وقوله: «وَإِنِ امرأة» : «امرأةٌ» فاعلٌ بِفعْلٍ مضمر واجب الإضْمَار، وهذه من باب الاشْتِغَال، ولا يجُوز رَفْعُها بالابْتداء، لأنَّ أداةَ الشَّرْطِ لا يَلِيها إلا الفِعْلُ عند جُمْهُور البَصْرِيِّين، خلافاً للأخفش، والكُوفيِّين، والتقديرُ: «وإنْ خافت امْرأةٌ خَافَتْ» ، ونحوهُ: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك﴾ [التوبة: 6] ، واستدلَّ البَصْرِيُّون على مَذْهَبهم: بأن الفعل قد جَاءَ مَجْزُوماً بعد الاسْمِ الوَاقِع بعد أداة الشَّرْط في قَوْل عديٍّ: [الخفيف]
1887 - وَمَتَى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وَتُعْطَفْ عَلَيْه كَأسُ السَّاقِي
قال بعضهم: خافت، أي: عَلِمَت، وقيل: ظَنَّت. قال ابن الخطِيب: ولا حَاجَة لِتَرْك الظَّاهر؛ لأن الخَوْف إنَّما يكون عند ظُهُور أماراتٍ [تدلُّ عليه] من جِهَة الزَّوْجِ، إمَّا قَوْلِيَّةٌ أو فِعْلِيَّةٌ.
قوله «مِن بَعْلِها» يجوزُ أن يَتَعَلَّق ب «خَافَت» وهو الظَّاهِر، وأن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنه حَالٌ من: «نُشوزاً» إذ هو في الأصْل صِفَةُ نكرةٍ، فلمَّا قُدِّم عَلَيْها، تعذَّر جَعْلُه صِفَةً، فنُصِب حالاً، و «فلا» جَوَابُ الشَّرْطِ، والبَعْل: يطلق على الزَّوْج، وعلى السَّيِّد.
قوله «أَن يُصْلِحَا» قرأ الكوفيون: «يُصْلِحا» من أصْلَح، وباقي السَّبْعة «يَصَّالحا» بتشديد الصَّاد بعدها ألف، وقرأ عثمان البتي والجَحْدَري: «يَصَّلِحا» بتشديد الصَّاد من غَيْر ألفٍ، وعبيدة السَّلَمَانِيّ: «يُصالِحا» بضمِّ الياءِ، وتخفيفِ الصَّادِ، وبعدَها ألفٌ من المُفَاعَلَة، وابن مَسْعُود، والأعْمش: «أن اصَّالحا» .
فأمّا قراءةُ الكوفيين فَوَاضِحَةٌ.
وقراءةُ باقي السَّبْعَة، أصلُهَا: «يتصالحا» ، فأُريد الإدْغَام تَخْفِيفاً؛ فأبْدِلت التَّاءُ صاداً وأدْغِمت، كقوله: «ادّاركوا» . وأمَّا قراءةُ عُثْمَان، فأصلُها: «يَصْطَلِحا» فَخُفِّفَ بإبْدَالِ الطَّاء المُبْدَلةِ من تاءِ الافْتِعَال صَاداً، وإدغامها فيما بَعْدَها.
وقال أبو البقاء: «وأصله:» يَصْتَلِحا «فأبْدِلت التاء صَاداً وأدْغِمت فيها الأولَى» وهذا ليس بِجَيِّدٍ، لأنَّ تاءَ الافْتِعَال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحْرُف الأرْبَعَة؛ كما تقدَّم تَحْقِيقُه في البَقرة، فلا حَاجَة إلى تَقْديرهَا تاءً؛ لأنه لو لُفِظ بالفِعْلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتَّاء إلا بَياناً لأصْلِه.
وأمَّا قراءةُ عُبَيْدة فواضحةٌ؛ لأنها من المُصَالَحة.
وأما قِرَاءة: «يَصْطَلِحَا» فأوضحُ، ولم يُخْتَلَفْ في «صُلْحاً» مع اختلافِهِم في فِعْلِهِ.
وفي نصبه أوجهٌ:
فإنه على قِرَاءة الكوفيين: يَحْتمل أن يكُونَ مَصْدَراً، وناصبُه: إمَّا الفِعْلُ المتقدِّمُ وهو مَصْدَرٌ على حَذْف الزَّوَائِد، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسْمُ مَصْدرٍ كالعَطَاءِ والنَّبَات، وإمَّا فِعْلٌ مقدرٌ أي: فيُصْلِحُ حَالَهُما صُلْحاً. وفي المَفْعُولِ على هذين التَّقْدِيرين وَجْهَان:
أحدُهما: أنه «بَيْنَهُمَا» اتُسِّع في الظَّرْف فجُعِل مَفْعُولاً به.
والثاني: أنه مَحْذُوف و «بينهما» ظرفٌ أو حَالٌ مِنْ «صلحاً» فإنه صِفةٌ له في الأصْلِ، ويُحْتمل أن يكُونَ نصبُ «صُلْحاً» على المَفْعُول به، إن جَعَلته اسماً للشيء المُصْطَلح عليه؛ كالعَطَاء بِمَعْنَى: المُعْطى، والثبات بِمَعْنَى: المُثْبَت.
وأمَّا على بقيةِ القِراءاتِ: فيجوزُ أنْ يكونَ مَصْدَراً على أحدِ التَّقْديرين المتقدمين: أعني: كونَه اسمَ المصدرِ، أو كونَه على حَذْفِ الزَّوَائِد، فيكون وَاقِعاً موقع «تَصَالَحَا، أو اصْطِلاَحاً، أو مصالحةً» حَسْبَ القِرَاءات المتقدِّمة، ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً على إسْقَاطِ حرفِ الجَرِّ، أي: بصُلْحِ، أي: بشيء يَقعُ بسببِ المُصَالَحة، إذا جَعَلْناه اسْماً للشَّيْءِ المُصْطَلَح عليه.
والحاصلُ أنه في بَقِيَّة القراءات يَنْتَفي عنه وَجْهُ المَفْعُولِ به المَذْكُورِ في قِرَاءة الكوفِيِّين، وتَبْقَى الأوْجُهُ البَاقِيةُ جَائِزةً في سائر القِراءاتِ.
قوله: «والصُّلْحُ خيرٌ» : مبتدأ وخبر، وهذه الجُمْلَة قال الزمخشري فيها وفي التي بعدها: «إنهما اعْتِرَاضٌ» ولم يبيِّنْ ذلك، وكأنه يُريد أنَّ قوله: «وإنْ يتفرَّقا» مَعْطُوفٌ على قوله: «فَلاَ جُنَاْحَ» فجاءت الجُمْلَتانَ بينهما اعْتِرَاضاً؛ هكذا قال أبو حيَّان.
قال شهاب الدين: وفيه نظر، فإن بَعْدهما جُمَلاً أخَرَ، فكان ينبغي أن يَقُول الزَّمَخْشَرِي في الجَمِيع: إنها اعْتِرَاضٌ، ولا يَخُص: «والصُّلْح خَيْر» ، وأُحْضِرَت الأنفسُ [الشُّح] بذلك، وإنما يُرِيد الزَّمَخْشَرِيُّ بذلك: الاعتراض بَيْن قوله: «وإن امْرَأةٌ» وقوله: «وَإِن تُحْسِنُواْ» فإنهما شَرْطَان متعاطفانِ، ويَدُلُّ عليه تَفْسِيرُه له بما يُفِيدُ هذا المَعْنَى، فإنه قال: «وإن تحسنُوا بالأقَامَة على نِسَائِكُم، وإن كَرِهْتُموُهن وأحببتم غَيْرَهُن، وتتقوا النُّشوزَ والإعْرَاض» انتهى.
فصل
والألِف واللاَّم في الصُّلح يَجُوز أن تكون للجِنْس، وأن تكونَ للعهْد؛ لتقدُّمِ ذكره، نحو: ﴿فعصى فِرْعَوْنُ الرسول﴾ [المزمل: 16] .
فعلى الأوَّل وهو أنه مُفْرَد محلًّى بالألِف واللاَّم فهل يُفيدُ العُمُومَ، أم لاَ؟ فإن قُلْنَا: يفيد العُمَوم؛ فإذا حصل هُنَاك مَعْهُود سِابِقٌ، فهل يُحْمَل على العُمُوم، أم على المَعْهُود السِّابق؟ [و] الأوْلى: حَمْله على المَعْهُود السَّابِق، لأنا إنَّما حَمَلْنَاهُ على الاسْتِغْرَاق ضَرُورَة أنَّا لو لم نَقُل ذلك لخرج عن الإفَادَة، وصار مُجْمَلاً، فإذا حَصَل مَعْهُود سَابِقُ، اندفع هذا المَحْذُور، فوجب حَمْلُه عليه.
وإذا عَرَفْت هذه المُقَدِّمة: فمن حَمَلَهُ على المَعْهُود السَّابِق، قال: الصُّلْح بين الزَّوْجَيْن خير من الفُرْقَة، ومن حَمَلَهُ على الاسْتِغْرَاقِ، تمسَّك به في أنَّ الصُّلْح على الإنْكَار جَائز، وهُمُ الحَنفيَّة و «خير» : يُحْتمل أن تَكُون للتَّفْضِيل على بَابِها، والمفضَّلُ عليه مَحْذُوفٌ، فقيل: تقديرُه: من النُّشُوز، والإعْرَاض، وقيل: خيرٌ من الفُرْقَة، والتَّقْدِير الأولُ أوْلى؛ للدلالة اللَّفْظِيَّة، ويُحْتمل أن تَكثون صِفَةً مجرَّدَةً، أي: والصُّلَحُ خيرٌ من الخُيُور؛ كما أنَّ الخُصُومة شرٌّ من الشُّرُور.
* فصل في سبب نزول الآية
هذه الآية نزلت في عمرة ويُقَال: خَولة بِنْت محمَّد بن مَسْلَمة، وفي زَوْجَها سَعْد ابن الرَّبِيع، ويقال: رَافِع بن خُدَيْج تزوَّجَهَا وهي شَابَّة، فلما علاَهَا الكِبَر، تزوَّجَ عليها امْرَأة شابَّةً، فآثرها عليها، وجَفَا ابْنَه محمَّد بن مسلمة، فأتت رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فشكت ذلك إلَيْه، فنزلت الآية.
وقيل: نزلت في سَوْدَة بنت زمْعَة، حين أرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُطَلِّقها، فالتمست أن يُمْسِكَها وتَجْعَل نَوْبَتَها لِعَائِشَة، فأجازَه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يطلقها.
وروي عن عَائِشَة، أنها قَالَت: نزلت في المَرْأة تكون عند الرَّجُل، ويُرِيد أن يَسْتَبْدِلَ [بها] غيرها، فتقول: أمْسِكْنِي، وتزوج بِغَيْري، وأنت في حِلٍّ من النَّفَقَةِ [والقَسْم] .
وقال سَعِيد بن جُبَير: نزلت في أبِي السَّائِب، كان له امْرَأةٌ قد كَبِرت، وله مِنْهَا أوْلاد، فأراد أن يُطَلِّقَها ويتزوَّجَ بِغَيْرِها، فقالت: لا تطلِّقْنِي، ودعنِي على وَلَدِي، فاقْسم لي مِنْ كلِّ شَهْرَيْن إن شِئْتَ، وإن شئِتْ فلا تَقْسِم لي، فقال: إن كَانَ يصلحُ ذَلِك؛ فهو أحَبُّ إليّ، فأتَى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكر لَهُ ذَلِك. فأنزل الله ﴿وإن امْرأةٌ خافت﴾ أي: علمت قيل: وظَنَّتْ، وقيل: مُجَرَّد الخَوْف عِنْد [ظُهُور] أمارات النُّشُوز، وهو البُغْضُ والشِّقَاق، من النَّشْز: وهو ما ارتفع عَنِ الأرْض.
قال الكَلْبِيُّ: نشوز الرَّجُل: ترك مُجَامَعَتِها، وإعراضُهُ بوجْهه عَنْها، وقلة مُجَالَسَتِها، ﴿فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ﴾ أي: على الزَّوج والمَرْأة أن يتصالَحَا، والصُّلْحُ إنَّما يحصُلُ في شَيْءٍ يكون حَقًّا له، وحقُّ المرأة على الزَّوْج: إما المَهْر، أو النَّفَقَة، أو القَسْم. فهذه الثلاثة هي التي تَقْدِر المرأة على طلبها من الزَّوْجِ، شاء أم أبَى، وأما الوَطءُ فلا يُجبرُ عليه إلاَّ في بعض الصُّوَر، وإذا كَان كَذَلك، فإذا كَانَتْ هي المُحْسِنَة، ولا تُجْبَر على ذلك، وإن لم تَرْضَ، كان على الزَّوْج أن يُوَفِّيها حقها من القَسْم والنَّفقة [أو يُسَرِّحها بإحْسَان، فإن أمْسَكها ووفَّاها حقَّها مع كَراهِيَّتهِ، فهو المُحْسِن.
وروى سُليْمَان بن يَسَار، عن ابن عبَّاسٍ: فإن صَالَحَتْهُ عن بَعْضِ حقها من القَسْم والنَّفَقَةِ،] فذلك جائز ما رَضِيت، فإن أنْكَرَت بعد الصُّلْح، فذلك لَهَا، ولها حَقُّهَاِ.
ثم قال: «والصُّلْح خَيْر» [يعني: إقَامَتَهَا] بعد تَخْييره إيَّاهَا، والمُصَالَحة على تَرْك بَعْضِ حَقِّها، خَيْر من الفُرقَة.
كما رُوِي أن سَوْدة كانت امْرأةً كبِيرةً، أراد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُفَارِقَهَا، فقالت: لا تطلِّقْنِي، وكفاني أن أبْعَث في نِسَائِكَ، وقد جَعَلْتُ نوبتي لِعَائِشَة، فأمْسَكَها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان يَقْسِمُ لِعائِشَة يَوْمَها ويَوْمَ سَوْدَة.
فصل
قال - تعالى -: ﴿فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا﴾ ، وذلك يُوهِمُ أنَّه رخصة، والغايةُ فيه: ارْتِفَاع الإثْم، فبين - تعالى - أنَّ هذا الصُّلح كما أنَّه لا جُنَاح فيه ولا إثْم، ففيه خَيْر عَظِيمٌ.
قوله: ﴿وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح﴾ «حَضَر» يتعدى إلى مَفْعُول، واكتسب بالهمزة مفعُولاً ثانياً، فلمَّا بُني للمفعُول، قامَ أحدهما مقام الفاعل، فانتصب الآخرُ، والقائمُ مقام الفاعِلِ هنا يَحْتمل وجهين:
أظهرهما - وهو المشهُورُ من مذاهب النُّحَاة -: أنه الأول وهو «الأنْفُسُ» فإنه الفاعِل في الأصْلِ، إذ الأصْل: «حَضرت الأنْفُسُ الشُحَّ» .
والثاني: أنه المفعُول الثاني، والأصل: وحضر الشُحُّ الأنْفُسَ، ثم أحْضَر اللَّهُ الشُحَّ الأنْفُسَ، فلما بُنِيَ الفِعْل للمفعُول أقيم الثانِي - وهو الأنْفُسُ - مقامَ الفَاعِلِ، فأخِّر الأوَّل وبقي منصوباً، وعلى هذا يَجُوز أن يُقَال: «أُعْطِي درهمٌ زَيْداً» و «كُسِي جُبَّة عَمراً» ، والعَكْس هو المشهُورُ كما تقدَّم، وكلامُ الزَّمَخْشَرِي يَحْتمل كَوْنَ الثاني هو القَائِم مقام الفاعل؛ فإنه قال: «ومعنى إحْضَارِ الأنْفُس الشُحَّ: أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها، لا يَغِيب الفاعل؛ فإنه قال:» ومعنى إحْضَارِ الأنْفُسِ الشُحَّ: أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها، لا يَغِيب عنها أبداً ولا يَنْفَكُّ» يعني: أنها مَطْبُوعةٌ عليه، فأسْنِد الحضور إلى الشُحِّ كما ترى، ويحتمل أنه جعله من باب القلْب، فنسب الحُضُورَ إلى الشُحِّ، وهو في الحقيقة مَنْسُوبٌ إلى الأنْفس. وقرأ العَدَوِي: «الشِّحَّ» بكسر الشين وهي لُغَة، والشُّحُّ: البُخْل مع حرص؛ فهو أخَصُّ من البُخْل.
قال القرطبي: وهذه الآية إخبار في كُلِّ أحدٍ، وأنَّ الإنْسَان لا بُد أن يشح بِحُكْم خِلْقَتِه، وجبلَّته، حتى يَحْمِل صَاحِبَه على بَعْض ما يَكْرَه، ويقال: الشُحُّ: هو البُخْل، وحقيقته: الحِرْص على مَنْع الخَيْر. والمُرادُ به ههنا: شُح كل واحدٍ من الزَّوْجَيْن بِنَصِيبهِ من الآخَر، فَتَشِحُّ المرأة: ببذل حقِّها، ويَشِحُّ الزَّوْج: بأن يَنْقَضِي عمره مَعَهَا مع دَمَامَة وَجْهِها، وكبر سِنِّها، وعدم حُصُول اللَّذَّة بِمُجَالَسَتِها.
فصل
قال القرطبي: والشُّحُّ: الضبط على المُعْتَقَدَات والإرادَة، وفي الهِمَمِ والأمْوال، ونحو ذلك، فما أفْرِط منه على الدِّين، فهو محمود، وما أفْرِطَ منه في غَيْرِهِ، ففيه بَعْض المذمَّة. وهو قوله - تعالى -: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ [التغابن: 16] الآية، وما صَار مِنْه إلى حَيِّز مَنْع الحُقُوقِ [الشَّرعيَّة] أو الَّتِي تَقْتَضِيهَا المُرُوءة، فهو البُخْلُ؛ [و] هي رذيلة، وإذا آلَ البُخْل إلى هَذِه الأخْلاَق المَذْمُومَةِ، لم يبق [معه] خيرٌ ولا صَلاَحٌ.
روى الماوَرْدِيُّ: «أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال للأنْصَار: من سَيِّدُكُم؟ قالوا: الجَدُّ بن قَيْس على بُخْلٍ فيهه؛ فقال النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» وأي داء أدْوَى من البُخْل «قالوا: وكيف ذَاكَ يا رسُولَ اللَّه؟ قال: إنَّ قوماً نزلوا بسَاحِل، فكرهوا لِبُخْلِهِم نُزُولَ الأضْيَافِ بِهِم، فقالوا: ليَبْعد [الرِّجَال] منَّا عن النِّساء؛ حتى يَعْتَذِر الرَّجَال إلى الأضْيَافِ ببعد النِّسَاء، ويعتَذِر النِّسَاء ببُعْد الرَّجَالِ، ففعلوا وطال ذَلِكَ فِيهِمْ، فاشْتَغَل الرَّجَال بالرَّجَال، والنِّسَاء بالنِّسَاء» .
ثم قال: «وإنْ تُحْسِنُوا» أي: تُصْلِحُوا «وتَتَّقوا» : الجور.
وقيل: هذا خِطَابٌ مع الأزواج، أي: وإن تُحْسِنُوا بالإقَامَة مَعَها مع الكَرَاهَةِ، وتتقوا ظُلْمَها بالنُّشُّوزِ والإعْرَاض.
وقيل [هو] خِطاب لغيرهما، أي: تُحْسِنُوا في الصُّلْح بينهما، وتَتَّقُوا المَيْل إلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فإن اللَّه كان بما تَعْمَلُون خَبِيراً، فيجزيكم بأعْمَالِكُم.
حكى صَاحِب الكَشَّاف: أن عِمْرَان بن حطَّان الخَارِجيَّ كان من أذَمِّ بني آدَم، وامرأته من أجْمَلِهِم، فَنَظَرَت إليه يَوْماً، ثم قالت: الحَمْدُ للَّهِ، فقال: مَا لَكِ؟ فقالت حَمَدْتُ اللَّه على أنِّي وإيَّاك من أهْل الجَنَّة؛ لأنك رُزِقْتَ مِثْلِي، فشكَرْت، ورُزِقْتُ مِثْلك؛ فَصَبَرْتُ، وقد وَعَد اللَّه بالجَنَّة الشَّاكرين والصَّابرين.
{"ayah":"وَإِنِ ٱمۡرَأَةٌ خَافَتۡ مِنۢ بَعۡلِهَا نُشُوزًا أَوۡ إِعۡرَاضࣰا فَلَا جُنَاحَ عَلَیۡهِمَاۤ أَن یُصۡلِحَا بَیۡنَهُمَا صُلۡحࣰاۚ وَٱلصُّلۡحُ خَیۡرࣱۗ وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّۚ وَإِن تُحۡسِنُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِمَا تَعۡمَلُونَ خَبِیرࣰا"}