الباحث القرآني
لما أمر بالإيمان، ورغَّب فيه، بَيَّن فساد طَرِيقة من يَكْفُر بعد الإيمَان.
قال قتادة: هم اليَهُود؛ آمَنُوا بِمُوسى، ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل، [ثم آمَنُوا بالتَّوْراة] ، ثم كَفَرُوا بعيسى - عليه السلام -، ثم ازدادُوا كُفْراً بمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: هو في جَمِيع أهْل الكِتَاب آمَنُوا بِنَبِيِّهم، ثم كَفَرُوا به، وآمَنُوا بالكِتَاب الذي نُزِّل عليه، ثم كَفَرُوا به، وكفرهم به: تركهم إيَّاه، أي: ثم ازْدَادُوا كفراً بمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: هذا في قَوْم مُرْتَدِّين، آمَنُوا ثم ارتَدُّوا، ومثل هذا هل تقبل تَوْبتهُ؟ حُكِي عن عَلِيٍّ: أنه لا تُقْبَل تَوْبَته، بل يُقْتَل؛ لقوله - تعالى -: ﴿لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ وذلك لأن تَكْرَار الكُفْر منهم بعد الإيمان مراتٍ، يدلُّ على أنَّه لا وَقْع للإيمَانِ في قُلُوبهم، إذ لو كان للإيمان وَقْعٌ في قُلُوبهم، لما تركُوهُ بأدْنى سَبَب، ومن كان كَذَلِك، فالظَّاهر أنَّه لا يُؤمِن إيماناً صَحِيحاً، فهذا هُو المُرادُ بقوله: ﴿لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ وليس المُرَادُ، أنه لو أتى بالإيمَان الصَّحِيح، لم يكُن مُعْتَبَراً، بل المراد مِنْهُ: الاستِبْعَاد، وأكثر أهْل العِلْم على قُبُول تَوْبَتِه.
وقال مُجَاهِدٌ: ﴿ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ أي: مَاتُوا عليه، ﴿لم يكن الله ليغفر لهم﴾ : ما أقامُوا على ذلك، ﴿ولا ليهديهم سبيلا﴾ أي: طريقاً إلى الحَقِّ.
وقيل: المُراد طائِفَة من أهل الكِتَاب، قَصَدوا تَشْكِيك المُسْلِمينَ، فكانوا يُظْهِرونَ الإيمانَ تارةً والكُفْر تارةً أخْرى، على ما أخْبَر اللَّه - تعالى - عنهم قولهم: ﴿آمِنُواْ [بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ] وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [آل عمران: 72] وقوله: ﴿ثُمَّ ازدادوا كُفْراً﴾ أن بَلَغُوا في ذلك إلى حدِّ الاسْتِهْزَاء، والسُّخْرية بالإسْلامِ.
فصل
دلَّت الآية على أنَّ الكُفْر يقبل الزِّيادة والنُّقْصَان؛ فوجَب أنْ يَكُونَ الإيمان كَذلك؛ لأنهما ضِدَّان متنافِيَانِ؛ فإذا قَبِلَ أحدُهُما التَّفَاوُت، فكذلك الآخَر.
فإن قيل: الحُكْم المَذْكُور في هذه الآية: إمَّا أن يكون مَشْرُوطاً بما قبل التَّوبة، أو بما بَعْدَها.
والأوَّل: باطِلٌ؛ لأن الكُفْر قبل التَّوْبَة غير مَغْفُور على الإطْلاق، وحينئذٍ تضيع الشُّروطُ المَذْكُورَة.
والثاني: باطل؛ لأن الكُفْر [يُغْفَر] بعد التَّوْبَة، ولو كَانَ بعد ألْفِ مَرَّة، فعلى التَّقْديرين يلزم السُّؤالُ.
