قوله تعالى: [ ﴿مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ ] الآية.
لما حكَى عنهم أنَّهم يَشْترون الضلالة، بيَّن تلك الضَّلالَةَ ما هي.
قوله: «من الذين هادوا» فيه سَبْعَةُ أوْجُه: أحدها: أن يكُون «من الذين» خبر مُقدم، و «يحرفون» جُمْلَة في محلِّ رفع صِفَة لموصُوف مَحْذوف هو مُبْتَدأ، تقديره: مِنَ الذين هَادُوا قومٌ يُحَرِّفون، وحَذْف الموْصُوف بَعْد «مِنَ» التَّبِعِيضيَّة جَائِزٌ، وإنْ كانت الصِّفَة فِعْلاً؛ كقولهم «مّنَّا ظَعَنَ، ومَنَّا أقَامَ» ، أي: فريقٌ أقام، وهذا مَذْهَب سيبويه والفارسِي؛ ومثله: [الطويل]
1805 - وَمَا الدَّهْرُ إلا تارتانِ فَمِنْهُمَا ... أمُوتُ وأخرى أبْتَغِي العَيْشَ أكدحُ
أي: فمنهما تَارةٌ أمُوت فِيها.
الثاني: قول الفرَّاء، وهو أن الجَارَّ والمجرور خَبَر مقدَّم أيضاً، ولكن المُبْتدأ المحذُوف يقدره مَوصولاً، تقديره: «من الذين هادوا من يحرفون» ، ويكون قد حمل على المَعنى في «يحرفون» قال الفرَّاء: ومِثْله [قول ذي الرِّمَّة] [الطويل]
1806 - فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ ... وآخَرُ يَثْنِي دَمْعه العَيْنِ بِاليَدِ
قال: تقديره، ومنهم [مَنْ] دَمْعه سَابِقٌ لَهُ، والبَصْرِيُّون لا يُجَوِّزُونَ حذف الموصُولِ؛ لأنه جُزْءُ كلمة، وهذا عِنْدَهم مؤولٌ على حَذْفِ موصوفٍ كما تَقَدَّمَ، وتأويلُهُم أولى لعطفِ النكرة عليه، وهو: آخر وأخْرَى في البَيْت قَبْلَه، فيكون في ذلك دلالةٌ على المَحْذُوفِ، والتقدير: فمنهم عَاشِقٌ سَابِقٌ دَمْعه لَهُ وآخَر.
الثالث: أن «من الذين» خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: «هم الذين هادوا» ، و «يحرفون» على هذا حَالٌ من ضمير «هادوا» وعلى هذه الأوْجُه الثَّلاثة يكون الكلام قم تَمَّ عند قوله: «نصيراً» .
الرابع: أن يكون «من الذين» حَالاً [من فاعل «يريدون» قاله أبو البقاء، ومنع أن يكُون حالاً] من الضَّمير في «أوتوا» ومن «الذين» أعنِي: في قوله - تعالى -: «ألم تر إلى الذين أوتوا: قال: لأنَّ الحال لا تكُون لِشَيْءٍ واحِدٍ، إلا بعطف بَعْضِها على بَعْضٍ.
قال شهاب الدين: في هذه المسْألة خلافٌ بين النحويين: منهم من مَنَعَ، وَمِنْهم من جَوَّزَ، وهو الصَّحيح.
الخامس: أن ﴿مِّنَ الذين﴾ بيان للموصول في قوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ﴾ لأنهم يهُود ونَصَارَى، فَبَيْنَهُم باليهُودِ، قاله الزمخشري، وفيه نظر من حَيْث إنَّه قد فُصِلَ بينهما بثلاثة جمل هي: ﴿والله أَعْلَمُ﴾ ، ﴿وكفى بالله﴾ ، ﴿وكفى بالله﴾ .
وإذا كان الفَارِسيّ قد منع الاعتراض بجُمْلَتيْن، فما بالك بِثلاثٍ، قاله أبو حيان، وفيه نَظَرٌ؛ فإن الجُمَل هنا مُتَعَاطِفَة، والعَطْفُ يصير الشَّيْئيْن شيئاً واحِداً.
السادس: أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم، وما بَيْنَهما اعْتراض أيضاً، وقد عُرِف ما فيه.
السابع: أنه متعلِّق ب ﴿نَصِيراً﴾ وهذه المادَّة تتعَدَّى ب «مِن» ؛ قال - تعالى -:
﴿وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم﴾ [الأنبياء: 77] ﴿فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله﴾ [غافر: 29] على أحد تأويلَيْن:
إمَّا على تَضْمِين النَّصْر معنى المَنْع، أي: مَنَعْنَاهُ من القَوْم، وكذلك: كَفَى بالله مَانِعاً بِنصْره من الذين هَادُوا.
وإمَّا: على جعل «مِنْ» بمعنى «عَلَى» ، والأوَّل مَذْهَب البَصْريين، فإذا جَعَلْنَا ﴿مِّنَ الذين﴾ بياناً لما قَبْلَهُ، فبِمَ يتعلَّق والظاهر [أنَّه يتعلَّقُ بمحذُوفٍ؛ ويدل على ذَلِك أنَّهُم قالوا في سقيا لك] ، إنه مُتعلِّق بمحذوف لأنه بَيَانٌ له، وقال أبو البقاء: [وقيل] وهو حَالٌ من أعْدَائِكُم، أي: [والله أعلم بأعْدَائِكُم] كائنين من الذين هادُوا، والفَصْل بينهما مُسَدَّد، فلم يمنع من الحَالِ، فقوله هذا يُعْطي أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم مع إعْرَابه له حالاً، فيتعَلَّق أيضاً بمحذُوفٍ، لكن لا على ذلك الحَذْف المَقْصُود في البَيَان، وقد ظهر مِمَّا تقدم أن ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ ، إما لا مَحَلَّ له، أو لَهُ مَحَلُّ رَفْع أو نَصْبٍ على حَسَب ما تقدَّم وقال أبو رَجَاءٍ والنَّخْعي: «الكَلاَم» وقُرئ: «الكِلْم» بكسر الكاف وسكون اللام، جمع «كَلِم» مخففة من كلمة، ومعانيها مُتَقَارِبَة.
قوله: ﴿عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ متعلِّق ب ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ وذكر الضمير في ﴿مَّوَاضِعِهِ﴾ حملاً على ﴿الكلم﴾ ، لأنَّها جِنْس.
وقال الوَاحِدِي: هذا جمع حُرُوفه أقَلُّ من حُروف واحِده، وكل جَمْع يكون كذلِك، فإنه يجوز تَذْكِيرُه.
وقال غيره: يمكن أن يُقال: كون هذا الجَمْعِ مؤنَّثاً ليس أمْراً حقيقيَّا، بل هو أمر لَفْظِيٌّ، فكان التَّذكير والتَّأنِيث فيه جَائِزاً. وجاء هُنَا «عن مواضعه» وفي المائدة: ﴿مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ﴾ [المائدة: 41] .
قال الزَّمَخْشَرِي: أما ﴿عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ فعلى ما فَسَّرْناه من إزالَتِه عن مواضِعِه، التي أوْجَبَت حِكْمَة الله وَضْعُه فِيهَا بما اقْتَضَت شَهَوَاتُهم من إبْدّال غيره مَكَانَه، وأما «من بعد مواضعه» ، فالمَعْنَى: أنه كَانَت له مواضعُ هو فمِنٌ بأن يكُون فيها فحين حَرَّفوه، تركُوهُ كالغَرِيب الذي لا مَوْضِع له بَعْد مَوَاضِعِه ومَقَارّه والمعنيان مُتَقَارِبَان.
قال أبو حيَّان: وقد يُقَال: إنهما سِيَّان لكنه حذف هُنَا وفي أول المائدة [الآية 13] من بعد مواضعه؛ لأن قوله ﴿عَن مَّوَاضِعِهِ﴾ يدل على استِقْرَار مواضِع له، وحذف في ثَانِي المَائِدة «من مواضعه» ؛ لأن التَّحْرِيف «من بعد مواضعه» يدل على أنَّه تحريفٌ عن مَوَاضِعِه، فالأصل: يُحَرِّفون الكَلِم من بعد مَواضِعِه عنها. فحذف هنا البَعْدِيَّة، وهناك تَوَسُّعاً في العِبَارة، وكانت البَدْأة هنا بِقَوْله: «عن مواضعه» ؛ لأنه أخصر، وفيه تَنْصِيصٌ باللَّفْظ على «عَنْ» وعلى المَوَاضِع، وإشارة إلى البَعْدِيّة.
وقال أيْضاً: والظَّاهِر أنهم حَيْثُ وُصِفُوا بشدة التَّمَرُّد والطُّغْيَان، وإظْهَار العَدَاوة، واشْتراء الضَّلالة، ونقص المِيثَاقِ، جاء «يحرفون الكلم عن مواضعه» كأنَّهم حَرَّفُوها من أوَّل وهْلَة قبل اسْتَقْرَارِها في مَوَاضِعِها، وبادَرُوا إلى ذلك، ولذلك جاء أوّل المَائِدة كهذه الآية؛ حَيث وَصَفَهمُ بِنَقْض المِيثَاقِ، وقسْوة القُلُوب، وحيث وُصِفوا باللّين وترديد الحُكْم إلى الرَّسُول، جاء «من بعد مواضعه» كأنهم لم يُبَادِرُوا إلى التَّحرِيف، بل عَرَضَ لهم بَعْد استِقْرَار الكَلِمِ في مواضِعِهَا، فهما سِيَاقان مُخْتَلِفَان.
[وقوله:] ﴿وَيَقُولُونَ﴾ عَطْفٌ على ﴿يُحَرِّفُونَ﴾ وقد تَقَدَّم، وما بعده في محلِّ نَصْب به.
فصل: الخلاف في كيفية التحريف
اخْتَلَفُوا في كيْفِيَّة التَّحريف، فقيل: كانوا يُبْدِّلُون اللَّفْظَ بلفظ آخَرَ؛ كتحريفهم الرَّجْم [ ووضعُوا] موضِعَهُ الجَلْدَ؛ ونظيره ﴿فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله﴾ [البقرة: 79] .
فإن قيل: كيف يُمْكن هَذَا في الكتاب الَّذي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفه، وكلماته مَبْلَغَ التَّوَاتُر، واشتهر في الشَّرْق والغَرْب.
فالجواب: لعل القَوْم كانوا قليلين، والعُلَمَاء بالكِتَاب كانوا في غَايَةِ من القِلَّة فَقَدَرُوا على ذَلِك.
وقيل: المُرَاد بالتَّحْرِيفِ: إلْقاء الشُّبَه والتَّأويلاَتِ الفاسدَةِ لتلك النُّصًوصِ، وأما الآيَةُ التي في المَائِدة: فهي دالَّة على الجَمْع بين الأمْرَيْنِ، فكانوا يَذْكُرُون التَّأوِيلاَت الفاسِدَةِ، وكانوا يُحَرِّفُون اللَّفْظَ أيضاً من الكِتَابِ.
فقوله: ﴿يُحَرِّفُونَ الكلم﴾ إشارة إلى التَّأويل الباطل.
وقوله: «من بعد مواضعه» إشارة إلى إخراجه عن هذا الكِتَابِ.
وقيل: المراد بالتَّحْرِيف: تغيير صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال ابن عبَّاس: كانت اليَهُود يأتون رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويسْألُونه عن الأمْر، فيُخْبِرهم، فيرى أنَّهُم يأخُذُون بِقَوْلِهِ، فإذا انصرفوا من عِِنْدِه، حرِّفوا كلامه ﴿وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا﴾ منك قولك ﴿وَعَصَيْنَا﴾ أمْرَك، وهو المُرَادُ بقوله: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ .
قوله: ﴿واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ ، في نصبِ «غَير» وجْهَان:
أحدهما: أنه حَالٌ.
والثاني: أنه مَفْعُول به، والمعنى، اسْمَع غير مُسْمَعٍ كلاماً ترضاه، فَسَمْعُك عنه نَابٍ.
قال الزَّمَخْشَريّ، بعد حكايته نَصْبه على الحَالِ، وذكرهُ المعنى المتقدّم: ويجوزُ على هَذَا أن يكون «غير مسمع» مفعول اسْمَع، أي: اسْمَع كلاماً غير مُسْمَع إيَّاك؛ لأن أذُنَك لا تعيه نبُوّاً عنه، وهذا الكلام ذُو مُسْمَع مكْرُوهاً، فيكون قد حَذَفَ المَفْعُول الثَّاني؛ لأن الأوّل قَامَ مَقَام الفَاعِل.
وبإرادة الذَّمِّ تقدّر «غير مسمع خيراً» وحذف المفعول الثاني: أيضاً [والمعنى: كانوا يَقُولُون للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسْمع، ويقُولون في أنْفُسِهم: لا سَمِعْتَ] .
وقال أبو البقاء: وقيل: أرادُوا غير مَسْمُوع مِنْكَ، وهذا القَوْل نقله ابن عطيّة عن الطَّبَرِي، وقال: إنه حِكَايةٌ عن الحَسَن ومُجَاهِد.
وقال ابن عطيَّة: ولا يُسَاعِده التَّصْريف، يَعْني: أنّ العَرَب لا تقُولُ أسْمَعْتُكَ بمعنى قَبِلْتُ منك، [وإنما تقول أسْمَعْتُه بمعنى: سَبَبْتُه، وسمعت منه بمعنى قَبِلْتُ ويعبرون بالسماع لا بالإسماع عن القبول مجازاً، وتقدم القولُ في ﴿رَاعِنَا﴾ [البقرة: 104] ، وفيها وجوه:
أحدُها: أن هذه كلمةٌ كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخريةِ، وقيل معناها: أرِعْنَا سمْعَك، أيْ: اصرف سمْعَك إلى كلامنَا، وقيل: كانوا يقولُونَ: راعِناً، ويُوهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ رَاعِنَا سَمْعَك، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونةِ في لُغَتِهم.
وقيل: كانوا يَلْوُون ألْسِنَتهم، حتى يصيرَ قولُهم: ﴿وَرَاعِنَا﴾ : رَاعِينَا، ويُريدُون: أنَّك كُنْتَ تَرْعَى أغْنَاماً لَنَا.
قال الفراءُ: كانوا يَقُولُونَ: رَاعِنَا [ويُهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ سَمْعَك، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونة] ويريدون الشَّتْمَ، فذاك هو اللَّيُّ، وكذلك قولهم: ﴿غَيْرَ مُسْمَعٍ﴾ أرَادوا به، لا سَمِعْتَ فهذا هو اللَّيُّ.
فإنْ قيلَ: كَيْفَ جاءُوا بقولٍ يحتملُ الوجهيْنِ بعد تَصْريحهم بقولهم: سَمِعْنَا وعَصَيْنَا؟ فالجوابُ: أنه قال بعضُ المفسَّرين: إنهم كانوا يقولون «وعصينا» سراً في نفوسهم. وقيل: كان بعضُهم يقولُه سِرًّا، وبعضهم يقول جَهْراً.
قوله «لَيًّا بألسنتهم وطعناً» فيهما وجهانِ:
أحدهما: أنَّهُمَا مفعول مِنْ أجْلهِ ناصبُهما «ويقولونَ» .
والثَّاني: أنَّهُمَا مَصْدَرَانِ في موضع الحَالِ، أيْ: لاوين وطاعنينَ، وأصْلُ لَيًّا [ «لَوْيٌ] » من لَوَى يلْوي، فأدغِمَتِ الواوُ في الياءِ بعد قلبها ياءً، فهو مِثْلُ «طَيٍّ» مصدر طَوَى، يَطْوِي.
و «بألسنتهم» ، و «في الدين» متعلّقان بالمَصْدَرَيْنِ قبلهما، وتقدَّم في البَقَرة على قَوْله: «ولو أنهم قالوا» .
قوله: «لكان خيراً لهم» فيه قَوْلاَن: أظهرهما: أن يكُون بمعنى أفْعَل، ويكون المُفَضَّل عَلَيْه «محذوفاً، أي: لو قالُوا هذا الكلام، لكان خَيْراً من ذَلِك الكَلاَمِ.
والثاني: أنه لا تَفْضِيل فيه] بل يَكُون بمعنى جيّد وفَاضِل، فلا حَذْف حينئذٍ، والباءُ في» بكفرهم» للسَّبَبية.
قوله: «إلا قليلاً» فيه ثلاثة أوجُه:
أحدها: أنه مَنْصُوب على الاستثنَاء من ﴿لَّعَنَهُمُ﴾ ، أي: لعنهم الله إلا قليلاً منهم، فإنَّهم آمنُوا فلم يَلْعَنْهُم.
والثاني: أنه مستثْنى من الضَّمِير في «فلا يؤمنون» ، والمراد بالقَلِيلِ عبد الله بن سَلاَم وأضرابه، ولم يَسْتَحسن مَكِّي هذيْن الوَجْهَيْن:
أما الأوّل: قال: لأنَّ مَنْ كَفَرَ مَلْعُونٌ لا يُسْتَثْنَى منهم أحد.
وأما الثاني: فلأن الوجْه الرَّفع على البَدَل؛ لأن الكَلامَ غير مُوجِبٍ.
والثالث: أنَّه صِفَةٌ لمصدر محذُوف، أي: إلا إيماناً قَلِيلاً؛ وتعليله هو أنَّهُم آمنوا بالتَّوحيد وكَفَرُوا بمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرِيعَته.
وعبَّر الزَّمَخْشَري وابن عطيّة عن هذا التَّقليل بالعَدَم، يعني: أنَّهُم لا يؤمِنُون ألْبَتَّةَ كقوله: [الطويل]
1807 - قَلِيلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ ... كَثيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى والمَسَالِك
قال أبو حيان: وما ذكراهُ من أنَّ التقْليل يُرادُ به العَدَم صَحِيحٌ، غير أن هَذَا التَّرْكيب الاستثنائي يأباه، فإذا قُلت: لم أقُمْ إلاَّ قَلِيلاً، فالمعنى انْتفَاء القِيَامِ إلا القَلِيل، فيوجد منك إلا أنَّه دالٌّ على انْتِقَاءِ القِيَام ألْبَتَّةَ] ، بخلاف: قلَّما يقُول ذلك أحَدٌّ إلا زَيْد، وقَلَّ رَجُلٌ يفعل ذلك، فإنه يَحْتَمِل التَّقْليل المُقَابل للتكثيرِ، ويحتمل النَّفْي المَحْض، أما أنك تَنْفِي ثم تُوجِب، ثم تُريد بالإجَابِ بعد النَّفْي نَفْياً فلا؛ لأنه يَلْزَم أن تَجيء» إلاَّ «وما بَعْدَهَا لَغْواً من غير فائدةٍ؛ لأن انْتِفَاء القِيَام قد فُهِمَ من َوْلِكَ: لَمْ أقُمْ، فأيُّ فَائِدةٍ في استِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يرادُ به انْتِفَاء مَفْهُوم من الجُمْلَة السَّابِقة، وأيْضاً فإنَّه يُؤدِّي إلى ان يكُون ما بَعْدَ» إلاَّ «مُوافقاً لما قبلها في المَعْنَى، والاستِثْنَاء يَلْزَم أن يكُون ما بعد إلا مُخالفاً لما قبلها فيهِ.
فصل: الخلاف في القليل الوارد في الآية
معنى الكَلاَم» فلا يُؤمِن إلاَّ أقْوامٌ قَلِيلُون، واخْتَلَفُوا في ذلك القليل:
فقال بعضُهم: هو عَبْد الله بن سَلاَم، ومن أسْلَم معه مِنْهُم.
وقليل: القَلِيل صفة للإيمان، والتَّقدير: فلا يؤمِنوُن إلا إيماناً قليلاً، فإنَّهم كَانُوا يرمِنُون بالله والتَّوْرَاة [موسى] ، والتَّقْدِير: فلا يُؤمِنُون إلا بِمُوسَى، ولكنَّهم كانوا يَكْفُرون بسائِر الأنبياءِ، وَرَجَّحَ أبو عَلِيٍّ الفَارِسِيّ هذا القَوْل؛ قال: لأن ﴿قَلِيلاً﴾ لفظ مُفْرَد، والمُرَادُ به الجَمْع، قال - تعالى -: ﴿وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً﴾ [النساء: 69] ، وقال: ﴿وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ﴾ [المعارج: 10، 11] فدلَّ عَوْد الذكر مَجْمُوعاً إلى الآيتيْن على أنَّه أريد بهما الكَثْرة.
فصل: الاستدلال بالآية على جواز تكليف ما لا يطاق
استدل بَعْضُ العُلماء بهذه الآيةِ مع الآيةِ التي بَعْدَهَا، على جَوازِ تكْلِيفِ ما لا يُطَاق؛ لأنه - تعالى - أخْبَرَ عَنْهُم في هذه الآية بأنَّهُم لا يُؤمِنُون، وخبرُهُ - تعالى - صِدْق وحَقٌّ، ثم أمرهم في الآيةِ التي بَعْدَها بالإيمانِ، فقال: ﴿يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ﴾ [النساء: 47] فأمرهم بالإيمان مع إخْبَارِه بأنَّهمُ لا يُؤمِنُون.
{"ayah":"مِّنَ ٱلَّذِینَ هَادُوا۟ یُحَرِّفُونَ ٱلۡكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِۦ وَیَقُولُونَ سَمِعۡنَا وَعَصَیۡنَا وَٱسۡمَعۡ غَیۡرَ مُسۡمَعࣲ وَرَ ٰعِنَا لَیَّۢا بِأَلۡسِنَتِهِمۡ وَطَعۡنࣰا فِی ٱلدِّینِۚ وَلَوۡ أَنَّهُمۡ قَالُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَا وَٱسۡمَعۡ وَٱنظُرۡنَا لَكَانَ خَیۡرࣰا لَّهُمۡ وَأَقۡوَمَ وَلَـٰكِن لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفۡرِهِمۡ فَلَا یُؤۡمِنُونَ إِلَّا قَلِیلࣰا"}