قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ الآية لما حَرّم [الله] الصيد على المحرم نَهَى في هذه الآيةِ عن مخالفةِ تكاليفِ الله تعالى.
قال المُفسِّرون: نزلتْ في الحطم، واسمُه: شُرَيْحُ بنُ ضُبَيْعَةَ البَكْرِيّ، «أتى المدينة، وخَلَّفَ خَيْلهُ خارجَ المدينةِ، ودخل وَحْدَه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال [له:] إلام تدعُو الناس إليه؟ ، فقال:» إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاةِ» ، فقال حسنٌ، إلاّ أنّ لي أمراء لا أقطعُ أمْراً دُونهم، ولَعَلِّي أسْلِمُ وَآتِي بهم، وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأصحابه: «يدخلُ عليكم رجلٌ مِنْ رَبيعَة يتكلم بلسانِ شَيْطان» ثم خرج شُرَيْحٌ منْ عنده، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِر، وخرج بِقَفَا غَادِرٍ، وما الرَّجُلُ بِمُسْلمٍ» ، فمرّ بِسَرْحِ المدينة فاسْتاقَه وانْطلقَ، فتَبعُوه وَلَمْ يُدْرِكُوه، فلما كان العامُ المقبلُ خرج حَاجًّا في حُجاج بَكْر بن وائلٍ مِنْ اليمَامَةِ، ومعه تجارةٌ عظيمةٌ، وقد قَلَّدُوا الهَدْي، فقال المسلمونَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذا الحطم قد خرج حَاجًّا، فخلِّ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنّه قَدْ قَلَّد الهديَ» ، فقالوا: يا رسول الله هذا شيءٌ كنا نفعله في الجاهلية، فأبَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فأنزل الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ الآية.
قال ابن عباسٍ ومجاهدٌ: هي مناسِكُ الحج، وكان المشركون يَحُجُّونَ فيهدُونَ، فأراد المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم فناههم الله عن ذلك.
وقال أبُو عُبَيْدَة: «شَعَائِرَ الله» هي الهَدَايَا [المُشْعَرةُ لقوله تعالى: ﴿والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله﴾ [الحج: 36] ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه تعالى ذكر ﴿شَعَآئِرَ الله﴾ ] ثم عطف عليها الهدايا، والمعطوفُ يجبُ أنْ يكون مُغَايِراً للمعطوف [عليه] ، والإشعارُ من الشعار وهي العلامَةُ، وإشعارُهَا إعلامُهَا بما يُعْرَفُ أنَّها هَدْيٌ، والشَّعَائِرُ جَمْعٌ، والأكثرونَ على أنَّهُ جَمْعُ شَعيرَة.
وقال ابنُ فارسٍ: واحِدَتُهَا شِعَارةٌ، والشَّعِيرةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعنى مفعلة والمُشْعَرَةُ: المُعْلَمَةُ، والإشْعَارُ: الإعلامُ، وكُلُّ شَيْءٍ أشْعرَ فقد أعْلم، وهو هاهنا أنْ يُطْعَنَ في صَفحةِ سنَان البَعير بحديدةٍ حَتّى يَسِيلَ الدَّمُ، فيكونَ ذلك علامَةً أنها هَدْيٌ، وهي سنَّةٌ في الهدايا إذَا كانَتْ من الإبل.
وقاسَ الشَّافِعِيُّ البَقَرَ على الإبل في الإشْعارِ، وأمّا الغنمُ فلا تُشْعَرُ بالجرح، فإنها لا تَحْتَمِلُ الجُرْحَ لِضَعْفِهَا.
وعند أبي حَنِيفَةَ لا يُشْعَرُ الهَدْيُ.
وروى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عباس: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ في أنْ تَصِيد وأنْتَ مُحْرم لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ .
وقال السُّدِّيُّ: أراد حرمَ الله، وقيل المرادُ النَّهْيُ عَنِ القتلِ في الحرمِ.
وقال عطاءُ: «شَعَائِرَ اللَّهِ» حُرُمَاتِ اللَّهِ.
ثم قال: ﴿وَلاَ الشهر الحرام﴾ أي بالقتال فيه، قال تعالى: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ﴾ [التوبة: 36] فقيل هي: ذُو القَعْدَةِ وذُو الحَجَّةِ ومُحَرَّمٌ ورَجَب، فقوله: ﴿وَلاَ الشهر الحرام﴾ يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ رجب، لأنَّه أكمل هذه الأشهرَ الأربعةَ في هذه الصفة.
وقال ابنُ زَيْدٍ: هي النَّسِيءُ؛ لأنَّهُم كَانُوا يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحَرِّمُونَه عَاماً.
قال: «وَلاَ الْهَدْي» .
قال الواحدي: الهدي ما أهْدِيَ إلى بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ مِنْ نَاقَةٍ أو بَقَرَةٍ أوْ شَاةٍ، وَاحِدُهَا هَدْيَةٌ بِتَسْكِينِ الدَّالِ، ويُقالُ [أيضاً] : هَدِيِّةٌ، وجمعها هَديّ قال الشاعر: [الوافر]
1917 - حَلَفْتُ برَبِّ مكَّة والمُصَلَّى ... وأعْنَاقِ الهديِّ مُقَلَّداتِ
ونَظِيرُ هذِهِ الآيَةِ قولُهُ تعالى: ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ [المائدة: 95] ، وقولُهُ: ﴿والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ [الفتح: 25] .
قَوْلُهُ سُبحانَهُ: ﴿وَلاَ القلاائد﴾ [أيْ: ولا ذَواتِ القَلاَئِد] عَطفٌ على الهَدْي مُبَالَغَةً في التوصية بها؛ لأنَّها أشَرَفُ الهَدْي، كَقَوْلِهِ تعالى: ﴿وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98] كأنَّهُ قِيلَ: وَذَواتِ القَلاَئِد] كأنَّهُ قِيلَ: وَذَواتِ القلائِدِ مِنْهَا خُصُوصاً.
قال القُرْطُبِيُّ: فَمَنْ قَالَ المرادُ بالشَّعَائِرِ المناسِكُ، قال: ذَكَرَ الهَدْي تَنْبيهاً عَلَى تَخْصيصه، ومَنْ قَالَ: الشَّعَائِرُ الْهَدْي قال: الشَّعَائِرُ مَا كَانَ مُشْعَراً، أيْ: مُعْلَماً بإسَالَةِ الدَّمِ من سنامه، والْهَدْي ما لم يُشعَر، [اكْتَفَى فِيهِ بالتَّقْلِيدِ، وقيل: الشعائرُ هي البُدنُ مِنَ الأنْعامِ، والْهَدْيُ البقر والغَنَمُ والثِّيَابُ وكُلُّ ما يُهدى] .
وقال الجُمْهُور: الهَدْيُ عامٌّ في كُلِّ ما يُتقرّبُ به من الذَّبَائحِ والصَّدَقَاتِ، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «المُبَكِّرُ للجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنة» ، إلى أنْ قَالَ: «كالمُهْدِي بَيْضَة» فَسَمَّاهَا هَدْياً، وتسميةُ البَيْضَةِ هَدْياً إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ وكذلك قال العلماءُ: إذَا قالَ جعلتُ ثَوْبِي هَدْياً فَعَلَيْهِ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ إلاَّ أنَّ الإِطْلاَقَ يَنْصَرِفُ إلى أحَدِ الأصْنَافِ الثَّلاثَةِ مِنَ الإبِلِ والْبَقَرِ والْغَنَمِ، وسَوْقُها إلى الْحَرَمِ وَذَبْحُهَا فِيهِ، وهَذَا إنَّما يُلَقَّى مِنْ عُرْف الشَّرع.
قال تعالى: ﴿فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي﴾ [البقرة: 196] وأراد به الشَّاةَ، وقال: ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ [المائدة: 95] ، وأقَلُّهُ شاةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
وقال مَالِكٌ: «إذَا قَالَ: ثَوْبِي هَدْيٌ، يَجْعَلُ ثَمَنُهُ في هَدْيٍ» .
ويجوز أنْ يكونَ المرادُ «والقَلاَئِدَ» حَقيقَةً، ويكونُ فِيهِ مبالغَةٌ في النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْي المَقلَّدِ بِهَا، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ [النور: 31] ؛ لأنَّهُ نَهَى عَنْ إظْهارِ الزِّينةِ، فَمَا بالُكَ بِمَواضِعِهَا مِنَ الأعْضَاءِ، والقَلاَئِدُ: جَمْعُ قِلاَدَة وَهِيَ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى عُنُقِ البَعيرِ.
وقالَ عَطَاءٌ: أرَادَ أصْحَابَ القَلاَئِدِ، وذلِكَ أنَّهُمْ كَانُوا في الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أرَادُوا الخُرُوج مِنَ الحرمِ قَلَّدُوا أنْفُسَهُم وإبلَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ، كَيْلاَ يُتعرَّض لَهُمْ، فَنَهى الشَّرْعُ عَنِ اسْتِحْلاَلِ شَيْءٍ مِنْهَا.
قوله تعالى: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ .
أيْ: وَلاَ تُحِلُّوا قوماً آمين، أيْ: قَاصِدِينَ، ويَجُوزُ أنْ يكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أيْ: لا تُحِلُّوا قِتَالَ قَوْم [أوْ أذَى] قَوْمٍ آمِّينَ.
وقَرَأ عَبْدُ الله وَمَنْ تبعَهُ: «ولا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ» بِحَذْفِ النّونِ، وإضَافَةِ اسْمِ الفَاعِلِ إلى مَعْمُولِهِ، والْبَيْتُ نُصِبَ على المفْعُولِ بِهِ ب «آمين» [أيْ:] قاصِدِينَ الْبَيْتَ، وَلَيْسَ ظَرْفاً.
وَقولُهُ: «يَبْتَغُونَ» حالٌ مِنَ الضَّميرِ في «آمِّينَ» ، أيْ: حَالَ كَوْنِ «الآمِّينَ» مُبْتَغِينَ فَضْلاً، وَلاَ يَجُوزُ أنْ تكُونَ هَذِهِ الجملةُ صِفَةٌ ل «آمِّين» ؛ لأنَّ اسْمَ الفَاعِلِ مَتَى وُصِفَ بَطَلَ عَمَلُهُ على الصَّحيحِ. وخَالَف الكُوفيُّونَ فِي ذلِكَ.
وأعْرَبَ مَكي هذه الجملة صِفَةً ل «آمين» ، ولَيْسَ بِجيِّدٍ لما تقدَّمَ، وكأنَّهُ تَبعَ في ذَلِكَ الكُوفِيِّين.
وهَاهُنَا سُؤالٌ، وهَوَ أنَّهُ لم لا قيل بجوازِ إعْمَالِهِ قَبْلَ وَصْفِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ قِيَاساً على المصْدَرِ، فإنَّه يعملُ قَبْلَ أنْ يُوصَفَ، نَحْو: يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ زيداً شديدٌ.
والجُمْهُورُ عَلى «يَبْتَغُونَ» بيَاءِ الْغَيْبَةِ، وقَرَأ حُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ، والأعْرَجُ «تَبْتَغُونَ» بِتَاءِ الخِطَابِ، على أنَّه خطابٌ للمؤمنينَ، وهي قلقَةٌ، لقوله: «مِنْ ربِّهمْ» وَلَوْ أُريد خطَابُ المؤمنينَ، لكانَ تَمامُ المناسَبَةِ ﴿تَبْتَغُون فَضْلاً مِنْ ربِّكُم﴾ و «من ربِّهمْ» ، يجُوزُ أن يتعلَّقَ بِنَفْسِ الْفَعْلِ، وأنْ يتعلَّقَ بمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل «فَضْلاً» ، أيْ: فَضْلاً كَائِناً «مِنْ ربِّهِمْ» .
وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في ضَمِّ رَاءِ «رُضْوَان» في آلِ عمران.
وإذا عَلَّقْنَا «مِنْ ربِّهمْ» بِمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل «فَضْلاً» ، فَيَكُون قَدْ حَذَفَ صِفَةَ «رِضْوَان» لِدلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أيْ: وَرِضْوَاناً مِنْ رَبِّهِم.
وَإذَا عَلَّقْنَاهُ بِنَفْسِ الفِعْلِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ.
فصل
قِيلَ: المرادُ ب «الفَضْل» الرِّزْقُ بالتِّجارَةِ و «الرِّضْوَانُ» ، أيْ: عَلَى زَعْمِهِمْ؛ لأنَّ الكَافِرَ لا نَصِيبَ لَهُ فِي الرِّضْوَانِ.
قال الْعُلَمَاءُ: المشركون كَانُوا يَقْصدُونَ بِحَجِّهِمْ رضْوَان اللَّهِ، وَإنْ كانُوا لا يَنَالُونَ ذَلِكَ فَلا يَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ لَهُمْ بسَبَبِ ذَلِكَ القصدِ نَوْعٌ مِنَ الْحُرْمَةِ.
وَقِيلَ: المرادُ بِفَضْلِ اللَّهِ الثَّوابُ، وبالرِّضْوانِ أنْ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهم؛ وذَلِكَ لأنَّ الْكَافِرَ وإنْ كان لا ينَالُ الفضْل والرِّضْوَان لَكِنَّهُ يَظُنُّ [أنَّهُ بِفِعْلِهِ طَالبٌ لهما] فَوُصِفَ بذلِكَ بِنَاءً على ظَنهِ، كقوله: ﴿وانظر إلى إلهك﴾ [طه: 97] ، وقوله: ﴿ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم﴾ [الدخان: 49] .
فصل
قال قَوْمٌ: هذه الآيةُ مَنْسُوخَةٌ؛ لأنَّ قوله تعالى: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام﴾ يَقْتَضي حُرْمَةَ القِتَالِ [في] الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ يقُولُ اللَّهُ تعالى: ﴿فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ﴾ [التوبة: 5] ، وقوله: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ يَقْتَضِي حُرْمَة مَنْعِ المُشْرِكِينَ عن المسْجِدِ الحرامِ، وذلك مَنْسُوخٌ بقوْلهِ: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام﴾
[التوبة: 28] وهوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وُمجَاهِدٍ والحسَن وقتادَةَ.
وقال الشَّعْبيُّ: لم يُنْسخْ مِنْ سورةِ المائدةِ إلاَّ هذهِ الآية، وقال آخرُون: هذه الآيةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وهؤلاء لَهُم طَريقَانِ:
الأوَّلُ: أنَّ الله تعالى أمَر في هذه الآية ألاَّ نُخيفَ مَنْ يَقْصُدُ بَيْتَهُ من المُسْلِمينَ، وحَرَّمَ عَلَيْنَا أخْذَ الْهَدْي مِنَ المُهْدين إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ لقوله أوّلِ الآية: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ وهذا إنَّما يَلِيقُ بنُسُكِ المسلمينَ لا بنُسُكِ الكُفَّار، وقولُهُ آخِرِ الآية: ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ وهذا إنَّمَا يَلِيقُ بالمسلمِ لاَ بالْكافِرِ.
والثاني: قال أبُو مُسْلِم: المرادُ بالآيةِ الكفارُ الذين كَانُوا في عَهْد النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَمَّا زَالَ [الْعَهْدُ زَالَ] الحَظْرُ، وَلَزِمَ المُرَادُ بقوله: ﴿فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا﴾ [التوبة: 28] .
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ وقُرِئ «أحْلَلْتُم» وهي لُغَةٌ في «حَلَّ» ، يُقَالُ: أحلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، كما يُقَالُ: حَلَّ.
وَقَرَأَ الحَسَنُ بْنُ عِمْران وأبُو وَاقِدٍ والجَرَّاح بِكَسْرِ الْفَاءِ العَاطِفَةِ وهِيَ قَراءَةٌ ضَعِيفَةٌ مُشْكِلَةٌ.
وَخَرَّجَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أنَّ الكَسْرَ فِي الْفَاءِ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ [في] الابْتِدَاءِ.
وقال ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ قِرَاءةٌ مُشْكِلَةٌ، وَمنْ توجيهها أنْ يكُونَ راعَى كَسْرَ ألف الوَصْلِ إذَا ابْتَدَأ فَكَسَر الْفَاءَ مُرَاعَاةً، وتَذَكُّراً لِكَسْرِ ألِفِ الْوَصْلِ.
وقال أبُو حَيَّان: وليس هُو عِنْدي كَسْراً مَحْضاً، بَلْ هو إمالةٌ مَحْضَةٌ لتوهُّمِ وُجُودِ كَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، كَمَا أمَالُوا «فإذَا» لِوُجُودِ كَسْرِ الهَمْزَة.
فصل
هَذَا أمْرُ إبَاحَةٍ، أبَاحَ لِلْحُلاَّلِ أخْذَ الصَّيْدِ، وظَاهِرُ الأمْرِ وإنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ فهو هنا للإبَاحَةِ، كقوله: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض﴾ [الجمعة: 10] ، وهو كقول القائِلَ: «لا تَدخُلَنَّ هذِهِ الدَّارَ حَتّى تُؤدِّيَ ثَمَنَها، فإذَا أدَّيْتَ فادْخُلْهَا» أيْ: فإذا أدَّيْتَ فقد أبيحَ لك دُخُولُهَا، وحاصِلُ الكلام أنَّا إنَّما عَرَفْنَا أنَّ الأمرَ هُنَا لَمْ يُفد الوُجوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وهذه الآيةُ مُتَعلِّقَةٌ بقوله ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 1] يعني [إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِن] حل الاصطِيَادِ هُوَ الإحْرَامُ، فإذَا زَالَ الإحْرَامُ وَجَبَ أنْ يَزُول المنْعُ.
قوله سبحانه وتعالى: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ قرأ الجمهور: «يَجْرمنكم» بفتحِ اليَاءِ مِنْ «جَرَمَ» ثُلاثياً، وَمَعْنَى «جَرَمَ» عِنْدَ الكِسَائِيِّ وثَعْلَبٍ «حَمَلَ» ، يقال: جَرَمَهُ على كَذا، أيْ: حَمَلَهُ علَيْهِ.
قال الشاعر: [الكامل]
1918 - وَلَقَدْ طَعَنْت أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَة ... [جَرَمَتْ فَزَارَة] بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا
فَعَلى هذا التَّفْسِير يتعدَّى «جَرَم» لِوَاحدٍ، وهو الكافُ والميمُ، ويكونُ قولُهُ: «أَن تَعْتَدُواْ» عَلَى إسْقَاطِ حَرْفِ الخَفْضِ، وهو «عَلَى» أيْ: وَلاَ يَحْمِلنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْمٍ على اعْتِدَائِكُم عليْهِم، فَيَجِيءُ في مَحَلِّ «أنْ» الخلافُ المشْهُورُ، وإلى هذا المعْنَى ذَهَب ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادَةُ.
ومَعْنَاهُ عِنْدَ أبِي عُبَيْدَةَ والفَرَّاءِ: كسب، وَمِنْهُ فُلانٌ جَريمةُ أهْلِهِ أيْ: كَاسِبُهُم.
وعَنِ الكِسَائيّ - أيضاً - أنَّ جَرَمَ وأجْرَمَ بِمَعْنَى: كَسَبَ غَيْرَهُ فَالْجَرِيمَةُ والجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ، وأجْرَمَ فُلانٌ أيْ: اكْتَسَبَ الإثْمَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الوافر]
1919 - جرِيمَةُ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ ... تَرَى العِظَام ما جَمَعتْ صَلِيبا
أيْ: كَاسِبٌ قُوَّةً، والصَّلِيبُ الوَدَكُ.
قال ابنُ فَارِسٍ: يُقَالُ جَرَمَ وأجْرَمَ، ولا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: لا بُدَّ وَلاَ مَحَالَةَ [وأصْلُه] مِنْ جَرَمَ أيْ: كَسَبَ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ:
أحدهُمَا: أنَّهُ مُتَعَدٍّ لِوَاحِدٍ.
والثاني: [أنَّهُ] مُتَعَدٍّ لاثْنَيْنِ، [كما أنَّ «كَسَبَ» كَذلِكَ، وأمَّا في الآية الكريمة فلا يكون إلاَّ مُتَعَدِّياً لاثْنَيْن:] أوَّلُهمَا: ضَمِيرُ الْخطَابِ، والثَّانِي: «أنْ تَعْتَدُوا» أيْ: لا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُكَمْ لقوم الاعْتِدَاءَ عَلَيْهِمْ.
وَقَرَأ عَبْدُ الله «يُجْرِمَنَّكُمْ» بِضَمِّ الياءِ مِنْ «أجْرَمَ» رُبَاعِيّاً.
وقيل: هو بمعنى «جَرَم» كما تقدم عن الكِسَائِي.
وقيل: «أجْرَمَ» مَنْقُولٌ مِنْ «جَرَم» بهمزة التَّعْدِية.
قال الزَّمَخْشَرِيّ: «جَرَمَ» ؛ يجري مَجْرَى «كَسَبَ» في تعْدِيَتهِ إلى مَفْعُولِ وَاحِدٍ وإلى اثْنَيْن، تقولُ: جَرَمَ ذَنْباً أيْ كَسَبَهُ، وجرَمْتَهُ ذَنْباً، أيْ كَسَبْتَهُ إيَّاهُ، ويقال أجْرَمْتُه ذَنْباً على نقل المُتَعَدِّي إلى مفعولٍ بالهمزةِ إلى مَفْعُولَيِْنِ كقولك: أكْسَبْتُهُ ذَنْباً، وعليه قراءةُ عبْدِ الله «وَلاَ يُجْرمَنَّكُمْ» وأوَّلُ المفعوليْنِ على القراءتين ضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ. وثانيهما: «أَنْ تَعْتَدُوا» اه.
وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابنُ عيسَى الرُّمَّانِي - القطعُ، فَجَرَمَ حُمِلَ عَلَى الشَّيءِ لِقَطْعِهِ عَنْ غيره، وجَرَمَ كَسَبَ لانْقِطَاعِهِ إلى الكَسْبِ، وجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ؛ لأنَّ الحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ.
قَالَ الخَلِيلُ: ﴿لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار﴾ [النحل: 62] أيْ: لقد حَقَّ [هكذا] قاله الرُّمانيُّ، فجعل بين هذه الألفاظ قَدْراً مُشْتركاً، وليس عنده مِنْ باب الاشْتِراكِ اللَّفْظِيّ.
و «شَنآن» [معناه] : بُغْض، وهو مَصْدَرُ شَنىءَ، أيْ: أبْغَضَ.
وقرأ ابْنُ عَامِرٍ وأبُو بَكرٍ عَنْ عَاصِمٍ «شَنْآنُ» بسُكونِ النُّونِ، والباقون بِفَتْحِهَا، وجَوَّزُوا فِي كُلٍّ منهما أنْ يكونَ مَصْدراً، وأنْ يكُونَ وَصْفاً حَتَّى يُحْكى عَن أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ قال: مَنْ زَعَمَ أنَّ «فَعلاَن» إذَا سُكِّنَتْ عَيْنُهُ لَم يكُنْ مَصْدَراً فَقَدْ أخْطَأ، لأنَّ «فَعْلان» بِسُكُونِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ في المصَادِرِ، نحو: لَوْيتُه دَيْنَه لَيَّاناً، بَلْ هُوَ كَثير في الصِّفَاتِ نَحْوُ: سَكْرَان وَبَابُهُ و «فَعَلاَن» بالْفَتْحِ قليلٌ في الصفاتِ، قالُوا: حِمَارٌ قَطَوَان، أي: عَسِرُ السير، وتَيْسٌ عَدَوَان.
قال: [الطويل]
1920 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كَتَيْس ظِبَاءِ الْحُلَّبِ العَدَوَانِ
ومِثْلُهُ قولُ الآخَرِ، أنْشَدَهُ أبُو زَيْدٍ: [الطويل]
1921 - وقَبْلَكَ مَا هَابَ الرِّجَالُ ظُلاَمَتي ... وَفَقَّأتُ عَيْنَ الأشْوَسٍ الأبَيَانِ
بِفَتْحِ الباء واليَاء، بل الكثيرُ أنْ يكُونَ مَصْدَراً، نحو: الغَلَيَان والنَّزَوَان، فإن أريد ب «الشَّنْأنَ» السَّاكِن الْعَيْنِ الوصْفُ، فالمعْنَى: وَلاَ يَجرمنكُمْ بَغيضُ قَوْمٍ، وَبَغيضٌ بِمَعْنَى: مُبْغِضٍ، اسمُ فاعِلٍ من «أبْغَضَ» ، وهو مُتعدٍّ، فَفَعِيلٌ بمعنى الفاعِلِ كقَدِير ونَصِير، وإضافَتُه ل «قوْمٍ» على هذا إضَافَةُ بيانٍ، أيْ: إنَّ البغيض مِنْ بَيْنِهم، وليس مَضَافاً لفاعِل ولا مَفْعولٍ، بخلاف ما إذَا قَدَّرْتَهُ مَصْدراً فإنه يكون مُضَافاً إلى مَفْعُولِهِ أوْ فَاعِلِه كما سيأتي.
وقال صاحبُ هذا القول: يُقَالُ: رَجُلٌ شَنْآنُ، وآمْرأةٌ شَنْآنَةٌ، كنَدْمَانَ، ونَدْمَانَةٍ، وقياسُ هذا أنْ يكونَ مِنْ فِعْلٍ متعد [وحكي: رجل شَنْآن، وامرأة شَنْأى ك «سكران وسكرى» وقياس هذا أن يكون من فعل لازم] ، ولا بُعْدَ في ذلك، فإنَّهم قد يشتقُّون من مادَّةٍ واحدةٍ القَاصِرَ والمتعدِّي، قالُوا: فَغَرْتُ فاه، وفَغَرَ فوه أيْ: فَتَحته فانفتح، [وإنْ] أُرِيدَ بِه المصدَرُ فَوَاضِحٌ، ويَكُونُ مُضَافاً إلى مفعُولِه، أيْ: بُغضكم لِقَوْم، فحذف الفاعل، ويجوزُ أنْ يكونَ مُضَافاً إلى فاعلِهِ، أيْ بُغْضُ قَوْمٍ إيَّاكُمْ، فحذف مَفْعُولَهُ.
والأوَّلُ أظْهَرُ في المعنى، وحُكْمُ شَنَآنَ بِفَتْحِ النُّونَ مَصْدَراً وَصِفَةُ حُكْم إسْكَانِهَا، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ومِنْ مَجِيءِ شَنْآن السَّاكِنِ الْعَيْنِ مَصْدَراً قَوْلُ الأحوصِ: [الطويل]
1922 - وَمَا الْحُبُّ إلاَّ مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي ... وإنْ لاَمَ فيه الشَّنَانِ وَفَنَّدَا
أرَادَ الشَّنْآنَ بِسُكُونِ النُّونِ فنقل حركة الهمزة إلى النُّونِ السَّاكنة، وحذف الهمزة [ولَوْلاَ سُكُونُ النُّونِ لما جَازَ النَّقْلُ ولو قال قَائِلٌ: إنَّ الأصْلَ الشَّنَآنُ بفتح النون] وخَفَضَ الهَمْزَةَ بحَذْفِهَا رَأساً، كما قُرِئ ﴿إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر﴾ [المدثر: 35] بحذفِ همزة «إحْدَى» لكانَ قَوْلاً يَسْقُطُ به الدليلُ لاحتماله، و «الشَّنآن» بالفتح عَمَّا شذَّ عن القاعدةِ الكُلِّيَّةِ.
قال سِبَوَيْه: كُلُّ بِنَاءٍ مِنَ المصادِرِ على وَزْنِ «فَعَلاَن» بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَم يتعدَّ فِعْلُهُ إلاَّ أنْ يَشذَّ شيءٌ كالشَّنَآنِ، يَعْنِي أنَّه مصدرٌ على «فَعَلاَن» بالفتح، ومع ذلك فعْلُهُ مُتَعِدّ، وفعلهُ أكثرُ الأفعالِ مَصَادِر سُمِعَ لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدراً، قالُوا: شَنِئَ يَشْنَأُ [شَنْئاً] وشَنآناً مُثَلَّثي الشِّين، فهي سِتُّ لُغَاتٍ.
وَقَرَأ ابْنُ وُثَّابٍ، والحسنُ، والوليدُ عَنْ يَعْقُوبَ «يَجْرِمَنْكُمْ» بِسُكُونِ النُّون جعلوها نون التوكيد الخَفِيفةِ، والنَّهيُ في اللَّفْظِ للشَّنْآنِ، وهو في المعنى للمُخَاطبينَ نحو: «لا أريَنَّكَ هاهُنَا» و ﴿وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾ [آل عمران: 102] قالَهُ مَكِّيٌّ.
فصل
قال القَفَّالُ: هذا معطوفٌ على قوله: ﴿لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله﴾ إلى قوله: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ يعني: لا يَحْمِلَنكمْ عَدَاؤُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عن المسْجِد الحَرَامِ أنْ [تَعْتَدوا فَتَمْنَعُوهُمْ] عَنِ المسْجِد الحرامِ، فإنَّ البَاطِل لا يَجُوز أنْ يعتدَى به.
قال محمدُ بنُ جَرِير: هذه السورةَ نزلتْ بعد قِصَّةِ «الحُدَيْبِيَةِ» ، فكان الصَّدُّ قد تقدّمَ، وليس للناس أنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً على العُدْوانِ، حتى إذا تَعَدَّى واحدٌ منهم على الآخر [تَعَدَّى ذلك الآخرُ] عليه، لكنَّ الواجبَ أنْ يُعِينَ بَعْضُهُم بَعْضاً على ما فيه البِرُّ والتَّقْوَى.
قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَن صَدُّوكُمْ﴾ .
قرأ أبُو عَمرو، وابْنُ كَثِيرٍ، بِكَسْرِ «إنْ» ، والباقُون بِفَتْحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أنَّها شَرْطِيَّةٌ، والْفَتْحُ على أنها عِلَّةٌ للشنآنِ، أيْ لا يَكْسبَنَّكُمْ أوْ لا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْم لأجْلِ صَدِّهِمْ إيَّاكُم عن المسْجِد الحرامِ، وَهِيَ قِراءةٌ واضِحَةٌ، وقد اسْتَشْكَلَ [الناسُ] قراءةَ الأخَويْن مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي أنَّ الأمْرَ المشروطَ لَمْ يَقَعْ والغَرضُ أن صَدَّهُمْ عنِ البيت الحَرَامِ كان قَدْ وَقَعَ، ونزولُ هذه الآيةِ مُتَأخرٌ عنه بمدّةٍ، فإنَّ الصَّدَّ وقع عَامَ «الحُدَيْبِيَة» وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ، والآيةُ نزلَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ.
وأيضاً، فإنَّ «مَكَّةَ» كانت عامَ الفتحِ في أيْدِيهم، فكيف يُصَدُّونَ عَنْها.
قال ابنُ جُرَيْج والنَّحاسُ وغيرُهما: هذه القراءةُ مُنْكَرَةٌ، واحْتَجُّوا بما تقدَّمَ مِنَ الإشْكَالِ.
قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: ولا إشْكَالَ في ذَلِكَ، والجوابُ عَمَّا قَالُوه مِنْ وَجْهَيْنِ:
أحدهما: ألاَّ نُسَلم أن الصَّدَّ كان قبلَ نُزولِ الآية؛ فإنَّ نُزُولَهَا عامَ الفتح ليس مُجْمَعاً عليه.
وذكر اليزيدِيُّ أنَّها نزلتْ قبل الصَّدِّ، فصاد الصدُّ أمراً مُنْتَظَراً.
والثاني: أنَّهُ وَإنْ سَلَّمْنَا أنَّ الصَّدَّ [كان مُتقَدِّماً على نُزُولِها، فيكون المَعْنَى: إنْ وقع صَدٌّ مِثْلُ ذلك الصدِّ] الذي وقع زمن «الحديبية» «فَلاَ يَجْرِمَنكُم» .
قال مَكِّي: ومثلُه عند سيبويْهِ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: [الطويل]
1923 - أتَغْضَبُ إنْ أذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا..... ... ... ... ... ... ... .
[وذلك شَيْء قد كان وقع، وإنما معناهُ:] إنْ وقع مِثْلُ ذلِكَ الغَضَبِ، وجوابُ الشَّرْطِ ما قَبْلَهُ، يَعْنِي: وجوابُ الشرطِ ما دَلَّ عليه ما قَبْلَهُ؛ لأنَّ البَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ تَقْدِيمَ الْجَواب إلاَّ أبَا زَيْدٍ.
وقال مَكِّي - أيضاً -: ونظيرُ ذلك أنْ يقولَ الرجلُ لامْرأتِهِ: أنْتِ طَالقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، بِكَسْر «إنْ» لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِهَا الأوَّلِ؛ لأنَّه أمْرٌ يُنْتَظَرُ، وَلَوْ فَتَحَ لَطُلِّقَتْ عَلَيْه؛ لأنَّه أمرٌ كَانَ وَوقَعَ، فَفَتْحُ «أنْ» لما هو عِلّةٌ لما كان ووقع، وكسرُهَا إنَّما هو لأمرٍ مُنتظر، والوَجْهَانِ حَسَنانِ على معنييهما وهذا الذي قاله مَكِّي فَصَّل فيه الفقهاءُ بين مَنْ يعرفُ النحوَ، وبين مَنْ لا يعرِفُهُ، وَيُؤيِّدُ هذه القراءةَ قراءةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «إنْ يَصُدُّوكُمْ» .
قال أبُو عُبَيْدَة: حدثنا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ، قَالَ: قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ فذكرها قال: وهذا لا يَكُونُ إلاَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الصَّدِّ، يعني إنْ وقع صَدٍّ آخر، مِثْلُ ما تَقَدَّمَ في عام «الحُدَيْبِيَة» .
ونَظْمُ هذه الآياتِ على ما هِيَ عَلَيْهِ مِنْ أبْلَغِ مَا يَكُونُ وأفْصَحه، وليس فيها تقديمٌ ولا تأخيرٌ كما زعم بعضُهم، فقال: أصلُ تركيب الآية الأولى ﴿غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾ [المائدة: 1] فإذا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا.
وأصلُ تركيب الثَّانِيَة: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً﴾ ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ .
ونَظَّرَه بآيةِ البقرةِ يَعْنِي: ﴿إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ﴾ [البقرة: 67] ، وهذا لا حاجة إليه مع أنَّ التقديمَ والتَّأخيرَ عند الجمهورِ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ، فَيَجِبُ تَنْزيهُ القرآنِ عَنْه، ولَيْست الجملةُ - أيضاً - مِنْ قوله: ﴿وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا﴾ مُعْتَرِضَةً بَيْن قوله: ﴿ولاا آمِّينَ البيت الحرام﴾ وبَيْنَ قوله: ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ ، بَلْ هي مؤسِّسةٌ ومُنْشِئَةٌ حُكْماً، وهو حِلُّ الاصْطيادِ عند التَّحَلُّلِ مِنَ الإحْرَامِ، والجملة المُعْتَرِضَةٌ إنَّما تُفِيدُ تَوْكيداً وتَسْديداً، وهذه مفيدةٌ حُكْماً جَدِيداً كما تقدم.
وقوله: «أنْ تَعْتَدُوا» قَدْ تقدم أنَّه مِنْ مُتعلقاتِ ﴿وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ﴾ على أنَّه مَفْعُولٌ ثانٍ، أوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الجر، فمَنْ كَسَرَ ﴿إنْ صَدُّوكُمْ﴾ يكُون الشرطُ وجوابُه المقدَّرُ في مَحَلِّ جرٍّ صِفَةً ل «قَوْم» ، أيْ: شَنَآنُ قَوْمٍ هذه صِفَتُهُم ومَنْ فتحها فمحلُّها الجَرُّ والنَّصْبُ، لأنَّها على حَذْفِ لامِ الْعِلَّةِ كما تقدم.
قال الزَّمخْشَرِيُّ: والمعنى: ولا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغضُ قَوْمٍ؛ لأنَّ صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه.
قال أبو حيّان: وهذا تفسيرُ مَعْنًى لا تفسير إعْراب؛ لأنّه يمتنعُ أنْ يكون مدلولُ «جرم» حمل وكسب في استعمالٍ واحدٍ لاختلاف مُقتضاهما، فَيَمْتَنِعُ أنْ يكُون [أنْ تَعْتَدوُا] في مَحَلِّ مفعول به، ومحلُّ مفعولٍ على إسْقاطِ حَرْف الجر.
قال شهابُ الدِّين: هذا الذي قاله لا يتصَوَّرُ أنْ يتوهمه من له أدْنَى بَصَرٍ بالصِّنَاعةِ حتى ينبِّهَ عليه.
وقد تقدم قراءةُ البَزِّي في نحو: «ولا تَعاوَنُوا» وأنَّ الأصَل: [ «تتعاونوا» فأدغم] وحذف الباقون إحْدَى التاءيَنْ عند قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث﴾ [البقرة: 267] .
قوله عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى﴾ أيْ: ليعن بعضُكم بَعْضاً على البر والتقوى.
قِيلَ: البِرُّ: متابعةُ الأمْرِ، والتَّقْوَى مُجانَبَةُ النَّهْيِ.
وقيل: البرُّ: الإسلامُ، والتقوى: السُّنةُ.
﴿وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان﴾ .
قيل الإثُم: الكفرُ، والعُدْوانُ: الظلمُ. وقيل: الإثمُ: المعصيةُ والعُدوان: البِدْعَةُ.
وقال النَّواسُ بْنُ سَمْعان الأنْصَارِيّ: «سُئِلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن البر والإثْمِ، فقال:» البرُّ حُسْنُ الخلقِ، والإثمُ ما حَاكَ في [صَدْرِك] ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليه الناسُ» ، ثم قال تعالى: ﴿واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ﴾ ، والمرادُ منه التهديدُ والوعيدُ.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُحِلُّوا۟ شَعَـٰۤىِٕرَ ٱللَّهِ وَلَا ٱلشَّهۡرَ ٱلۡحَرَامَ وَلَا ٱلۡهَدۡیَ وَلَا ٱلۡقَلَـٰۤىِٕدَ وَلَاۤ ءَاۤمِّینَ ٱلۡبَیۡتَ ٱلۡحَرَامَ یَبۡتَغُونَ فَضۡلࣰا مِّن رَّبِّهِمۡ وَرِضۡوَ ٰنࣰاۚ وَإِذَا حَلَلۡتُمۡ فَٱصۡطَادُوا۟ۚ وَلَا یَجۡرِمَنَّكُمۡ شَنَـَٔانُ قَوۡمٍ أَن صَدُّوكُمۡ عَنِ ٱلۡمَسۡجِدِ ٱلۡحَرَامِ أَن تَعۡتَدُوا۟ۘ وَتَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰۖ وَلَا تَعَاوَنُوا۟ عَلَى ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡعُدۡوَ ٰنِۚ وَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِیدُ ٱلۡعِقَابِ"}