والجوابُ من وُجُوه:
أحدها: ألا نَحْمِل قوله: «إنَّ الَّذين» على الاسْتِغْرَاق، بل على المَعْهُود السَّابق، وهم أقْوام مُعَيَّنُون علم الله أنَّهم يَمُوتون على الكُفْر، ولا يَتُوبون عَنْه، فقوله: ﴿لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ﴾ إخبار عن مَوْتِهِم على الكُفْر.
وثانيها: أن الكلام خَرَج على الغَالِب المُعْتَاد، فإن كان كَثِير الانْتِقَال من الإِسْلاَم إلى الكُفْر، لم يكن للإيمان في قَلْبِه وَقْع، ولا وَجَد حلاوَةَ الإيمان كما تقدَّم، والظَّاهِر ممن حاله هذا أنَّه يمُوت كَافراً.
وثالثها: أن الحُكْم على المَذْكُورِ في الآية مَشْرُوطٌ بعدم التَّوْبة عن الكُفْر، وقول السائل إنَّه على هذا التَّقْدير تَضْييعُ الصِّفات المَذْكُورَة.
قلنا: إنَّ إفْرادَهُ بالذِّكْر يدلُّ على أن كُفْرَهُم أفْحَش، وخيانتهم أعْظَم، وعُقُوبتهم في القِيَامَة أوْلَى، فجرى مُجْرَى قوله: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ﴾ [الأحزاب: 7] خصَّهُما بالذِّكر لأجل التشريف، وكقوله: ﴿وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ﴾ [البقرة: 98] .
فإن قيل: اللاَّم في قوله: «لِيَغْفِرَ لَهُم» : للتأكيد، وهو غَيْر لائقٍ بهذا المَوْضِع، وإنَّما اللائِق به تَأكيد النَّفْي.
فالجواب: إن نفي التَّأكيد على سَبِيل التَّهَكُم مُبَالَغَة في تَأكِيد النَّفْي، وهذه اللاَّم تُشْبِه اللاَّم في قوله: ﴿مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين﴾ [آل عمران: 179] ، تقدَّم الكلام فيه، ومَذَاهب النَّاس، وأن لاَمَ الجحود تُفِيد التَّوْكِيد، والفرق بَيْن قَوْلك: «مَا كَانَ زَيْد يَقُوم» ، و «ما كانَ لِيَقُوم» .
قوله: ﴿ولا ليهديهم سبيلاً﴾ يدلُّ على أنه - تعالى - لم [يَهْدِ] الكافرين إلى الإيمَانِ.
وقالت المُعْتَزِلَةُ: هذا مَحْمُول على زِيَادة الألْطَاف، أو عَلَى أنَّه لا يَهْدِيهم إلى الجَنَّة في الآخِرة.
قوله ﴿بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً﴾ البشارة: كل خبرٍ تتغيَّرُ به بشرَةُ الوجْهِ، سارّاً كان أو غَيْر سَارٍّ.
وقال الزَّجَّاج: مَعْنَاه: اجعل في مَوْضع بِشَارتك لَهُم العَذَاب، كما تقول العرب: «تحيتك الضَّرْبُ وعِتَابُكَ السَّيْفُ» ، أي: بَدَلاً لكُم من التَّحِيَّةِ، ثم وصَفَ المُنَافِقِين، فقال: ﴿الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين﴾ يعني: يتَّخذون اليَهُود والنَّصَارى أولياء، وأنْصاراً، وبِطَانة من دُون المُؤمنين، كان المُنَافقُون يوادُّونَهُم، ويقول بَعْضهم لبَعْضٍ: إن أمر محمَّد لا يَتِمُّ.
قوله: «الَّذِين» يجُوز فيه النَّصْب والرَّفْع، فالنصب من وَجْهَيْن:
أحدهما: كونه نعتاً للمُنَافِقِين.
والثاني: أنه نَصْب بفعلٍ مُضْمَر، أي أذمُّ الَّذِين، والرَّفْع على خَبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: هم الَّذِين.
فصل
قال القُرْطُبِيُّ: وفي الآيَة دَلِيلٌ على أنَّ من عَمِل مَعْصِيَةً من الموحّدين، ليس بمنافِقٍ؛ لأنَّه لا يتولّى الكُفَّار، وتضمنت المَنْع من مُوالاة الكُفَّار، وأنْ يتَّخِذُوا أعْواناً على الأعْمال المُتَعَلِّقة بالدِّين، وفي الصَّحيح عن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «أنّ رجلاً من المُشْرِكين لحق بالنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُقَاتِل مَعَه، فقال: ارجعْ، فإنَّنا لا نَسْتَعِين بِمُشْرِكٍ» .
قوله: ﴿أيبتغون عندهم العزة﴾ أي: المَعُونة، والظُّهور على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، وقيل: أيطلبون عندهُم القُوَّة، والغَلَبة، والقُدْرة.
قال الواحدي: أصَلُ العِزَّة في اللُّغَة: الشِّدَّة، ومنه: قيل: للأرْضِ [الصَّلْبَة] الشَّديدة: عزَاز ويقال: قد استَعَزَّ المرضُ على المَرِيضِ: إذا اشتدَّ مَرَضُه وكاد أن يَهْلَكَ وعَزَّ الهَمُّ إذا اشْتَدَّ، ومنه: [عَزَّ] عليَّ أن يكُون كذا بِمَعْنَى: اشتَدَّ، وعز الشَّيْء: إذا قلَّ حتى لا يَكُادُ يُوجَد؛ لأنه اشتدَّ مطلبُهُ، واعتز فلانٌ بفلان: إذا اشتَدَّ ظَهْرُه به، وشاةٌ عَزُوزٌ: إذا اشتَدَّ حَلْبُها، والعِزَّة: القُوَّة، منقولة عن الشِّدَّة؛ لتقارب مَعْنَيْهما، والعَزِيز: القوي المَنِيع بخلاف الذَّلِيل، فالمُنَافِقُون كانوا يَطْلبون العِزَّة والقُوَّة، بسبب اتِّصالهم باليَهُود، فأبطل اللَّه عَلَيْهم هذا الرَّأي بقوله: ﴿فإن العزة لله جميعاً﴾ .
والثاني: قوله: «فإن العزة» لِما في الكلام من معنى الشَّرْط، إذ المَعْنَى: إن إن تَبْتَغُوا من هَؤلاء عِزَّةً ﴿فإن العزة لله جميعاً﴾ ، «جَمِيعاً» : حال من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في قوله: «لِلَّه» لوُقُوعهِ خَبَراً، [والمعنى: أنَّ العِزَّة ثبتَتْ لِلَّه - تعالى - حالة كونها جَمِيعاً] .
فإن قيل: هذا كالمُنَاقض لقوله: ﴿وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ [المنافقون: 8] .
فالجواب: أن القُدْرة الكامِلَة للَّه، وكل من سِوَاه فبإقداره صَار قادراً، وبإعْزَازه صارَ عَزِيزاً، فالعِزَّة الحَاصِلة للرسُول وللمُؤمنين لم تحصل إلا من اللَّه - تعالى -، فكان الأمْر عند التَّحْقِيقِ: أنَّ العِزَّة للَّه جَمِيعاً.
{"ayahs_start":137,"ayahs":["إِنَّ ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ ثُمَّ ءَامَنُوا۟ ثُمَّ كَفَرُوا۟ ثُمَّ ٱزۡدَادُوا۟ كُفۡرࣰا لَّمۡ یَكُنِ ٱللَّهُ لِیَغۡفِرَ لَهُمۡ وَلَا لِیَهۡدِیَهُمۡ سَبِیلَۢا","بَشِّرِ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا","ٱلَّذِینَ یَتَّخِذُونَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ أَوۡلِیَاۤءَ مِن دُونِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَۚ أَیَبۡتَغُونَ عِندَهُمُ ٱلۡعِزَّةَ فَإِنَّ ٱلۡعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِیعࣰا"],"ayah":"بَشِّرِ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ بِأَنَّ لَهُمۡ عَذَابًا أَلِیمًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق