الباحث القرآني

لما ذَكَر -[تعالى]- ثواب من أقْدَم على الجِهَاد، أتْبَعَه بِعِقَاب من قَعَدَ عَنْهُ ورضي بالسُّكُون في دَارِ الحَرْبِ. قوله: «توفَّاهم» يجوز أن يكون مَاضِِياً، وإنما لم تَلْحَق علامة التَّأنيث للفعل؛ لأن التأنيث مَجَازِيّ؛ ويدلُّ على كونه فعلاً مَاضِياً قِرَاءَةُ «تَوَفتهُم» بتاء التأنيث. قال الفرَّاء: ويكون مثل قوله: ﴿إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا﴾ [البقرة: 70] فيكون إخْبَاراً عن حَالِ أقْوَام معيَّنين، انْقَرَضُوا ومضوا ويجوز أن يَكُون مُضَارعاً حُذِفَتْ إحدى التَّاءَيْن تَخفيفاً والأصل: تتوَفَّاهُم، وعلى هذا تكُون الآيةُ عامَّة في حقِّ كلِّ من كان بهذه الصِّفَة. و «ظَالِمي» حالٌ من ضَمِير «تَوَفَّاهُم» والإضَافة غير محضة؛ إذ الأصْل ظَالِمين أنفسُهِم؛ إلا أنَّهم لما حَذَفُوا [النُّون] طلباً للخَفة، واسْم الفَاعِل سواء أُرِيد به الحَالُ أو الاستِقْبَال، فقد يكُون مفصُولاً في المَعْنَى وإن كان مَوْصُولاً في اللَّفْظِ؛ فهو كقوله - تعالى -: ﴿هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا﴾ [الأحقاف: 24] ، و ﴿هَدْياً بَالِغَ الكعبة﴾ [المائدة: 95] ، ﴿ثَانِيَ عِطْفِهِ﴾ [الحج: 9] والتقدير: مُمْطِر لَنَا وبَالِغاً للكَعْبَةِ وثانِياً عِطْفه، والإضافة في هَذِهِ المَوَاضِع لَفْظِيَّة لا مَعْنَوِيَّة. وفي خبر «إنَّ» هذه ثلاثة أوْجُه: أحدها: أنه مَحْذُوفٌ، تقديُره: إنَّ الذين توفَّاهُم الملائكةُ هَلَكُوا، ويكون قوله: «قالوا: فيم كنتم» مبيِّناً لتلك الجُمْلَةِ المَحْذُوفة. الثاني: أنه «فأولئك مأواهم جهنم» ودخلت الفَاءُ زائدة في الخَبَر؛ تشبيهاً للموصُول باسم الشَّرْط، ولم تمنع «إنَّ» من ذَلِكَ، والأخْفَش يَمْنَعُه، وعلى هذا فَيَكُون قوله: «قالوا: فيم كنتم» إمَّا صفةً ل «ظَالِمِي» ، أو حالاً للملائكة، و «قد» مَعَه مقدَّرَةٌ عند مَنْ يشتَرِط ذلك، وعلى القول بالصِّفَة، فالعَائِد محذوف، أي: ظالمين أنْفُسَهم قَائِلاً لهم المَلاَئِكَة. والثالث: أنه «قالوا فيم كنتم» ، ولا بد من تَقْدِيرِ العَائِد أيْضاً، أي: قالوا لَهُم كذا، و «فيم» خَبَرَ «كُنْتُم» ، وهي «ما» الاستِفْهَامِيَّة حُذِفَت ألِفُها حين جُرَّتْ، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك عند قوله: ﴿فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله﴾ [البقرة: 91] ، والجُملة من قوله: «فيم كنتم» في مَحَلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ، و «في الأرض» متعلقٌ ب «مُسْتَضْعَفِين» ، ولا يجوز أن يكُون «في الأرْضِ» هو الخَبَر، و «مُسْتَضْعَفِين» حالاً، كما يَجُوز ذلك في نَحْو: «كان زيدٌ قائَماً في الدَّارِ» لعدمِ الفَائدة في هذا الخَبَر. * فصل في معنى التَّوَفِّي في هذا التَّوفِّي قولان: الأول: قول الجُمْهُور، معناه تُقْبَض أرْوَاحهم عند الموْتِ. فإن قيل: كيف الجَمْع بَيْنَه وبين قوله - تعالى -: ﴿الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا﴾ [الزمر: 42] ، ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ﴾ [البقرة: 28] وبين قوله ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11] . فالجواب: خالق الموت هو الله - تعالى -، والمُفَوَّض إليه هذا العمل هو مَلك المَوْت وسَائِر الملائكة أعْوانه. الثاني: توفَّاهم الملائِكة، يعني: يَحْشُرونهم إلى النَّار، قاله الحَسَن. فصل الظُّلْم قد يُراد به الكُفْر؛ كقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] ، وقد يرادُ به المَعْصِيَة؛ كقوله: ﴿فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ﴾ [فاطر: 32] ، وفي المراد بالظُّلْمِ هَهُنَا قَوْلان: الأول: قال بَعْضُ المُفَسِّرين: نزلت في نًاسٍ من أهْلِ مَكَّة، تكلَّمُوا بالإسْلام ولم يُهَاجِرُوا منهم: قَيْس بن الفاكه بن المُغيرَة، وقَيْس بن الوَليد وأشْبَاهُهُمَا، فلما خَرَج المُشْرِكُون إلى بَدْر، خرجوا مَعَهُم، فقاتَلُوا مع الكُفَّار وعلى هذا أراد بِظُلْمِهِم أنْفُسَهُم: إقامَتَهُم في دَارِ الكُفْرِ، وقوله - تعالى -: ﴿إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملاائكة﴾ أي: ملك المَوْتِ وأعْوَانِهِ، أو أراد مَلَك المَوْتِ وَحْدَه؛ لقوله - تعالى -: ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ [السجدة: 11] والعَرَبُ قد تُخَاطِب الوَاحِد بلَفْظ الجَمْع. الثاني: أنها نَزَلَت في قَوْم من المُنَافِقِين، كانوا يُظْهِرُون الإيمان للمُؤمِنِين خوفاً، فإذا رَجَعُوا إلى قَوْمِهِم، أظْهَرُوا لهم الكُفْر، ولا يُهَاجِرُون إلى المَدِينَةِ. وقوله: «قالوا فيم كنتم» من أمْرِ دينكُم، وقيل: فيم كُنْتُم من حَرْب أعْدَائه، وقيل: لما تركتم الجِهَادَ ورَضِيتُم بالسُّكُون دَارِ الكُفَّار؛ لأن الله - تعالى - لم يَكُن يَقْبَل الإسلام بعد هِجْرَةَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا بالهِجْرَة، ثم نَسَخَ ذلك بَعْدَ فَتْحِ مكَّة بقوله «لا هِجْرَة بَعْدَ الفَتْح» وهؤلاء قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وضربَتَ الملائكةُ وجوهَهم وأدْبَارَهُم، وقَالُوا لهم: فيم كُنْتُم؟ [ «قالوا كُنَّا» ] أي: في ماذا كُنْتُم أو في أيِّ الفَرِيقَيِن كنتم؟ أفي المُسْلِمين أو في المُشْرِكِين؟ سُؤال توبيخ وتَقْرِيع، فاعتذروا بالضَّعْف عن مُقَاوَمَة المُشْرِكِين، «وقالوا كنا مستضعفين» عَاجِزين، «في الأرْضِ» يعني «أرْض مَكَّة. فإن قيل: كان حَقُّ الجَوَاب أن يَقُولوا: كنا في كَذَا وكذا، ولم نكُنْ في شَيْء. فالجَوَاب: أن مَعْنَى» فِيمَ كُنْتُم» : التَّوْبِيخ، بأنهم لم يَكُونُوا في شَيْءٍ من الدِّين، حَيْثُ قَدَرُوا على المُهَاجَرَة ولم يُهَاجِرُوا فقالوا: كُنَّا مستَضْعَفِين اعْتِذاراً عمَّا وبَّخُوا بِه، واعتِلالاً بأنَّهم ما كَانُوا قادِرِينِ على المُهَاجَرة، ثم إنّ المَلاَئِكَة لم يَقْبَلُوا منهم هذا العُذْر؛ بل ردُّوه عَلَيْهِم، فقالوا: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾ يعني أنكم كنتم قادرين على الخُرُوجِ من مَكَّة إلى بَعْضِ البِلاَدِ التي لا تُمْنَعُون فيها من إظْهَار دِينكُم، فبقيتم بين الكُفَّار لا للعجز عن مُفَارَقَتِهِم، بل مع القُدْرَة على المُفَارَقَة. فصل وقد ورد لَفْظُ الأرْض على ثَمَانِية أوْجُه: الأول: الأرض المَعْرُوفة. الثاني: أرْضُ المَدِينة، قال الله - تعالى -: ﴿أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا﴾ . الثالث: أرض مَكَّة؛ قال - تعالى -[ ﴿قَالُواْ] كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض﴾ أي: بمكة. الرابع: أرْض مِصْر؛ قال - تعالى - ﴿فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض﴾ [الإسراء: 103] . الخامس: أرض الجَنَّة؛ قال تعالى ﴿وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ﴾ [الزمر: 74] . السادس: بُطُون النِّساء؛ قال - تعالى -: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا﴾ [الأحزاب: 27] يعني: النساء. السابع: الرحمة؛ قال - تعالى -: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ﴾ [الزمر: 10] ، وقوله - تعالى -: ﴿ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ [العنكبوت: 56] أي رحْمَتِي. الثامن: القَلْب؛ قال - تعالى -: ﴿اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [الحديد: 17] ، أي: يحيى القُلُوب بعد قَسْوَتِها. قوله: «فتُهاجِرُوا» مَنْصُوبٌ في جَوَابِ الاسْتِفْهَام. وقال أبو الببَقَاء: «ألَمْ تَكُنْ» استِفْهام بمعنى التَّوْبِيخ، «فتُهَاجِرُوا» مَنْصُوبٌ على جواب الاستفهام؛ لأنَّ النَّفْي صار إثْبَاتاً بالاستفهَام» . انتهى. قوله: «لأنَّ النَّفْي» إلى آخره لا يَظْهَر تَعْلِيلاً لقوله: «مَنْصُوبٌ على جواب الاستِفْهَام» ؛ لأن ذلك لا يَصِحُّ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه عِلّةً لقوله: «بمَعْنَى التَّوْبيخ» ، و [ «ساءت» ] : قد تَقَدَّم القول في «سَاء» ، وأنها تَجْرِي مَجْرى» بِئْس «فيُشْترط في فاعلها ما يُشْتَرَك فَاعِلِ تيك، و» مصيراً» : تَمْيِيز. وكما بَيَّن عَدَم عُذْرِهِم، ذكر وعيدَهُم، فقال: «فأولئك مأواهم جَهَنَّم، ثم استَثْنى فقال:» إلا المستضعفين» : في هذا الاستثناءِ قولان: أحدُهُما: أنه متصلٌ، والمسْتَثْنَى منه قوله: «فأولئك مأواهم جهنم» ، والضمير يعودُ على المُتوفِّيْن ظَالِمِي أنْفُسِهم، قال هذا القَائِل: كأنه قيل: فأولئك في جَهَنَّم إلا المُسْتَضْعَفين، فعلى هذَا يَكُون هذا استِثْنَاء مُتَّصلاً. والثاني - وهو الصَّحيح: - أنه مُنْقَطِعٌ؛ لأن الضَّمير في «مَأواهُم عائدٌ على قوله:» إن الذين توفاهم» ، وهؤلاء المُتوفَّوْن: إمَّا كُفَّارٌ أو عُصَاة بالتَّخَلُّف، على ما قال المفَسِّرون، [وهم] قادرون على الهِجْرَة، فلم يندرجْ فيهم المُسْتَضْعَفُون فكان مُنْقَطِعاً، و «مِنْ الرِّجَال» حالٌ من المُسْتَضْعَفِين، أو من الضَّمِير المستتر فيهم، فيتعلَّقُ بمَحْذُوف. قوله: «لا يستطيعون حيلة» في هذه الجُمْلَة أرْبَعة أوجه: أحدها: أنَّها مستأنفةٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: ما وَجْهُ استِضْعَافِهم؟ فقيل: كذا. والثاني: أنها حالٌ. قال أبو البَقَاء: «حالٌ مبينَّة عن مَعْنَى الاستِضْعَاف» ، قال شهاب الدين: كأنَّه يُشِير إلى المَعْنَى المتقدِّم في كونها جَوَاباً لسُؤال مُقَدِّر. الثالث: أنها مفسِّرةٌ لنفسِ المُسْتَضْعَفِين؛ لأنَّ وجوه الاستِضْعَاف كثيرة، فبيَّن بأحد مُحْتَمَلاته، كأنه قيل: إلا الذين استُضْعِفُوا بسبب عَجْزِهِم عن كذا وكذا. الرابع: أنها صِفَة للمُسْتَضْعَفِين أو للرِّجَال ومن بَعْدَهم، ذكره الزمخشري، وعبارة البيضاوي أنه صِفَة للمُسْتَضْعَفِين؛ إذ لا تَرْقِية فِيِهِ، أي: لا تعيُّن فيه، فكأنه نكِرةٌ، فَصَحَّ وَصْفُهُ بالجُمْلَة. انتهى ما ذكرنا. واعتذر عن وصف ما عُرِّف بالألف واللام بالجُمَل التي ي حُكم النَّكِرَات، بأن المُعَرَّف بِهِمَا لمَّا لم يكن مُعَيَّناً، جاز ذلك فيه، كقوله: [الكامل] 1867 - وَلَقَدْ أمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي..... ... ... ... ... ... ... وقد قَدَّمتُ تَقْرير المَسْألةِ. * فصل في معنى الآية المعنى: لا يقدرون على حِيلَةٍ ولا نَفَقَةٍ، إذا كان بِهِم مَرَضٌ، أو كانوا تَحْتَ قَهْر قَاهِرٍ يَمْنَعُهم من المُهَاجَرَة. وقوله: « [و] لا يهتدون سبيلاً» أي: لا يَعْرِفُونَ طريق الحقِّ، ولا يَجِدُون من يَدُلُهم على الطَّرِيق. قال مُجَاهد والسُّدِّي وغيرهما: المرادُ بالسَّبيل [هنا:] سبيل المَدِينَة. قال القُرْطُبِيّ: والصَّحِيح إنَّه عامٌّ في جَمِيع السُّبُل. روى أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بَعَثَ بهذه الآيَة [إلى] مسلمي مَكَّة، فقال جندب بن ضمرة لِبنيه: احْمِلُونِي فإني لَسْت من المُسْتَضْعَفِين، ولا أنِّي لا أهْتَدِي الطَّرِيق، والله لا أبيتُ اللَّيْلَة بمكّة، فحملُوه على سَرِير مُتَوجِّهاً [إلى] المدينة، وكان شيخاً كبيراً فَمَات في الطَّريق. فإن قيل: كيفَ أدْخَل الوِلْدَان في جملة المسْتَثْنين من أهْل الوَعِيد، فإن الاستِثْنَاء إنَّما يَحْسُن لو كانُوا مستحِقِّين للوَعِيد على بَعْضِ الوُجُوه. قلنا: سُقُوط الوعيدِ إذا كان بِسَبَبِ العَجْزِ، والعَجْزُ تارة يَحْصُل بسبَبِ عَدَمِ الأهْبَةِ، وتارةً [يًحْصُل] بسبَبِ الصِّبَا، فلا جرم حَسُن هذا الاستِثْنَاء، هذا إذَا أريد بالوِلْدَان الأطْفَال، ويجُوز أن يُرَاد المُرَاهِقُون منهم، الَّذيِن كَمُلَت عُقُولُهم، فتوجَّه التَّكْلِيف نَحْوَهُم فيما بَيْنَهُم [وبين الله] ، وإن أريد العَبِيدُ والإمَاءُ البَالِغُون، فلا سُؤال. قوله: «فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم» وفيه سُؤالان: أحدهما: أن القَوْمَ [لما] كانوا عَاجِزِين عن الهِجْرَة، والعَاجِز عن الشَّيْء غير مُكَلَّف له، وإذا لم يَكُن مُكَلَّفاً، لم يكن عَلَيْهِ في تَرْكِهِ عُقُوبَة، فلم قال: «عسى الله أن يعفو عنهم» والعفو لا يتصوَّر إلاَّ مع الذَّنْبِ، وأيضاً: «عَسَى» كلمة إطْمَاع، وهذا يَقْتَضِي عدم القَطْعِ بحُصُول العَفْوِ. فالجواب عن الأول: أن المُسْتَضْعَف قد يكُون قَادِراً على ذَلِكَ الشَّيْء مع ضرْبٍ من المَشَقَّة، وتمييز الضَّعْف الذي يَحْصُل عنده الرُّخْصة عند الحَدِّ الذي لا يَحْصُل عنده الرُّخْصَة شاقٌّ، فربما ظَنَّ الإنْسَان أنَّه عاجز عن المُهَاجَرة، ولا يكون كَذَلِكَ، ولا سِيَّمَا في الهِجْرَة عن الوَطَنِ؛ فإنها شَاقَّة على النَّفْس، وبسبب شِدَّة النَّفْرَة قد يظن الإنْسَان كونه عَاجِزاً، مع أنَّه لا يُكون كذلك، فلهذا المَعْنَى كانت الحَاجَة في العَفْو شَدِيدة في هَذَا المقَامِ. السؤال الثاني: ما فَائِدة ذكْر لَفْظَة «عَسَى» هَهُنا؟ فالجواب: لأن فيها دَلاَلَة على [أن] ترك الهِجْرَة أمر مُضَيّق لا تَوْسِعة فيه، حتى أن المُضْطَر البَيِّن الاضْطِرَار من حَقِّه أن يقُول: عسى الله أن يَعْفُو عني، فكيف الحال في غَيْرِه، ذكره الزَّمَخْشَرِي. قال ابن الخَطِيب: والأولى أن يكون الجَوَاب ما تَقَدَّم من أن الإنْسَان لشدة نُفْرَته عن مُفارقَة الوَطَن، رُبًَما ظَنَّ نَفْسَه عَاجِزاً عنها مع أنه لا يَكُون كَذَلِكَ، فلهذا المَعْنَى ذكر العَفْوَ بكلمة «عَسَى» لا بالكَلِمَة الدَّالَّة على القَطْع. قال المفَسِّرُون: «وكلمة» عَسَى «من الله وَاجِبٌ؛ لأنه للأطْمَاع، والله - تعالى - إذا أطْمَعَ عَبْدَه أوْصَلَه إليه. ثم قال:» وكان الله غفوراً رحيماً» . ذكر الزَّجَّاج في كان ثلاثة أوجه: الأول: «كان» قَبْلَ أن خلق الخَلْق مَوْصُوفَاً بِهَذِه الصِّفَةِ. الثاني: كان مع جَمِيع العِبَاد بِهذه الصِّفَة، والمقصود بَيَان أن هذا عَادَة الله أجْرَاهَا في حَقِّ خلقه. الثالث: أنه - تعالى - لو قال: «عفو غفور» كان هذا إخْبَارَاً عن كَوْنِهِ كذلك فقط، ولمَّا قال: إنَّه كان كَذَلِكَ، فهذا إخْبَار وقع بِخَبَرِه على وَقْفِهِ، فكان ذلك أدلَّ على كونه صِدْقاً [وحَقّاً] ومُبَرَّأ عن الكَذِب. وقال ابن عباس: كُنْتُ أنا وأمِّي ممن عَذَرَ اللهُ [يعني] : من المستضَعْفَيِن، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدْعُو لهؤلاءِ المسْتَضْعَفين. روى أبو هُرَيْرَة؛ قال كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا فقال: سَمِع الله لِمَنْ حَمِدَه في الرُّكْعَة الأخيرة [من صَلاَةِ العِشَاء] قنت: اللَّهمُ أنْجِ عيَّاش بن أبي رَبِيعَة، اللَّهُم أنْجِ الوليدَ بن الوليدَ، اللَّهُمَّ أنْج المستَضْعَفين من المؤمنين، اللهم اشْدُدْ وطْأتَكَ على مُضَر، اللهم اجْعَلْهَا عليهم سِنين كسِنِي يُوسُف.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب