الباحث القرآني

قوله: «أُلَئِكَ» مبتدأ، والموصول خبره والتقدير: أولئك المفسدون يدل عليه ما تقدم. وقوله: «فَأَصَمَّهُمْ» ولم يقل: «فَأَصَّم آذَانَهُمْ» و «أَعْمَى أَبْصَارَهُمْ» ولم يقل أعمارهم، قيلأ: لأنه لا يلزم من ذهاب الإذن ذهاب السمع فلم يتعرض لها، والأبصار وهي الأعين يلزم من ذهابها ذهاب الإبْصار ولا يرد عليك قوله: ﴿وفي آذَانِهِمْ وَقْراً﴾ ونحوه [الأنعام: 25] و [الإسراء: 46] و [الكهف: 57] لأنه دون الصَّمَم والصَّممُ أعظم منه فقال: أصمهم من غير ذكر الأذن، وقال: «أعْمَى أبْصَارَهُمْ» مع ذكر العين؛ لأن البَصَرَ ههنا بمعنى العين ولهذا جمعه بالأبْصار ولو كان مصدراً لما جمع، فلم يذكر الأذن؛ إذْ لاَ مَدْخَلَ لها في الإصمام وذكر العين، لأن لها مدخلاً في الرُّؤية، بل هي الكل بدليل أنه الآفة في غير هذا الموضع لما أضافها إلى الأذن سماها وقراً فقال تعالى حاكياً عنهم: ﴿وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ﴾ [فصلت: 5] والوَقْر دون الصَّمَم. فصل ﴿أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله﴾ إشارة إلى من سبق ذكرهم من المنافقين، أبعدهم الله عنه أةو عن الخبر الخير فأصمهم لا يسمعون الكلام المبين وأعمى أبصارهم عن الحق. قوله: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن﴾ فيه سؤال وهو أنه تعالى قال: فأصمهم وأعمى أبصارهم فيكف يمكنهم التدبر في القرآن وهو كقول القائل الأعمى أَبْصِر وللأصمّ أسْمَعْ؟! . فالجواب من ثلاثة أوجه مترتبة بعضها أحسن من بعض: الأول: تكليفه ما لا يطاق جائز والله أمر من علم منه أنه لايؤمن بأن يؤمن فلذلك جاز أين يُصِمَّهم ويعميهم ويذمَّهم على ترك التدبر. الثاني: أن قوله: ﴿أفلا يتدبرون القرآن﴾ المراد منه الناس. الثالث: أن يقال: هذه الآية وردت محققة لمعنى الآية المقتدمة كأنه تعالى قال: ﴿أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله﴾ أي أبعدهم عنه أو عن الصدق أو الخير أو غير ذلك من الأمور الحسنة فأصمهم لا يسمعون حقيقة الكلام وأعماهم لا يتبعون طريقة الإسلام، فإِذَنْ هم بين أمرين إما لا يتدبرون القرآن فيبعدون منه، لأن الله لعنهم وأبعدهم عن الخير والصدق والقرآن منهما هو الصّف الأعلى بل النوع الأشرف وإما يتدبرون لكن لا تدخل معانيه في قلوبهم لكونها مُقْفَلَةً تقديره: أفلا يتبدون القرآن لكونهم ملعونين مُبْعَدِينَ ﴿أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ﴾ فيتدبرون ولا يفهمون؛ وعلى هذا لا يحتاج إلى أن يقول: أم بمعنى «بل» بل هي على حقيقتها للاستفهام واقعة والهمزة أخذت مكانها وهو الصدر. وقيلأ: أم بمعنى بل. والمعنى بل على قلوب أقفالها فلا تفهم مواعظ القرآن وأحكامه روى هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عن أبيه قال: «تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفلا يتبدرون القرآن أم على قلوب أقفالها فقال شباٌّ من أهل اليمن بل على قولب أقفالها حتى يكون الله يفتحها أو يفرجها، فما زال الشاب في نفس عُمَرَ حتى وَلِيَ فاستعان به» . قوله: ﴿أَمْ على قُلُوبٍ﴾ أم منقطعة وتقدم الكلام على «أم» منقطعة. وقرأ العامة: « أقْفَالُها» بالجمع على أَفْعَالٍ. وقرىء أَقْفُلُهَا (بالجمع) على أفْعل. وقرىء إِقْفَالُهَا بكسر الهمزة مصدراً كالإقبال. وهذا الكلام استعارة بليغة قيل: ذلك عبارة عن عدم وصول الحق إليها. فإن قيل: ما الفائدة في تنكير القلوب؟ . فقال الزمخشري: يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون للتنبيه على كون موصوفاً لأن النكرة بالوصف أولى من المعرفة فكأنه قال: أمْ عَلَى قُلُوبٍ قاسيةٍ أو مظلمةٍ. الثاني: أن تكون للتبعيض كأنه قال: أم على نفس القلوب؛ لأن النكرة لا تَعُمُّ، تقول: جاءني رجالٌ فيُفْهَمُ البعض وجاءني الرجال فيُفْهَم الكل. والتنكير في القلوب للتنبيه على الإنكار الذي في القلوب وذلك لأن القلب إذا كان عارفاً كان معروفاً، لأن القلب خلق للمعرفة فإذا لم يكن فيه المعرفة فكأنه لا يعرف قلباً، فلا يكون قلباً يعرف، كما يقال للإنسان المؤذي: هذا ليس بإنسان فكذلك يقال: هذا ليس بقلبٍ هذا حجر. وإذا علم هذا فالتعريف إما بالألف واللام وإما بالإضافة بأن يقال: على قلوبهم أقفالها أو هي لنعدم عَوْد فائدة إليهم كأنها ليست لهم. فِإن قيل: قد قال تعالى: ﴿خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ﴾ [البقرة: 7] وقال: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ﴾ [الزمر: 22] . فالجواب: الإقفال أبلغ من الختم، فترك الإضافة لعدم انتفاعهم رأساً. فإن قيل: ما الحكمة في قوله: «أقْفَالُهَا» بالإضافة ولم يقل: أقفال كما قال: قُلُوبٍ؟ . فالجواب: لأن الأقفال كأنها ليست إلا لها ولم تضف القلوب إليهم لعدم نفعها إياهم وإضافة الأقْفال إليها لكونها مناسبةً لها. أو يقال: أراد به أقفالاً مخصوصة هي أقفال الكُفْر والعِنَادِ. قوله: ﴿إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ﴾ رجَعُوا كفاراً ﴿مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى﴾ قال قتادة: هم كفار أهل الكتاب كفروا بمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعدما عرفوه ووجدوا نعتَه في كتابهم. وقال ابن عباس والضحاك والسدي: هم المنافقون. قوله: ﴿الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ﴾ أي زين لهم القبيحَ. وهذه الجملة خبر: ﴿إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ﴾ وتقدم الكلام على سَوَّلَ معنًى واشتقاقاً. وقال الزمخشري هنا: وقد اشتقه من السَّؤلِ من لا عِلْمَ له بالتصريفِ والاشتقاق جميعاً. قال شهاب الدين: كأنه يشير إلى ما قاله ابْنُ بَحْر من أن المعنى أعطاهم سُؤْلَهُمْ. ووجه الغلط فيه أن مادة السّول من السؤال بالهمز ومادة هذا بالواو فافْتَرَقَا، فلو كان على ما قيل لقيل سأَّل بتشديد الهمزة لا بالواو. وفيما قال الزمخشري نظر؛ لأن السؤال له مادتان سأل بالهمزة وسال بالألف المنقلبة من واو. وعليه قراءة: «سَالَ سَائِلٌ» وقوله: 4479 - سَأَلَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللهِ فَاحِشَةً ... ضَلَّتُ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ وقد تقدم هذا في البقرة مستوفًى. قوله: ﴿وأملى لَهُمْ﴾ العامة على أملي مبنياً للفاعل وهو ضمير الشيطان. وقيل: هو للباري تَعَالى. قال أبو البقاء: على الأول: يكون معطوفاً على الخبر. وعلى الثاني: يكون مستأنفاً. ولا يلزم ماقاله بل هو معطوف على الخبر في كلا التقديرين أخبر عنهم بهَذَا وبهَذَا. وقرأ أبو عمرو في آخرين أُمْلِيَ مبنياً للمفعول. والقائم مقام الفاعل الجار. وقيل: القائم مقامه ضمير الشيطان ذكره أبو البقاء. وقرأ يعقوبُ وسلاَّمٌ ومجاهد وأُمْلِي بضم الهمزة وكسر اللام وسكون الياء فاحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مضارعاً مسنداً لضمير المتكلم أي وأملي أنا لهم، وأن يكون ماضياً كقراءة أبي عمرو سكنت ياؤه تخفيفاً وقد مضى منه جملة. فصل قال المفسرون: سَوَّلَ لَهُمْ سَهَّل لهم. وأَمْلَى لهم أي مد لهم فِي الأمل يعني قالوا: نعيش أياماً ثم نؤمن به وهو معنى قوله: ﴿وأملى لَهُمْ﴾ . فإن قبل: الإِملاء والإِمهال وَحَدُّ الآجال لا يكون إِلا من الله فكيف يصح قراءة من قرأ: وأملى لهم فإن المملي حينئذ هو الشيطان؟ . قال الخطيب: فالجواب من وجهين: أحدهما: هو أن المسوِّل أيضاً ليس هو الشيطان وإنما إسند إليه من حيث إن الله قد ر على يده ولسانه ذلك، فكذلك الشيطان يمسهم ويقول لهم: في آجالكم فَسْحَةٌ فتمتعوا برئاستكم ثم في آخر العمل تؤمنون. قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ﴾ يعني المنافقين أو اليهود قالوا: ﴿لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله﴾ وهم المشركون أي ذلك الإملاء لا يسبب قولهم الذين كرهوا. قال الواحدي. وقيل: ذلك إشارة إلى التسويل. ويحتمل أن يقال: ذلك إشارة للارتداد بسبب قولهم: سنطيعكم قاله ابن الخطيب. قال: لأنا نبين أن قوله: «سنطيعكم ف يبعض الأمور» هو أنه قالوا نوافقكم على أن محمداً ليس بمرسل وإنما هو كذاب ولكن لا نوافقكم على إِنكار الرسالة والحشر والإشراك بالله من الأصنام ومن لم يؤمن بمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو كافر وإن آمن بغيره. لا بل نؤمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولا نؤمن بالله ولا برسله ولا بالحشر، لأن الله تعالى كما أخبر عن الحشر وهو جائز أخبر عن نبوّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهِيَ جائزة. وقال المفسرون: إِن اليهود والمنافقين قالوا للذين كرهوا ما نزل الله وهم المشركون سنطيعكم في بعض الأمور في التعاون على عداوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقعود عن الجهاد. وكانوا يقولونه سراً فقال الله تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ . وقوله: «إسْرَارَهُمْ» قرأ الأخوان وحفص بكسر الهمزة مصدراً. والباقون بفتحها جمع سِرّ. قوله: «فكيف» إما خبر مقدم، أي فيكف عمله بأسرارهم إذا توفتهم الملائكة. وإما منصوب بفعل محذوف أي فكيف تصنعون وإما خبر «لكان» مقدرة أي فكيف يكونُون؟ والظرف معمول لذلك المقدر وقرأ الأعمش: «تَوَفَّاهُمْ» دون تاء، فاحتملت وجهين: أن يكون ماضياً كالعامة، وأن يكون مضارعاً حُذفت إحدى تائيه. قوله: «يَضْرِبُون» حال إما من الفاعل وهو الأظهر أو من المعفول. فصل قال ابن الخطيب: الأظهر أن قوله: ﴿والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ أي ما في قلوبهم من العلم بصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنهم كانوا مكابرين معاندين وكانوا يعرفون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يعرفون أبناءهم ويؤيده القراءة بكسر الهمزة فإنهم كانوا يُسِرُّونَ نبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإن قلنا: المراد من الذين ارتدّوا هم المنافقون فكانوا يقولون للجاحدين من الكفار سنطيعكم في بعض الأمور كانوا يرون أنهم إن غلبوا انقلبوا كما قال الله: ﴿وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ [العنكبوت: 10] وقال تعالى: ﴿فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ﴾ [الأحزاب: 19] . وقوله: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ﴾ كأنه تعالى قال: هَبْ أنهم يسرون والله لا يظهره اليوم فكيف يبقى مخفياً وقت وفاتهم؟ ﴿أو نقول: لما قال الله تعالى: والله يعلم إسرارهم أنهم يختارون القتال لما فيه من الضرب والطعن مع أنه مفيد على الوجهين جميعاً إن غَلبوا في الحال والثواب في المآل، وإن غُلبوا فالشهادة والسعادة، فكيف حالهم إذا ضرب وجوههم وأدبارهم؟﴾ . وعلى هذا فيه لطيفة وهي أن القتال في الحال إن أقدم المبارز قد يهزم الخَصْم ويسلم وجهه وَقَفاهُ وإن لم يهزمه فالضرب على وجهه إن ثَبَتَ وصَبَرَ وإن يثبت وانهزم فإنه فاته بالهرب فقد سلم وجهه وقفَاه وإن لم يفته فالضرب على فقاه لا غير ويوم الوفاة لا نُصْرة له ولا مفرّ، فوجهه وظهره مضروب مطعون فيكف يحترز عن الأذى ويختار العذاب الأكبر؟ ّ. قوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله﴾ أي ذلك الضرب بأنه اتبعوا ما أسخط الله. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) بما كتموا التوراة وكفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكرهوا ما فيه رضوان الله وهو الطاعة والإيمان. وقيل: المراد بما أسخط الله الكفر لأن الإيمان يرضيه لقوله تعالى: ﴿إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنكُمْ وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ﴾ [الزمر: 7] . وقيل: بما أسخط الله هو تسويل الشيطان. فإن قيل: هم ما كانوا يكرهون رضوان الله بل كانوا يقولون: إن الذي هم عليه رضوان الله ولا نطلب به إلا رضى الله وكيف (لا) والمشركون بإشراكهم كانوا يقولون إنا نطلب رضى الله كما قالوا: ﴿لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى﴾ [الزمر: 3] وقالوا: ﴿فَيَشْفَعُواْ لَنَآ﴾ [الأعراف: 53] . فالجواب: معناه كرهوا ما فيه رضى الله. وفيه قوله: ﴿مَآ أَسْخَطَ الله﴾ ولم يقل: «ما أرضى الله» لطيفة وهي أن رحمة الله سابقة، فله رحمة ثانية وهي منشأ الرضوان وغضب الله متأخر، فهو يكون على ذبن، فقال «رضوانه» لأنه من وصف ثابت لله سابق. ولم يقل «سَخِطَ الله» بل قال «أَسْخَطَ» إشارة إلى أن السخط ليس ثبوته كثبوت الرضوان ولهذا المعنى قال في اللَّعَان في حق المرأة: ﴿والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين﴾ [النور: 9] يقال: غضب الله مضافاً لأن لعانه قد سبق فظهر الزنا بقوله وإيمانه وقبله لم يكن غضب فرضوان الله أمر يكون منه الفعل وغضب الله أمر يكون من فعله. قوله: «فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمَالَهُمْ» حيث لم يطلبوا رضا الله وإنما طلبوا رِضَا الشيطان والأصنام. قوله: ﴿أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ﴾ يعني المنافقين و «أم» تستدعي جملة أخرى استفهامية يقال: أَزيدٌ فِي الدَّارِ أَمْ عَمْرٌو وإذا كانت منقطعة لا تستدعي ذلك؛ يقال: إنَّ هذا لزيدٍ أم عمرو وكما يقال: بل عمرو. والمفسرون على أنها مقطعة. ويحتمل أن يقال: إنها استفهامية والسابق مفهوم من قوله تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ﴾ . وكأنه تعالى قال: (أم) حسب الذين كفروا وأن لم يعلم الله إسرارهم أم حسب المنافقون أن لن يظهرها. والكل فاسد فإنما يعلمها ويظهرها. قوله: ﴿أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ﴾ الإخراد بمعنى الإظهار، أي لن يظهر أحقادهم و «أن» هذه مخففة. و «لن» وما بعدها خبرها واسمها ضمير الشأن. والأَضْغَانُ جمع ضغْنٍ وهي الأَحْقَادُ والضَّغِينَةُ كذلك. قال (رَحِمَهُ اللَّهُ) : 4480 - وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الوُدَّ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إِسَاءَتِهِ مُقِيتَا وقال عمرو بن كلثوم: 4481 - وَإِنَّ الضِّغْنَ بَعْدَ الضَّغْنِ يَعْسُو ... عَلَيْكَ وَيُخْرِجُ الدَّاءَ الدَّفِينَا وقيلأ: الضغن العداوة وأنشد: 4482 - قُلْ لابْنِ هِنْدٍ مَا أَرَدْتَ بِمَنْطِقٍ ... سَاءَ الصَّدِيقَ وَشَيَّدَ الأَضْغَانَا يقال: ضَغِنَ بالكسر يَضْغَنُ بالفتح وقد ضَغِنتَ عليه وأضْغَنَ القَوْمُ وتَضَاغَنُوا. وأصل المادة من الألتواء في قوائم الدّابة والقناة، قال (رَحْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ) : 4483 - إنَّ قَنَاتِي مِنْ صَليباتِ القَنَا ... مَا زَادَهَا التَّثْقِيفُ إِلاَّ ضَغَنَا وقال آخر: 4484 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... كَذَاتِ الضَّغْنِ تَمْشِي فِي الرِّقَاقِ والاضطغَانُ الاحتواء على الشيء أيضاً ومنه قولهم: اضطَغَنْتُ الصَّبِيَّ إِذَا احتضنته وأنشد: 4485 - كَأَنَّه مُضْطَغِنٌ صَبِيًّا ... وقال الآخر: 4486 - وما اضطَغَنْتُ سِلاَحِي عِنْدَ مَعْرَكِهَا..... ... ... ... ... ... ... ... ... . وفرسٌ ضَاغِنٌ لا يجري إِلاَّ بالضَّرْبِ. فصل قال المفسون: أضغانهم أحقادهم على المؤمنين فيُبْدِيها حتى تعرفوا نفاقهم. وقال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) أضغانهم حَسَدَهُمْ. قوله: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ﴾ من رؤية البصر؛ وجاء على الأفصح من اتصال الضميرين ولو جاء على أرينك إياهم جاز. وقال ابن الخطيب: الإرَاءَةُ هنا بمعنى التعريف. قوله: «فَلَعَرَفْتَهُمْ» عطف على جواب «لو» وقوله: «وَلَتَعْرفنَّهُمْ» جواب قسم محذوف. قال المفسرون: معنى الكلام: لأريناكهم أي لأعلمناكهم وعَرَّفْنَاكَهُمْ فَلَتَعْرِفَنَّهُمْ بِسِيماهُمْ: بعلامتهم. قال الزجاج: المعنى لو نشاء لجعلنا على المنافقين علامة تعرفهم بها. قال «أنس» : فأخفي على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد نزول هذه الآية شيء من المنافقين كان يعرفهم بسيماهم. قوله: ﴿وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول﴾ أي في معناه ومقصده. واللحن يقال باعتبارين: أحدهما: الكناية بالكلام حتى لا يفهمه غير مخاطبك. ومنه قول القَتَّال الكِلاَبي (رَحِمَهُ اللَّهُ) في حكاية له: 4487 - وَلَقَدْ وَحَيْتُ لكيْمَا تَفَهْمُوا ... وَلَحَنْتُ لَحْناً لَيْسَ بِالْمُرْتَابِ وقال آخر: 4488 - وَمَنْطِقٌ صَائِبٌ وَتَلْحَن أحْيَاناً ... وَخَيْرُ الْحَدِيثِ مَا كَانَ لَحْنَا واللَّحْنُ: صرف الكلام من الإعراب إلى الخطأ. وقيل يجمعه هو والأول صرف الكلام عن وجهه. يقال من الأول: لَحَنْتُ بفتح الحاء أَلْحَنُ له فَأَنَا لاَجِنٌ. وأَلْحَنْتُ الكَلاَمَ أَفْهَمْتُهُ إياه فَلحِنَهُ بالكسر أي فهمه فهو لاحن. ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» . ويقال من الثاني: لَحِنَ بالكسر إذا لم يُعْرب لهو لَحِنٌ. فصل معنى الآية أنك تعرفهم فيما يُعَرّضون به من تهجين أمرك وأمر المسلمين والاستهزاء بهم، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا عَرَفَهُ بقوله ويستدل بفحوى كلامه على فساد دَخْلَتِهِ. قال ابن الخطيب: معنى الآية لن يُخْرِجَ الله أضغانهم أي يُظْهِرَ ضمائرهم ويُبْرِزَ سرائرهم، وكأن قائلاً قال: فِلمَ لَمْ يُظْهر؟ فقال: أخرناه لمحْض المشيئة لا لخوف منهم ولو نشاء لأريناكم أي لا مانع لنا والإراءة بمعنى التعريف. وقوله: «فَلَعَرفتهُمْ» لزيادة فائدة وهي أن التعريف قد يطلق ولا يلزم منه المعرفة يقال: عَرَّفْتُهُ ولَمْ يَعْرِف وفَهَّمْتُهُ ولَمْ يَفْهَمْ فقال ههنا: فَلَعَرَفْتَهُمْ يعني عَرَّفْنَاهُمْ تَعْرِيفاً تعرفهم به إشارة إلى قوة التعريف. واللام في قوله: «فلعرفتهم» هي التي تقع في خبر «لو» كما في قوله: «لأَرَيْنَاكَهُمْ» أدخلت على المعرفة إشارة إلى المعرفة المرتبة على المشيئة كأنه قال: ولو نشاء لعرفتهم لتفهم أنَّ المعرفة غير متأخرة عن التعريف فتفيد تأكيد التعريف أي لو نشاء لعرفنانك تعريفاً معه المعرفة لا بعده. وقوله: ﴿فِي لَحْنِ القول﴾ أي في معنى القول حيث يقولون ما معناه النفاق، كقولهم حين مجيء النصر: ﴿إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ﴾ [العنكبوت: 10] وقولهم: ﴿لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة﴾ [المنافقون: 8] وقولهم: ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ [الأحزاب: 13] ويحتمل أن يكون المراد قولهم ما لم فأمالوا كلامهم كما قالوا: ﴿نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُون﴾ [المنافقون: 1] . ويحتمل أن يكون المراد من لَحْنِ القَوْل هو الوجه الخفي من القول الذي يفهمه النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولا يفهمه (غيره. فالنبي عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعرف) المنافقين ولم يظهر أمرهم، لى أن أذن الله له في إظهار أمرهم، ومنع من الصلاة على جنائزهم، والقيام على قبورهم. «بِسيماهُمْ» الظاهر أن المراد أنه تعالى لو شاء لجعل على وجوههم علامة أو يسمخهم كما قال: ﴿وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ﴾ [يس: 67] . وروي أن جماعة منهم أصبحوا وعلى جباههم مكتوب هذا منافقٌ ثم قال تعالى: ﴿والله يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ﴾ وهذا وعد للمؤمنين وبيان لكون حالهم بخلاف حال المنافقين. قوله: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ ... وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ قرأ أبو بكر الثلاثة بالياء من أسفل يعني الله تعالى. والأعمش كذلك وتسكين الواو (والباقون بنون العظمة. ورُوَيْسٌ كذلك وتسكين الواو والظاهر قطعة عن الأوّل في قراءة تسكين الواو) ويجوز أن يكون سكن الواو تخفيفاً كقراءة الحسن: ﴿أَوْ يَعْفُوَاْ الذي﴾ [البقرة: 237] بسكون الواو. فصل المعنى: لنُعَامِلَنَّكُمْ معالمة المختبر بأن نأمركم بالجهاد والقتال ﴿حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين﴾ أي علم الوجود والمشاهدة فإن تعالى قد علمه علم الغيب يريد نبين المجاهد الصابر على دينه من غيره وقوله: ﴿وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ أي يظهرها ويكشفها بإباء من يأبى القتال ولا يَصْبِرُ على الجهاد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب