قال الوَاحِدِي: النَّجْوى في اللُّغَة سر بين اثْنَيْن، يُقَال: ناجَيْت الرَّجل مُنَاجَاة ونِجَاء، ويقال: نجوت الرَّجُل أنْجُو بِمَعْنَى: نَاجَيْتُه، والنَّجْوى قد تكون مَصْدراً بمنزلة المُنَاجَاةِ، قال - تعالى -: ﴿مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ﴾ [المجادلة: 7] وقد يُطْلَق على الأشْخَاص مَجَازاً، قال - تعالى -: ﴿وَإِذْ هُمْ نجوى﴾ [الإسراء: 47] ومَعْنَاها: المُسَارّة، ولا تكون إلا مِن اثْنَيْن فأكثَر.
وقال الزَّجَّاج: [النَّجْوى] ما تفرَّد به الاثْنَان فأكْثر، سِرًّا كان أو ظَاهِراً.
وقيل: النَّجْوى جمع نَجِيّ؛ نقله الكَرْمَاني، والنَّجْوى مشتقَّةٌ من نَجَوْتُ الشيء، أنْجُوه، إذا خَلَّصْتَه وأفْرَدْتَه، والنَّجْوة المُرْتَفِعُ من الأرْضِ؛ لانْفِرَاده بارتفاعه عمَّا حَوْله.
* فصل فيمن المقصود بالآية؟
والمراد بالآية: قَوْم طعمة.
وقال مُجَاهد: الآية عَامَّة في حَقِّ جميع النَّاسِ، والنَّجْوى: هي الإسْرَار في التَّدْبِير.
وقيل: النَّجْوى: ما يَنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِه قَوْمٌ، سِرّاً كان أوْ عَلاَنِيَة، ومَعْنَى الآيَة: لا خَيْر في كَثِيرٍ مما يُدَبِّرُونه بَيْنَهُم، إلاَّ من أمَرَ بِصَدَقَة، أوْ معروفٍ، أو إصلاحٍ بين النَّاسِ فالاستِثْنَاء يكون مُتَّصِلاً، وقيل: هو استِثْنَاء مُنْقَطِع بمعنى: لكن من أمر بِصَدقَةٍ، وهذان القَوْلان مبنيّان على أن النَّجْوى يجوز أن يراد بها: المَصْدرُ كالدَّعْوى؛ فتكون بِمعنَى: التناجي، وأنْ يُرادَ بها: القَوْمُ المتناجُون إطلاقاً للمَصْدرِ على الوَاقِع منه مجازاً، نحو: «رجلٌ عَدْلٌ وصَوْمٌ» . فعلى الأول يكون مُنْقَطِعاً؛ لأنَّ مَنْ أمَر لَيْس تَنَاجِياً؛ فكأنه قيل: لكنْ مَنْ أمَر بصدَقةٍ، ففي نَجْوَاه الخيرُ، والكوفِيُّون يقدِّرون المُنْقَطع ب «بل» ، وجعل بعضهم الاستِثْنَاء متَّصِلاً، وإنْ أُريد بالنَّجْوى: المصدرُ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ؛ كأنه قيل: إلا نَجْوَى مَنْ أمر وعلى هذا يَجُوز في مَحَلٍّ «مِنْ» وجهان:
أحدهما: الخَفْضُ بدل من «نَجْوَاهُم» ؛ كما تقول: «ما مَرَرْتُ بأحد إلا زَيْدٌ» .
والثاني: النَّصْب على الاستِثْناء [كما تقول: «مَا جَاءني أحَدٌ إلا زَيْدٌ، على الاستثناء؛] لأنَّ هذا استِثْنَاء الجِنْس من الجِنْس وإن جعلنا النَّجْوى بِمَعنى: المُتناجين، كان مُتَّصِلاً، وقد عَرَفْتَ مِمَّا تقدَّم أن المنقطع مَنْصُوبٌ أبداً في لغة الحِجاز، وأنَّ بَنِي تَمِيم يُجرونه مُجْرى المُتَّصِل، بشرط توجُّه العَامِل عليه، وأنَّ الكَلاَمَ إذا كان نفياً أو شبهه، جاز في المُسْتَثْنَى الإتباعُ بدلاً، وهو المختار، والنَّصْبُ على أصْل الاستِثْنَاء، فقوله» إلا مَنْ أمَر» : إما مَنصُوبٌ على الاستِثْنَاء المُنْقَطِع، إنْ جَعَلْتَه مُنْقطعاً في لغة الحِجَاز، أو على أصْلِ الاستِثْنَاء إن جعلته مُتَّصلاً، وإمَّا مَجْرورٌ على البَدَلِ من «كثير» ، أو من «نجواهم» ، أو صِفَةٌ لحدهما؛ كما تقُول: «لا تَمُرُّ بجماعة من القَوْم إلا زيد» إنْ [شئت] جَعلْتَ زَيْداً تَابِعاً للجماعةِ أو للقوم، ولم يجعله الزَّمَخْشَرِي تَابِعاً إلا» لِكَثير «قال: إلا نَجْوَى مَنْ أمَر، على أنَّه مَجْرورٌ بَدَلٌ من» كَثِيرٍ» ؛ كما تقُولُ: «لا خير في قِيامهم إلا قيام زيدٍ» وفي التَّنْظِير بالمثال نظرٌ لا تَخْفَى مباينته للآية، هذا كُلُّه إن جعلنا الاستِثْناء مُتصِلاً بالتَّأويلين المَذْكُورين، أو مُنْقَطِعاً على لغة تميم، وتلخَّص فيه سِتَّة أوْجُه: النَّصبُ على الانقطاع في لغة الحجاز، أو على أصْلِ الاستثناءِ، والجرُّ على البَدَل من «كَثِير» ، أو من «نَجْوَاهُم» ، أو على الصِّفَةِ لأحدهما.
و «مِنْ نَجْوَاهُمْ» متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل «كثير» في مَحَلِّ جَر.
فصل
إنَّما ذكر - تعالى - هذه الأقْسَام الثَّلاثة؛ لأن عَمَل الخَيْر، إمَّا أن يكُون بإيصَال المَنْفَعَةِ، أو بدفع المَضَرَّة، وإيصال الخَيْر:
إمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الجسْمَانِيَّة، وهو إعْطاء المَالِ، وإليه الإشارة بقوله: «إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ» .
وإمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الرُّوْحَانية، وإليه الإشارة بقوله: «أَوْ مَعْرُوفٍ» .
وإمَّا إزالة الضَّرَرِ وإليه الإشارة بقوله: ﴿أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس﴾ .
قوله «بَيْن» يجُوز أن يكون مَنْصُوباً بِنَفْس إصْلاح، تقول: أصْلَحْت بَيْن القَوْم، قال - تعالى -: ﴿فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ﴾ [الحجرات: 10] ، وأن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّه صِفَة لإصلاح.
[و] قوله: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ أي: هذه الأشْيَاء، ﴿ابتغآء مَرْضَاتِ الله﴾ أي: طَلَب رِضَاه، و «ابْتِغَاء» مَفْعُول من أجْله، وألِفُ «مَرْضَاتِ» عن وَاوٍ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُه.
فإن قِيلَ: كَيْف قال: ﴿إِلاَّ مَنْ أَمَرَ﴾ ثم قال: ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذلك﴾ .
فالجواب: أنَّه ذكر الأمْرَ بالخير، ليَدُل به على فَاعِلِه؛ لأنَّ الآمِرَ بالخَيْر لما دَخَل في زُمْرَة الخَيِّرين، فبأن يَدْخل فَاعِل الخَيْر فيهم أوْلى، ويجوز أن يُرَاد: ومن يأمُر بذلك، فعبر عن الأمْر بالفعل؛ لأنَّ الأمْر أيضاً فِعْل من الأفعال.
ثم قال: «فسوف يُؤتيه» بالياء نظراً إلى الاسْمِ الظَّاهر في قوله: «مَرْضَات الله» ، وقرئ بالنُّون؛ نظراً لِقَوله بعدُ: «نُولِّه، ونُصْلِه» وهو أوقعُ للتَّعْظِيم.
{"ayah":"۞ لَّا خَیۡرَ فِی كَثِیرࣲ مِّن نَّجۡوَىٰهُمۡ إِلَّا مَنۡ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوۡ مَعۡرُوفٍ أَوۡ إِصۡلَـٰحِۭ بَیۡنَ ٱلنَّاسِۚ وَمَن یَفۡعَلۡ ذَ ٰلِكَ ٱبۡتِغَاۤءَ مَرۡضَاتِ ٱللَّهِ فَسَوۡفَ نُؤۡتِیهِ أَجۡرًا عَظِیمࣰا"}