الباحث القرآني
لما أمر اللَّه بطَاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رسُولِهِ بقوله: ﴿أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول﴾ [النساء: 59] ثم زيَّف طريقَةَ المُنَافِقِين، ثم أعَادَ الأمْر بطَاعَةِ الرَّسُول بقوله -[تعالى]-: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ﴾ ورغَّب في تِلْك الطَّاعَةِ بإيتَاءِ الأجْرِ العَظيمِ، وهداية الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم، أكد الأمْرَ بالطَّاعَة في هَذِه الآيَةِ مَرَّة أخْرَى، فقال: ﴿وَمَن يُطِعِ الله والرسول﴾ الآية، وقال القُرْطبيّ: لما ذكر اللَّه - تعالى - الأمْر الذي لو فَعَلَهُ المُنافِقُون حِين وعظُوا به وأنَابُوا إليه، لأنْعَمَ عليهم، ذكر بعد ذَلِك ثَوابَ من يَفْعَلهُ.
فصل: سبب نزول الآية
قال جماعة من المفسِّرِين: «إن ثَوبَان مَوْلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانَ شَديد الحُبِّ لرسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قليل الصَّبْر عن فِراقِهِ، فأتَاهُ يَوماً وقد تَغَيَّر لًوْنُه، ونحلُ جسمُه، وعُرف الحُزْن في وَجْهِه، فقال [له] رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [ما غيَّر لَوْنَك؟ فقال: يا رسول الله] مَا بِي من وَجَع غيْرَ أنِّي إذا لمْ أرَكَ، اسْتَوْحَشْتُ وحْشَةً شَديدةً حَتَّى ألقاك، فَذَكَرْتُ الآخِرَة فَخِفْتُ إلاَّ أرَاكَ هُنَاكَ؛ لأنك تُرفعَ مع النبييِّن [والصِّدِّيقين] ، وإني إن أدخِلْتُ الجَنَّة، كنت في مَنْزَلةٍ أدْنَى من مَنْزِلَتِك، وإن لَمْ أدْخُلِ الجَنَّة، فلا أرَاكَ أبَداً» ، فنزلَتْ [هذه] الآيَةَ.
وقال مُقَاتل: نَزَلَتْ في رَجُلٍ من الأنْصِارِ، قال للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا رسُولَ الله، إذا خَرَجْنَا من عِنْدِك إلى أهْلِينَا اشْتَقْنَا إليك، فما يَنْفَعُنَا شيء حتَّى نَرْجع إلَيْك، ثم ذَكَرْتُ درجَتَكَ في الجَنَّة، فكيف لَنَا بِرُؤْيَتك إن دَخَلْنَا الجَنَّة، فنزَلتْ هذه الآيةُ، فلما تُوُفِّي النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: اللَّهُمَّ أعْمِنِي حّتَّى لا أرَى شَيْئاً بَعْدَهُ إلى أنْ ألقاه؛ فعَمِيَ مَكَانَهُ، فكان يُجِبُّ النبي حُبّاً شديداً، فجعله الله مَعَهُ في الجَنَّةِ.
قال المُحَقِّقُون: لا تنكَرُ صحَّة هَذِهِ الرَّوَايَات؛ إلا [أن] سَبَب النُّزُّول يجب أن يكون شَيْئاً أعْظَم من ذَلِك، وهو الحَثُّ على الطَّاعَةِ والتَّرغِيب فيهَا، فإن خُصُوصَ السَّبَبِ لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفَظِ، فالآيةُ عامَّةٌ في حَقِّ جميع المكلَّفين، والمَعْنَى: ومَنْ يُطِع الله في أدَاءِ الفَرَائِضِ، والرَّسُولَ في السُّنَنِ.
فصل
ظاهر قوله: ﴿وَمَن يُطِعِ الله والرسول﴾ يوجب الأكْثَر بالطَّاعَة الوَاحِدَة، لأنَّ اللَّفْظَ الدالَّ على الصِّفَةِ يكفي فقي جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُول ذَلِكَ المُسَمَّى مَرَّة وَاحِدَة.
قال القَاضي: لا بد من حَمْلِ هَذَا على غير ظاهره، وأن تُحْمَل الطَّاعَة على فعل المأمُورَاتِ وتَرْك جَمِيع المنْهِيَّات؛ إذ لو حَمَلْنَاهُ على الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يأتُونَ الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يَأتونَ الطَّاعَةَ الوَاحِدَة.
قال ابن الخَطِيب: وعِنْدِي فيه وَجْهٌ أخَرَ، وهو أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ، أن الحُكْمَ المَذْكُور عَقِيب الصِّفَةِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ ذلك الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوَصْفِ، وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُول: قوله: ﴿وَمَن يُطِعِ الله﴾ [أي: ومن يُطِع الله] في كَوْنِهِ إلهاً، وذَلِكَ هو مَعْرِفَتُه والإقْرَار بِجَلاَلَهِ وعِزَّتِه وكبْرِيَائِه [وقُدْرَته] ، ففيها تَنْبِيهٌ على أمْرَيْن عظيمين مِنْ أمُور المَعَاد:
الأوّل: منشأ جَميع السَّعَاداتِ يوم القيامَة وهُو إشْرَاق الروح بأنْوَارِ معْرفته تعالى، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكْثَر، وصَفَاؤُهَا أقْوَى، وبُعْدُها عن التكَدُّر بعالم الأجْسَام، كان إلى الفَوْزِ بالنجاة أقرب.
الثاني: قال ابن الخَطِيب: إنه - تعالى - وعد المُطيعين في الآيةِ المتقدِّمَة بالأجْر العَظِيم والهداية، ووعَدهُم هنا بِكَوْنِهِم مع النّبِيَّين [كما ذكر في] الآية، وهَذَا الذي خَتَمَ به أشْرُف ممَّا قَبْلَهُ، فليس المُرادُ مَنْ أطَاعَ الله وأطاعَ الرَّسُول مع النَّبِيِّين والصِّدِّيقين - كَوْن الكل في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ؛ لأن هذا يقْتَضِي التسوية في الدَّرجة بين الفَاضِلِ والمَفْضُوُل، وأنَّه لا يجُوزُ، بل المُرادُ: كونُهم في الجَنَّةِ بحَيْثُ يتمكَّن كل واحدٍ مِنْهُم من رُؤيَة الأخَرَ، وإن بَعُد المَكَان؛ لأن الحِجَابِ إذَا زَالَ، شَاهدَ بَعْضُهم بَعْضَاً، وإذا أرَادُوا الزِّيَارَة والتَّلاقِي قَدَرُوا عَلَيْهِ، فهذا هُو المُرادُ من هَذِه المَعيَّة.
قوله: ﴿مِّنَ النبيين﴾ فيه أربعة أوجه:
أظهرها: أنه بَيَان ل «الذين أنعم الله عليهم» .
الثاني: أنه حلٌ من لضمير في «عليهم» .
الثالث: أنه حالٌ من الموصُول، وهو في المَعْنَى كالأوَّل، وعلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْن فيتعلَّق بمحْذُوف، لأي: كَائِنين من النَّبِيِّين.
الرابع: أن يَتَعلَّق ب «يُطِع» قال الرَّاغِب: [أي] : ومن يُطِع الله والرَّسُول من النَّبِيّين ومَنْ بَعْدَهُم، ويكون قوله: ﴿فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم﴾ إشارةٌ إلى الملإ الأعْلَى.
ثم قال: ﴿وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ ويُبيَّين ذلك قوله - عليه السلام - عند المَوْتِ: «اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى» وهذا ظاهِر، وقد أفْسَدَهُ أبو حَيَّتن من جِهَةِ المَعْنَى، ومن جَهَةِ الصِّنَاعَة:
أمَّا من جِهَة المَعْنَى: فلأن الرَّسُول هُنَا هو مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد أخْبَر - تعالى - أنَّه من يُطِع الله ورسُولَهُ، فهو مع مَنْ ذَكَرَهُ، ولو جَعَلَ «مع النبيين» متَعلِّقاً ب «يُطِع» ، لكان «من النبيين» تَفْسيراً ل «مَنْ» الشَّرطيَّة، فَيَلْزَم أن يَكُونَ في زَمَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -[أو بَعْدَهُ أنْبياء] .
وأمَّا من جِهَةِ الصِّنَاعَةِ؛ فلأن ما قَبْلَ الفَاءِ [يُطيعُونَه، وهذا غَيْر ممْكِن؛ لقوله تعالى: ﴿وَخَاتَمَ النبيين﴾ وقوله]- عليه السلام -: «ولا نَبِيّ بَعْدِي» الوَاقِعَة جَوابَاً للشَّرْطِ لا يعمل فيما بَعْدَهَا، لو قُلْتُ، إن تَضْرِب يَقُم عَمْرو وزَيْداً لم يَجُزْ: وهل هذه الأوْصَاف الأرْبَعة لِصِنْفٍ واحدٍ أو لأصنَافٍ مختلفة؟ قولان.
* فصل في تفسير المراد بالنبي والصديق والشهيد
قيل: المُرَاد بالنَّبِيَّين والصِّدِّيقين والشُّهَداء والصَّالِحِين: صِنْفٌ واحد من النَّاس، وقيل: المراد أصْنَاف مُخْتَلِفَة؛ لأن المَعْطُوف يَجبُ أن يكُون مُغَايِراً للمعْطُوف عَلَيْهِ، وقيل: الاخْتِلاَف في الأصْنَافِ الثَّلاثة غير النَّبِيِّين، فالصِّدِّيقُون هُمْ أصْحَابُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والصِّدِّيق: هو اسمٌ للمُبَالِغِ في الصِّدْقِ، ومن عادَته الصِّدْق.
وقيل: الصِّدِّيق: هو اسمٌ لمن سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، [وعلى هذا فأبُو بكر أوْلَى الخَلق بهذا الاسْم؛ لأنَّهُ أول من سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] ؛ واشْتَهَرَت الرِّوَاية بذلك، وكان عَلَيَّ صَغِيراً واتَّفَقُوا على أنَّ أبا بَكْر لمَّا آمَنَ، جَاءَ بَعْدَ ذلك بِمُدَّة قَلِيلَة بِعُثْمَان بن عَفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وطَلْحَة بن الزُّبَيْرِ، وسَعْد بن أبي وقَّاص، وعُثْمَان بن مَظْعُون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - حتى أسْلَمُوا، فكان إسْلامُه سَبَباً لاقْتِدَاء هؤلاء الأكَابِرِ بِهِ؛ فثبت أنَّه - رضوان الله عَلَيْه - كان أسْبَق النَّاس إسلاماً، وإن كان إسلامُه صَار سَبَباً لاقْتِدَاء الصَّحَابَةِ في ذَلِكَ، فَكَانَ أحَقَّ الأمَّة بهذا الاسْم أبو بكر، وإذا كان كَذِلِكَ، كان أفْضَل الخَلْقِ بعد الرَّسُول [عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ] ، وجَاهَدَ في إسْلامِ أعْيَان الصَّحَابةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في أوّل الإسْلام، حين كان النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غَايَةِ الضَّعْفِ، وَعَلَيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إنما جاهدَ يَوْمَ أحُدٍ ويَوْمَ الأحْزابِ، وكان الإسْلامُ قَوِيَّاً، والجهاد وَقْتَ الضَّعْفِ أفْضَلَ من الجِهَادِ وقت القُوَّة؛ لقوله - تعالى -: ﴿لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى﴾ [الحديد: 10] ، ودلَّ تَفْسِير الصِّدِّيق بما ذَكَرْنَا، على أنَّهُ لا مَرْتَبَةَ بعْد النُّبُوَّة [أشْرَف] في الفَضْلِ إلا الصِّدِّيق، فإنه أينما ذُكِرَ النَّبِيُّ والصِّدِّيق لَمْ يُجْعَل بينهما وَاسِطَةِ، قال - تعالى - في صفة اسْماعيل: ﴿إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد﴾ [مريم: 54] ، وفي صِفَةِ إدْرِيس: ﴿إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً﴾ [مريم: 41] ، وقال هُنَا، ﴿مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ﴾ وقال: ﴿والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ﴾ [الزمر: 33] ، فلم يجْعَل بَيْنَهُمَا وَاسِطَة، وقد وفَّقَ الله الأمَّة التِي هي خَيْر أمَّةِ، حتى جَعَلُوا الإمام بعد الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أبا بَكْر على سبيل الإجْمَاع، ولما تُوُفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - دُفِنَ إلى جَنْبِ رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا دَليلٌ على أنَّ اللهَ - تعالى - رفع الواسِطَة بين النَّبِيِّين والصِّدِّيقين.
وأمَّا «الشهداء» قيل: الذين استشهدوا يوم أُحُد، وقيل: الَّذِين استشهدُوا في سَبيل الله.
وقال عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: النَّبِيُّون هَهُنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والصِّدِّيقُون أبُو بكر، والشُّهَدَاء، عُمَر وعُثْمَان وعَلِبّ، والصَّالِحُون: سائر الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم [أجمعين] .
قال ابن الخطيب: لا يجُوزُ أن تكون الشَّهَادَةُ مُقَيَّدة بكون الإنْسَانِ مَقْتُول الكَافِر؛ [لأن مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَة عَظيِمة في الدِّين، وكون الإنْسَان مَقْتُول الكَافِر] ليس زيَادة شَرَفٍ، لأنّ هذا القَتْل قد يَحْصُلُ في الفُسَّاق، وفِيمَن لا مَنْزِلَة له عِنْدَ الله.
وأيضاً فإن المُؤمِن قد يَقُول: اللَّهُم ارْزُقْنِي الشَّهَادَة فلو كانت الشَّهَادَةُ عِبَارَة عن قَتْلِ الكَافِرِ إيَّاه، لكَان قد طَلَبَ من الله ذَلِكَ القَتْل، وهو غَيْر جَائِزٍ؛ لأنَّ صُدُور [ ذلك] القَتْلِ من الكَافِرِ كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَجُوز أن يَطْلُب من الله ما هو كُفْرٌ، وأيضاً قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «المَبْطُونُ شَهِيدٌ، والغَرِيقُ شَهِيدٌ» ، فَعَلِمْنَا أن الشَّهَادَةَ لَيْسَت عِبَارَة عن القَتْل، بل نَقُول: الشَّهيدُ: «فَعِيلٌ» بمعنى «الفاعِل» ، وهو الَّذي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ ديِن اللهِ تارةً بالحُجَّة والبَيَان، وأخْرَى بالسَّيْف والسِّنَان، فالشُّهَدَاءُ هم القَائِمُون بالقِسْط، وهم الَّذِين ذَكَرَهُم الله - تعالى - في قوله: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط﴾ [آل عمران: 18] يُقَال للمَقْتُول في سَبِيلِ الله: شَهِيدٌ؛ من حَيْثُ إنَّه بذل نَفْسَهُ في نُصْرَة دِين الله، وشَهَادَتهِ له بأنَّه هو الحَقُّ، وما سِوَاهُ هو البَاطِل.
وأمّا الصَّالِحُون: فقد تَقَدَّم قول عِكْرِمَة: إنهم بَقِيَّة الصحابة وقيل: الصَّالِحُ من كان صَالِحاً في اعْتِقَادِه وفي علمه.
قوله: ﴿وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ في نصب رَفيقاً قَوْلان:
أحدُهُمَا: أنه تَمْيِيزٌ.
والثاني: أنه حَالٌ، وعلى تَقْدِير كَوْنِهِ تَمْييزاً، فيه احْتِمَالاَن:
أحدهما: أن يكون مَنْقُولاً من الفَاعِلِيَّة، وتَقْديره: وَحَسُن رَفيِقُ أولَئِك، فالرَّفِيقُ على هَذا هذا غير لمُمَيَّز، ولا يجُوزُ دُخُولُ «مِنْ» عليه.
والثاني: ألاَّّ يكون مَنْقُولاً، فيكون نَفْسُ المُمَيَّز، وتدخل عليه «مِنْ» ، وإنَّمَا أتَى به هُنَا مفرداً؛ لأحَد مَعْنَيَيْن:
إما لأن الرَّفِيق كالخَلِيطِ والصَّدِيقِ والرَّسُولِ والبريد، تذهب به العَرَي إلى الوَاحِدِ والمُثَنَّى والمَجْمُوع؛ قال - تعالى -: ﴿إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين﴾ [الشعراء: 16] وهذا إنَّما يَجُوز في الاسْم الّذي يكُون صِفَةً، أمَّا إذا كَانَ اسماً مُصَرَّحاً كرَجُلِ وامْرَأة لم يَجْزْ، وجوَّز الزَّجَّاج ذَلِك في الاسْمِ أيْضاً، وزعم أنه مَذْهَب سِيبَويْه.
والمعنى الثَّاني: أن يكون اكْتَفَى بالوَاحِدِ عن الجَمْعِ لفهم المَعْنَى، وحَسَّن ذَلِكَ كَوْنِه فَاضِلة، ويَجُوز في «أولئك» أن يكون إشَارَة إلى [النبيين ومن بَعْدَهُم، وأن يكُون إشارَةً إلى] مَنْ يُطِع الله وِرسُوله، وإنما جُمِعَ على مَعْنَاهَا؛ كقوله [تعالى] : ﴿نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً﴾ [الحج: 5] وعلى هذا فَيُحْتَمَل أن يُقال: إنه رَاعَى لَفْظُ [ « مِنْ» ] فأفْرَد في قوله «رفيقاً» ، ومَعْنَاها فجمع في قوله: «أولئك» إلا أن البَدَاءَة في ذلك بالحَمْل على اللَّفْظِ أحسن، وعلى هذا فيكون قد جَمَعَ فِيهَا بين الحَمْل على اللَّفْظِ في «يَطِعْ» ثم على المَعْنَى في «أولئك» والجمهُور على فتح الحَاءِ وضمّ السّين من «حَسُنَ» .
وقرأ أبو السَّمَّال: بفتحها وسُكُون السِّين تَخْفِيفَاً، نحو: عَضْد في: عَضُد، وهي لُغَةُ تَمِيم، ويَجُوز «حُسْ» ، بضم الحَاءِ وسُكُون السين، كأنهم نَقَلُوا حركة العَيْنِ إلى الفَاءِ بعد سَلْبِهَا حَرَكَتِها، وهذه لُغَة بَعْضِ «قَيْس» ، وجعل الزَّمَخْشَرِيّ هذا من بَابِ التَّعَجُّيَّ؛ فإنه قال: فيه معنى التَّعَجُّب، كأنه قيل: وما أحْسَنُ أولَئِكَ رَفِيِقَاً، ولاسْتِقْلاَلَه بمعنى التَّعَجُّب.
وقُرئ: «وحَسْن» بسُكون السِّين؛ يقول المتعجب: حَسْنَ الوَجْهِ وَجْهُك، وحَسْنُ الوَجْه وجْهك بالفَتْح والضَّمِّ مع التَّسْكِين.
قال أبو حَيَّان: وهو تَخْلِيط وتَرْكِيبُ مذْهب على مَذْهَبٍ، فنقول اخْتَلَفُوا في فِعْلٍ المراد به المَدْح. فذهب [الفارسي] وأكثر النُّحَاةِ: إلى جَوازِ إلْحَاقه ببَابِ «نِعْم» و «بِئْسَ» [فقط، فلا يكُون فَاعِلُهِ إلا مَا يكُون فَاعِلاً لَهُمَا] .
وذهب الأخْفَش والمُبَرِّد إلى جَوازِ إلْحَاقِه بِبَابِ «نَعْمَ» و «بِئْسَ» ] ، فيُجْعَل فَاعِله كَفَاعِلَهمَا، وذلك إذا [لم] يَدْخُلُه مَعْنَى التَّعَجُّب [وإلى جَوَازَ إلْحَاقِه بَفِعْل التَّعَجُّب] فلا يجري مُجْرَى «نعم» و «بِئْس» في الفَاعِل، ولا في بَقِيَّة أحْكَامِهما، فَتَقُول: لَضَرُبَتْ يدك ولضرُبَت اليَدْ، فأخذ التَّعَجُّبَ من مَذْهَب الأخْفَش، والتمثيل من مَذْهَب الفارسيّ، فلم يَتَّبع مَذْهَباً من المَذْهَبَيْن، وأما جَعْله [التَّسكِين] والنَّقْل دلِيلاً على كَوْنِهِ مُسْتَقِلاً بالتَّعَجُّب، فغير مُسَلَّم؛ لأن الفَرَّاء حَكَى في ذلك لُغَةً في غير مَا يُرَادُ به التَّعَجُّب.
و «الرَّفِيقُ» في اللُّغَة مأخُوذ من الرِّفْق، وهو لينُ الجَانِبِ ولطافة الفِعْل، وصَاحِبه رَفِيقٌ، ثم الصَّاحِبُ يسمى رَفِيقاً؛ لارْتفَاقِكَ به وبِصُحْبَتِه، ومن هذا قِيل للجَمَاعة في السَّفَر: رُفْقَة؛ لارتفاق بَعْضِهِم بِبَعْض، والمَعْنَى: أن هَؤلاَءِ رُفَقَاء في الجَنَّة.
روى أنَس: بن مالِك قال: قال رجُل: يا رسُولَ الله مَتَى السَّاعة؟ قالَ ومَا أعْدَدْتَ لَهَا؛ فلم يَذْكُر كَثيراً إلا أنَّهُ يُحِبُّ الله ورسُوله. قال: فأنْتَ مع مَنْ أحْبَبْت.
قوله: ﴿ذلك الفضل مِنَ الله﴾ «ذَلِكَ» مُبْتَدأ، وفي الخَبَر وَجْهَان:
أحدهما: أنه «الفضل» والجَار والمَجْرُور في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ، والعَامِلُ فيها مَعْنَى الإشَارَة.
والثاني: أنه الجَارُّ، و «الفضل» صِفَة لاسْم الإشَارَة، ويجوز أن يكُون «الفضل» والجار بَعْدَه خَبَرَيْن [ل «ذَلِك» ] على رَأي من يجيزُه.
فصل: في دفع شُبه المعتزلة القائلين بوجوب الثواب
«ذلك» [اسم] إشَارَة إلى ما تَقَدَّم ذكْرُه من الثَّوَابِ، وقد حكم عليه بأنَّه فَضْل من اللهِ، وهذا يَدُلُّ على أن الثواب غير وَاجِبٍ على الهِ - تعالى -، وَيَدُلُّ عليه من جِهَة العَقْلِ أيْضاً وُجُوه:
أحدها: أن القٌدْرَة على الطَّاعَةِ إن كَانَت لا تَصْلُح إلا للطَّاعَةِ، فَخَالِقُ تلك القُدْرَةِ هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعَة، فلا يَكُون فعْلُه مُوجباً شَيْئاً، وإن كانت صالحة للمَعْصِيَة أيْضاً، لم يترجَّحْ جَانِب الطَّاعة [لله] على جَانِب المَعْصِيَة إلا بِخَلْقِ الدَّلعِي إلى الطَّاعَة، ويصِيرُ مَجْمُوع القُدْرَةِ والدَّاعِي موجِباً للفِعْل، فخالق هذا المَجْمُوعِ، هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعة، فلا يَكُون فِعْلُه مُوجِباً عليه شَيْئاً.
وثانيها: أنَّ نِعم الله على العَبْدِ لا تُحْصَى، وهي مُوجِبةٌ للطَّاعَة والشُّكْر، فإذا وَقَعَتْ في مُقَابَلَة النِّعَم السَّالِفَة، امتنع كَوْنُها مُوجِبَة للثَّوَابِ في المُسْتَقْبَل.
وثالثها: أن الوُجُوب يَسْتَلْزِم [اسْتِحْقاق] الذَّمِّ عند التَّرْك، وهذا الاسْتِحْقَاقُ يُنَافِي الإلَهِيَّة، فيمتنع حُصُولُه في حَقِّ الإلَه -[سبحانه وتعالى]-؛ فَثَبَت أنَّ ظاهر الآيَة كَمَا دَلَّ على أنَّ الثَّواب فَضْل من الله - تعالى - فالبَرَاهيِنُ العقْلِيّة القَاطِعَة دَالَّةٌ على ذَلِكَ أيْضَاً.
فصل
يحتمل أن يكُون معنى الآية: ذَلِكَ الثَّوَاب لِكَمَالِ درجَتِه هو الفَضْلُ من الله، وأن ما سِوَاهُ ليس بِشَيء، ويُحْتَمَلُ أن يكوُون ذلك الفَضْلُ المَذْكُور والثَّواب المَذكُور هو من اللهِ لا مِنْ غَيْرِه.
﴿وكفى بالله﴾ أي: بثَوابِ الآخِرَة، وقيل: لمن أطاع الله ورسوله وأحبه وفيه بَيَان أنَّهم لم ينالوا تلك الدَّرَجَة بطَاعَتِهم، إنَّما نالوها بِفَضْلِ الله - عَزَّ وَجَلَّ -.
روى أبو هُريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قَارَبُوا وسَدَّدُوا واعْلَمُوا أنَّه لا يَنْجُو أحَدٌ مِنْكُم بِعَمَلِهِ» قالُوا: ولا أنتَ يا رسُول الله؟ قال: «ولا أنا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَني الله بِرَحْمَةٍ منه وفَضْل» .
{"ayahs_start":69,"ayahs":["وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ مَعَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِم مِّنَ ٱلنَّبِیِّـۧنَ وَٱلصِّدِّیقِینَ وَٱلشُّهَدَاۤءِ وَٱلصَّـٰلِحِینَۚ وَحَسُنَ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ رَفِیقࣰا","ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِیمࣰا"],"ayah":"ذَ ٰلِكَ ٱلۡفَضۡلُ مِنَ ٱللَّهِۚ وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ عَلِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











