معناه أحدُ الثلاثةِ، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنْصَبَ ما بعده، لا تقولُ: ثَالِثٌ ثلاثةً، ولا رَابعٌ أربعةً؛ قالوا: لأنه اسمُ فاعلٍ، ويعملُ عَمَلَ فعله، وهنا لا يقع موقعَه فعلٌ؛ إذ لا يقال: رَبَّعْتُ الأرْبَعَةَ، ولا ثَلَّثْتُ الثلاثةَ، وأيضاً: فإنه أحدُ الثلاثة؛ فيلزم أن يعمل في نَفْسِهِ، وأجاز النصْبَ بمثلِ هذا ثَعْلَبٌ، وردَّه عليه الجمهورُ بما ذُكِرَ، أمَّا إذا كان من غيرِ لَفْظِ ما بعده، فإنه يجوزُ فيه الوجْهَان: النصبُ، والإضافة؛ نحو: رَابعٌ ثلاثةً، وإن شئْتَ: ثَلاثَةٍ، واعلم: أنه يجوز أن يُشتقَّ من واحد إلى عَشَرَةٍ صيغةُ اسمِ فاعلٍ؛ نحو: «وَاحِد» ، ويجوز قلبه فيقال: حَادِي وثَانِي وثالِث إلى عَاشِر، وحينئذٍ: يجوز أن يستعملَ مفرداً؛ فيقال: ثَالِثٌ ورَابعٌ؛ كما يقال: ثلاثةٌ وأربعةٌ من غير ذكرِ مفسِّرٍ، وأن يستعمل استعمالَ أسماءِ الفاعلينَ؛ إنْ وقع بعده مغايرُهُ لفظاً، ولا يكونُ إلا ما دونهُ برتْبةٍ واحدةٍ؛ نحو عَاشِرُ تِسْعَةٍ، وتَاسِعُ ثَمَانِيَةٍ، فلا يجامعُ ما دونَه برتبتين؛ نحو: عَاشِرُ ثمانِيَةٍ، ولا ثَامِنُ أرْبَعَةٍ، ولا يُجامِعُ ما فوقه مطلقاً، فلا يقال: تَاسِعُ عشرةٍ ولا رَابعُ ستَّةٍ.
إذا تقرَّر ذلك فيعطى حكم اسم الفاعل؛ فلا يعملُ إلا بشروطه، وأمَّا إذا جامع موافقاً [له لفظاً] وجبتْ إضافتُه؛ نحو: ثَالثُ ثلاثةٍ، وثَاني اثْنَيْنِ، وتقدَّم خلاف ثَعْلَبٍ، ويجوز أن يُبْنَى أيضاً من أحَدَ عشر، إلى تِسْعَة عشر، فيقال: حَادِي عشرَ وثالثَ عشرَ، ويجوز أنْ يُستعمل مفْرداً؛ كما ذكرنا، ويجوز أن يُسْتَعْمَل مجامعاً لغيره، ولا يكونُ إلا موافقاً، فيقال: حَادِي عشر أحدَ عشرَ، وثالثَ عشرَ ثلاثةَ عشرَ، ولا يقالُ: ثالثَ عشرَ اثْنَيْ عشرَ، وإن كان بعضُهم خالفَ، وحكمُ المؤنثِ كحكْمه في الصفَاتِ الصريحةِ، فيقال: ثَالِثَة ورابعة، وحادية عشْرَةَ، وثَالِثَة عشْرَةَ ثلاثَ عَشْرَة، وله أحكامٌ كثيرة مذكورة في كُتب النَّحْو. فصل في تفسير قول النصارى «ثالث ثلاثة»
هذا قول المَرْقُوسِيَّة: وفيه طريقان: أحدهما: قول المُفَسِّرين: وهو أنَّ النَّصَارى يقولون: الإلهِيَّة مشتركة بَيْنَ اللَّه ومرْيَم وعيسَى، وكُلُّ واحد من هؤلاء إله.
ويؤكد ذَلِكَ قوله تعالى: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ [المائدة: 116] فقوله: «ثَالِثُ ثلاثَةٍ» أي: أحَد ثلاثة، وواحد من ثلاثةِ آلهةٍ، يَدُلُّ عليه قوله تعالى في الرَّدِّ عليهم: ﴿وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ﴾ . قال الواحديُّ والبَغَوِي: من قال: إنَّ اللَّه تعالى ثَالِثُ ثلاثةٍ، هُو لَمْ يُرِدْ ثالثُ ثلاثةِ آلهة، فإنَّه ما مِنْ شَيْءٍ إلاَّ واللَّه ثالثُهُ بالعِلْم، قال تعالى: ﴿مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ﴾ [المجادلة: 7] .
وقال النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لأبي بكرٍ: «ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» .
الطريق الثاني: أنَّ المُتَكَلِّمين حكوا عن النَّصَارى أنَّهُمْ يقولون: جَوْهَرٌ واحدٌ: ثلاثةُ أقْسَام: أبٌ، وابْنٌ، ورُوحُ القُدُس، وهذه الثَّلاثَةُ إلهٌ واحِدٌ، كما أنَّ الشَّمْس اسمٌ يتناوَلُ القُرْصَ والشُّعَاع والحَرَارَة، وعنُوا بالأبِ الذَّات، وبالابْنِ الكَلِمَة، وبالرُّوحِ الحَيَاة، وأثْبَتُوا الذَّاتَ والكَلِمَة والحَيَاة.
وقالوا: إنَّ الكَلِمَة التي هي كلامُ اللَّه اخْتلطَتْ بِجِسْمِ عيسَى اخْتِلاطَ الماءِ بالخَمْر، واختلاط الماءِ باللَّبْن.
وزعمُوا أنَّ الأبَ إلهٌ، والابْنَ إله، والرُّوح إلهٌ، والكُلُّ إلهٌ وهذا بَاطِلٌ بيديهَةِ العقْلِ، فإنَّ الإلهَ لا يكونُ إلاَّ واحِداً، والواحِدُ لا يكونُ ثلاثةٌ، وليس في الدُّنْيا مقالةٌ أشَدَّ فَسَاداً، وأظْهَر بُطْلاناً من مقالَةِ النَّصارى - لعنهُمُ اللَّهُ تعالى -.
قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنْ إله﴾ «مِنْ» زائدةٌ في المبتدأ؛ لوجود الشرطين، وهما كونُ الكلام غير إيجابٍ، وتنكيرُ ما جرَّتْهُ، و «إلهٌ» بدل من محلِّ «إلهٍ» المجرورِ ب «مِنْ» الاستغراقية؛ لأن محلَّه رفعٌ كما تقدَّم، وما إلهٌ في الوجُودِ إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحْدَانية، قال الزمخشريُّ: «مِنْ» في قوله: «مِنْ إلهٍ» للاستغراقِ، وهي المقدَّرةُ مع «لاَ» التي لنفي الجنْسِ في قولك: «لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ» والمعنى: وما مِنْ إلهٍ قَطُّ في الوجُود إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحدانيَّة، وهو الله تعالى «، فقد تحصَّل مِنْ هذا أنَّ» مِنْ إلهٍ «مبتدأ، وخبرُه محذوفٌ، و» إلاَّ إلَهٌ» بدلٌ على المحلِّ، قال مكي: «ويجوزُ في الكلام النصبُ:» إلاَّ إلهاً «على الاستثناء» ، قال أبو البقاء: «ولو قُرئَ بالجرِّ بدلاً من لَفْظ» إلهٍ «، لكان جائزاً في العربيَّة» ، قال شهاب الدين: ليس كما قال؛ لأنه يلزمُ زيادةُ» مِنْ «في الواجبِ؛ لأن النفي انتقضَ ب» إلاَّ» ، لو قلت: «ما قَامَ إلاَّ مِنْ رَجُلٍ» ، لم يَجُزْ فكذا هذا، وإنما يجوزُ ذلك على رأي الكوفيين والأخفش؛ فإنَّ الكوفيين يشترطون تنكيرَ مجرورها فقط، والأخفشُ لا يشترط شيئاً، قال مكي» واختار الكسائيُّ الخفضَ على البدل من لفظ «إلهٍ» ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ «مِنْ» لا تُزَاد في الواجبِ» ، قال شهاب الدين: ولو ذهبَ ذاهبٌ إلى أنَّ قوله» إلاَّ إلهٌ «خبر المبتدأ، وتكونُ المسألةُ من الاستثناءِ المفرَّغِ، كأنه قيل: ما إلَهٌ إلاَّ إلَهٌ مُتَّصِفٌ بالواحدِ، لما ظهر له منعٌ، لكنِّي لم أرَهُمْ قالوه، وفيه مجالٌ للنظر.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ .
قال الزَّجَّاجُ: معناه: ليمسن الذين أقامُوا على هذا الدِّين؛ لأنَّ كثيراً منهم تَابُوا عن النَّصْرانيَّةِ، فخصَّ الذين كفروا لِعِلْمهِ أنَّ بعضَهُمْ يُؤمِنُ.
قوله:» لَيَمَسَّنَّ» جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ؛ لدلالةِ هذا عليه، والتقديرُ: واللَّهِ، إنْ لَمْ يَنْتَهُوا لَيَمَسَّنَّ، وجاء هذا على القاعدَةِ التي قَرَّرْتُهَا: وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقَسَمٌ أُجيبَ سابقُهما ما لم يسبقْهُمَا ذو خَبَرٍ، وقد يجابُ الشرطُ مطْلقاً، وقد تقدَّم أيضاً: أن فعلَ الشرطِ حينئذٍ لا يكون إلا ماضياً لفظاً ومعنًى لا لفظاً كهذه الآية، فإنْ قيلَ: السابقُ هنا الشرطُ؛ إذ القسمُ مقدَّرٌ، فيكونُ تقديرُه متأخِّراً، فالجوابُ أنه لو قُصِدَ تأخُّرُ القسَمِ في التقدير، لأجيبَ الشرْطُ، فلمَّا أُجِيبَ القسمُ، عُلِمَ أنه مقدَّرُ التقديمِ، وعبَّر بعضهم عَنْ هذا، فقال: لامُ التوطئةِ للقسمِ قد تُحْذَفُ ويُراعَى حكمُها؛ كهذه الآيةَ؛ إذ التقدير: «ولَئِنْ لَمْ» كما صرَّح بهذا في غير موضع؛ كقوله: ﴿لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون﴾ [الأحزاب: 60] ؛ ونظيرُ هذه الآية قوله: ﴿وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ﴾ [الأعراف: 23] ﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام: 121] ، وتقدَّم أنَّ هذا النوع من جواب القسمِ يجبُ أن يُتلقَّى باللام وإحدى النونَيْنِ عند البصريِّين، إلاَّ ما استثني، كما تقدَّمَ، قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: فهلاَّ قيل: لَيَمسُّهُمْ عذابٌ، قلتُ: في إقامة الظاهر مقامَ المضْمَرِ فائدةٌ، وهي تكريرُ الشهادة عليهم بالكُفْر» .
وقوله: «مِنْهُمْ» في محلِّ نصبٍ على الحال، قال أبو البقاء: إمَّا من «الَّذِينَ» ، وإمَّا من ضمير الفاعل في «كَفَرُوا» ، قلتُ: لم يتغيَّر الحكمُ في المعنى؛ لأن الضميرَ الفاعِلَ هو نَفْسُ الموصُولِ، وإنما الخلافُ لفظيٌّ، وقال الزمخشريُّ: «مِنْ» في قوله تعالى: ﴿لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ﴾ للبيان كالتي في قوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: 30] قال شهاب الدين: فعلى هذا يتعلقُ «مِنْهُمْ» بمحذوفٍ، فإن قلتَ: هو على جعله حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوف، قلت: الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَهُ حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في الحقيقة، وعلى هذا الوجه يتعلَّقُ بفعلٍ مفسِّرٍ للموصولِ الأول، كأنه قيل: أعني منهُمْ، ولا محلَّ ل «أعْنِي» ؛ لأنها جملةٌ تفسيريةٌ، وقال أبو حيان: «و» مِنْ «في» مِنْهُمْ «للتبعيض، أي: كائناً منهُمْ، والربطُ حاصلٌ بالضمير، فكأنه قيل: كَافرُهُمْ، وليسوا كلهم بَقُوا على الكُفْر» . انتهى، يعني: هذا تقديرٌ لكونها تبعيضيةً، وهو معنى كونها في محلِّ نصبٍ على الحال.
وقوله تعالى: «أفَلا يَتُوبُونَ» : تقدَّم نظيره مراراً، وأنَّ فيه رأيين: رأيُ الجمهور: تقديمُ حرفِ العطف على الهمزة تقديراً، ورأيُ أبي القاسِمِ: بقاؤه على حاله وحذفُ جملةٍ معطوفٍ هذا عليها، والتقديرُ: أيثبُتُونَ على كُفرِهِمْ، فلا يتُوبُونَ، والاستفهامُ فيه قولان:
أظهرهما: أنه للتعجب من حالهم: كَيْفَ لا يتوبُونَ ويستغفُرونَ من هذه المقالةِ الشَّنعاء؟
والثاني: أنه بمعنى الأمر، وهو رأي ابن زياد الفَرَّاء؛ كأنه قال: تُوبُوا واسْتَغْفِرُوا من هاتيْنِ المقالتيْنِ؛ كقوله تعالى:
﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة: 91] . وكلامُ ابن عطيَّة يُفْهِم أنه للتحضيضِ، قال: «رَفَقَ جَلَّ وعلا بهمْ بتحضيضهِ إياهُمْ على التوبة وطلب المغفِرَةِ» ، يعني بذلك من حيث المعنى، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيض من هذا اللفظ غيرُ مُسَلَّم، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حرف العطفِ فصلَ بين الهمزة و «لا» المفهمةِ للتحضيض؟ [فإنْ قلت] :
هذا إنما يُشْكِلُ على قولنا: إنَّ «ألاَ» التحضيضية بسيطةٌ غيرُ مركَّبةٍ، فلا يُدَّعى فيها الفصلُ بحرفِ العطف، أما إذا قلنا: إنها همزةُ الاستفهام دَخَلَتْ على «لا» النافيةِ، وصارَ معناهما التحضيضَ، فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرف العَطْف؛ لأنه عُهِد في «لا» النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاستفهام، فالجواب: أنه لا يجوزُ مطلقاً؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انسلخ وحدثَ معنى آخرُ، وهو التحضيضُ؛ فلا يلزم من الجوازِ في الأصْلِ الجوازُ بعد حدوثِ معنى جديد.
{"ayahs_start":73,"ayahs":["لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـٰثَةࣲۘ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّاۤ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱۚ وَإِن لَّمۡ یَنتَهُوا۟ عَمَّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ","أَفَلَا یَتُوبُونَ إِلَى ٱللَّهِ وَیَسۡتَغۡفِرُونَهُۥۚ وَٱللَّهُ غَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"],"ayah":"لَّقَدۡ كَفَرَ ٱلَّذِینَ قَالُوۤا۟ إِنَّ ٱللَّهَ ثَالِثُ ثَلَـٰثَةࣲۘ وَمَا مِنۡ إِلَـٰهٍ إِلَّاۤ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱۚ وَإِن لَّمۡ یَنتَهُوا۟ عَمَّا یَقُولُونَ لَیَمَسَّنَّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ"}