لا يَلِيقُ بالرَّحمة والإحْسان، كما إنَّ الوالد إذا كان له ولدٌ عزيزٌ، وكان الأبُ في غَاية الشَّفَقَة، وكان الولدُ واقفاً على طَرف البَحْرن فيَقُول له الوالد: غُصْ في قَعْر هذا البَحْر؛ لتَسْتَخْرِج اللآلِئ العظيمة الرَّفيعة الغَالِية، وعلِم الوالد قَطْعاً أنَّه إذا غَاصَ في البَحْر، ويقول له: أترك طلب اللآلِئ، فإنَّك لا تَجِدُها وتَهْلَك، والأوْلى لك أن تَكْتَفِي بالرِّزق القَلِيل مع السَّلامة، فأما أنْ يَأمُرَه في قَعْر البحر مع تيقّن الهلاك، فهذا يدلُّ على عَدَم الرَّحْمة؛ وكذا هَهُنَا.
قوله: «وَمَا جَعَلْنَاكَ» «جعل» بمعنى: صيَّر فالكافُ مَفْعُول «حَفِيظ» مَحْذُوف، أيك «حفيظاً عليهم أعْمالهم» .
قال أبُو البقاء: «هذا يُؤيِّد قَوْل سيبويه في إعْمَال فَعِيل» يعني: أنه مِثالُ مُبالَغة، وللنَّاس في إعْمَاله وإعْمَاله وإعْمَال فعل خلاف أثْبَتَهُ سِيبويْه، ونفاه غَيْرُه.
[قال شهاب الدين] : يُؤيِّده وليْس شيءٌ في اللَّفْظ يَشْهَد لَهُ؟
قوله: «وَمَا أنْتَ» يجُوز أن تَكُون «مَا» الحجازيةح فيكُون «أنْتَ» : اسْمُهاَ، و «بوكيل» : خبرها في مَحَلِّ نصْب، ويجُوز أن تكُون التَّمِيميَّة؛ فيكون «أنْتَ» : مبتدأ و «بوكيل» : خَبَره في محلِّ رفع، والباءُ زايدة على كلا التَّقْديرين، و «عليهم» : متعلِّق بوكيل قُدِّم لما فيما قَبْلَه، وهذه الجُمْلَة هي في مَعْنى الجملة قَبْلَها؛ لأن معنى ما أنْت وَكِيلٌ عليهم، وهو بِمَعْنَى: ما جَعَلْنَاكَ حفيظاً عليهم، أي: رقيباً.
واعلم أنه - تبارك وتعالى - لما بيَّن أن لا قُدْرَةَ لأحد على إزالة الكُفْر عَنْهُم، ختم الكلام بما يَكْمُل معه تَبْصير الرَّسُوال؛ لأنَّه لما بيَّن له قَدْر مَا جَعَل إلَيْه، فذكر أنَّه ما جَعَله عليْهم حَفِيظاً ولا وِكِيلاً، وإنَّما فوَّض إليه البَلاغ بالأمْر، والنَّهْي، البَيَان بذكر الدَّلائل، فإن انْقَادُوا للقَبُول، فنفعه عَائِدٌ إلَيْهم، وإلا فضرَرُه عَائِدٌ إليهم.
قال عطاء: وما جَعَلْنَاك علهيم حَفِيظاً: تمنعهم منِّي، أي: لم تُبْعِثْ لِتَحْفَظ المُشْرِكين من العذاب، إنما بُعِثْت مُبَلَّغاً، وما أنت عليهم بِوَكيل على سَبيل المَنْع لَهُم.
{"ayahs_start":106,"ayahs":["ٱتَّبِعۡ مَاۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِینَ","وَلَوۡ شَاۤءَ ٱللَّهُ مَاۤ أَشۡرَكُوا۟ۗ وَمَا جَعَلۡنَـٰكَ عَلَیۡهِمۡ حَفِیظࣰاۖ وَمَاۤ أَنتَ عَلَیۡهِم بِوَكِیلࣲ"],"ayah":"ٱتَّبِعۡ مَاۤ أُوحِیَ إِلَیۡكَ مِن رَّبِّكَۖ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَۖ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡمُشۡرِكِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق