الباحث القرآني

قوله: ﴿قُلْ إنَّما أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ﴾ أي آمركم وأوصيكم بواحدة أي بخصلة واحدة ثم بين تلك الخصلة فقال: ﴿أنْ تَقُومُوا لِلَّهِ﴾ أي لأجل الله. قوله: «أن تقوموا» فيه أوجه: أحدها: أنها مجرورة المحل بدلاً من «وَاحِدَةٍ» على سبيل البيان. قاله الفارسي. الثاني: أنها عطف بيان «لواحدة» قاله الزمخشري. وهو مردود لتخالفها تعريفاً وتنكيراً، وقد تقدم هذا عند قوله: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران: 97] . الثالث: أنها منصوبة بإضمار «أَعْنِي» . الرابع: أنها مرفوعة على خبر ابتداء مضمر أي هي أن تقوموا، و «مَثْنَى وفُرَادَى» حال وتقدم تحقيق القول في «مثنى» وبابه في سورة النساء، ومضى القول في «فُرَادَى» في الأنعام، ومعنى «مَثْنَى» أي اثنين اثنين، و «فُرَادَى» واحداً واحداً. ثم قوله: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ عطف على «أنْ تَقُومُوا» أي قِيَامكُمْ ثم تَفَكُّركُمْ، والوقف عند أبي حاتم على هذه الآية مث يتبدئ: «مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةِ» وقال مقاتل: تم الكلام (عند) قوله: ﴿ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا﴾ أي في خلق السموات والأرض فتعلموا أن خالقهما واحد لا شريك له. قوله: ﴿مَا بِصَاحِبكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ وفي «ما» هذه قولان: احدهما: أنها نافية والثانية: أنها استفهامية لكن لا يراد به حقييقة الاستفهام فيعود إلى النفي. وإذا كانت نافية فهل هي معلقة أو مستأنفة أو جواب القسم الذي تضمنه معنى «تَتَفَكَّرُوا» لأنه فعل تحقيق كتَبَيَّنَ وبابه؟ ثلاثة أوجه نَقَل الثَّالِثَ ابنُ عطية. وربما نسبه لِسِيبويهِ، وإذا كانت استفهامية جاز فيها الوجهان الأولان دون الثالث و «مِنْ جنَّةٍ» يجوز أن يكون فاعلاً بالجار لاعتماده وأن يكون مبتدأ ويجوز في «ما» إذا كانت نافية أن تكون الحجَازيَّة أو التَّمِيميَّة. قوله: ﴿مثنى وفرادى﴾ إشارة إلى جمعي الأحوال فإن الإنسان إما أن يكون مع غيره فيدخل في قوله «مَثْنَى» وإن كان وحده دخل في قوله: «فُرَادَى» فكأنه قال: تَقُومُوا لله مجتَمعِينَ ومُنْفَرِدِين لا يمنعكم الجمعيَّةُ من ذكر الله ولا يحوجكم الانفراد يُعينكم على ذكر الله ثم تتفكروا في حال محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فتعلموا ما بصاحبكم من «جنة» جنون. وليس المراد من القيام القيام ضد الجلوس وإنما هو القايم بالأمر الذي هو طلب الحق كقوله: ﴿وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط﴾ [النساء: 127] قال ابن الخطيب وقوله: ﴿بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ﴾ يفيد كونه رسولاً وإن كان يظهر من أشياء لا تكون مقدورة للبشر وغير البشر من يظهر منه العجائب إما الجن وإما الملك فإذا لم يكن الصادر من النبي - عليه السلام - بواسطة الجن بل بقدرة الله من غير واسطة وعلى التقديرين فهو رسول الله وهذا من أحسن الطُّرق، وهو الذي يثبت الصفة التي هي أشرف الصفات في البشر بنفي أخسِّ الصفات فإنه لو قال أولاً هو رسول كانوا فيه النِّزاع فإذا قال: ما هو مجنون لم يسعهم إنكار ذلك، ليعلمهم بعلو شأنه وحاله في قوة لسانه، فإذا ساعدوا على ذلك لزمتهم المسألة ولهذا قال بعده: ﴿إنْ هُوَ نَذِيرٌ لَكُمْ﴾ يعني إما هو به جِنّة وهو رسول لكن تبين أنه ليس به جنة فهو نذير. وقوله: ﴿بَيْنَ يَدِيْ عَذَابِ شَدِيدٍ﴾ إشارة إلى قرب العذاب كأنه قال بنذركم بعذاب حاضر يَمَسّكم عن قريبٍ. قوله: ﴿قُلَ مَا سألتُكُمْ مِنْ أجْرٍ﴾ في «ما» وجهان: أحدهما: أنها شرطية فيكون مفعولاً مقدماً و «فهُوَ لَكُمْ» جوابها. والثاني: أنها موصولة في محل رفع بالابتداء والعائدمحذوف أي سأَلْتُكُمُوهُ والخبر: «فَهُوَ لَكُمْ» ودخلت الفاء لشبه الموصول بالشرط والمعنى يحتمل أنه لم يسألهم أجراً البتة كقولك: إن أعْطَيْتَنِي شيئاً فخذه مع عملك أي لم يُعْطِكَ شيئاً وقول القائل: ما لي من هذا فقد وهبته لك يريد ليس لي فيه شيء. ويؤيده: ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله﴾ ويحتمل أن سألهم شيئاً نفعُه عائدٌ عليهم وهو المراد بقوله: ﴿إِلاَّ المودة فِي القربى﴾ [الشورى: 23] «إنْ أَجْرِيَ» ما ثوابي ﴿وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ﴾ . قوله: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق﴾ يجوز أن يكون «يَقْذِفُ بالْحَقِّ» مفعوله محذوفاً لأن القَذْفَ في الأصل الرمي وعبر عنه هنا عوضاً عن الإلقاء أي يلقي الوحي إلى أنبيائه «بالْحَقِّ» أي بسبب الحق أو ملتبساً بالحق. ويجوز أن يكون التقدير يَقْذِفُ الباطلَ بالحقِّ أي يدفعه ويطرحه، كقوله تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل﴾ [الأنبياء: 18] ويجوز أن يكون الباء زائدة أي نُلْقِي الحَقِّ، كقوله: ﴿وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ﴾ [البقرة: 195] أو تضمن «يقذف» معنى يقتضي ويحكم، والقذف الرمي بالسهم أو بالحَصَاةِ أو الكلام. قال المفسرون: معناه نأتي بالحق بالوحي ننزله من السماء فنقذفه إلى الأنبياء قوله: ﴿عَلاَّمُ الغيوب﴾ العامة على رفعه وفيه أوجه: أظهرها: أنه خبر (ثانٍ) ل «إنّ» أو خبر لمتبدأ مضمر أو بدل من الضمير في «يَقْذِفُ» أو نعت له على رأي الكسائي؛ لأنه يُجيزُ نعت الضمير الغائب. وقد صرح به هنا وقال الزمخشري: رفع على محل إنَّ واسْمِها، أو على محل إنَّ اسْمِها، أو على المستكِنِّ في «يَقذف» يعني بقوله محمول على محل إنَّ واسْمِهَا يعني به النعت إلا أن ذلك ليس مذهب البصريين لأنهم لم يعتبروا المحل إلا في العطف بالحرف بشروط عند بعضهم. ويرد بالحمل على الضمير في نقذف أنه بدل منه لا أنه نعت له لأن ذلك انفرد به الكسائي، وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيِّ وعيسَى بْنُ عُمَرَ وابنُ أبي إسْحَاقَ بالنصب نعتاً لاسم إنَّ أو بدلاً منه على قلة الابدال بالمشتق أو منصوب على المدح. وقرئ الغُيُوب بالحركات الثلاث في الغين. فالضم تقدما في «بُيُوتٍ» وبابه. وأما الفتح صيغةُ مبالغة كالشَّكُورِ والصَّبُورِ وهو الشيء الغائب الخَفِيُّ. فصل قال ابن الخطيب في يقذف بالحق وجهان: أحدهما: نقذف بالحق في قلوب المحقين. وعلى هذا تُعَلَّقُ الآية بما قبلها من حيث إن الله تعالى لما بين رسالة النبي - عليه (الصلاة و) السلام - بقوله: ﴿إنْ هُوَ إلاَّ نَذِيرٌ﴾ وأكده بقوله: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُم﴾ وكان من عادة المشركين استعباد تخصيص واحد من بينهم بإنزال الذكر عليه كما حكى عنهم قولهم: ﴿أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا﴾ [ص: 8] ذكر ما يصلح جواباً لهم فقال: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق﴾ في القلوب (إشارة إلى أن الأمر بيده يفعل ما يريد ويعطي ما يشاء كما يريد من غير اختصاص محل الفعل بشيء لا يوجد في غيره لا يكون عالماً وإنما ذلك فعل اتفاقاً، كما يصيب السهم موضعاً دون غيره مع تسوية المواضع في المحاذاة، فقال: «بالْحقِّ» كيف شاء وهو عالم بما يفعله (دعاكم) بعواقب ما يفعله إذْ هُو عَلاَّم الغُيُوب فهو كما يريد لا كما يفعل الهاجمُ الغافلُ عن العَوَاقب. الوجه الثاني: أن المراد منه أنه يقذف بالحق على الباطل كقوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ﴾ [الأنبياء: 18] وعلى هذا تعلق الآية بما قبلها من حيث إن براهين التوحيد لما ظهرت وشبهتهم داحضة قال: «إن ربي يقذف بالحق» أي يُبْلي باطلكم. وعلى هذا الوجه فقوله: «علام الغيوب» هو أنّ البرهان المعقول لم يقع إلا على التوحيد والرسالة وأما الحشر فلا بُرْهَان على وقوعه إلا إخبار الله تعالى عنه وعن أحواله وأهواله ولولا بيان الله بالقول لما بان لأحد بخلاف التوحيد والرسالة فلما قال: ﴿يَقْذِفُ بالحق﴾ أي على الباطل أشار به إلى ظهور البراهين على التوحيد والنبوة. ثم قال: «عَلاَّم الغُيُوبِ» أي ما يخبره عن الغيب وهو قيام الساعة وأهوالها فهو لا خُلْف فيه فإن اله علام الغيوب. وتحتمل الآية وجهاً آخر هو أن يقال:» ﴿رَبِّي يَقْذِفُ بالحق﴾ أي ما يقذفه بالحق لا بالباطل. والباء على الوجهين الأولين متعلق بالمفعول به والحق مقذوف على الوجهين الأولين وعلى هذا الباب في قوله: «بالحق» كالباء في قوله تعالى: ﴿فاحكم بَيْنَ الناس بالحق﴾ [ص: 26] والمعنى على هذا الوجه هو أن الله تعالى قذف ما قذف في قلوب الرسل وهو علام الغيوب يعلم ما في قلوبهم وما في قلوبكم. قوله: ﴿قُلْ جَآءَ الحق﴾ يعني القرآن. وقيل: التوحيد والحشر، وكلّ ما ظهر على لسان النبي - عليه (الصلاة و) السلام. وقيل المعجزات الدالة على نبوة محمد - عليه (الصلاة و) السلام وقيل: المراد من جاء بالحق أي ظهر الحق لأن كلَّ ما جاء فقد ظهر. قوله: ﴿وَمَا يُبْدِيءُ﴾ يجوز في «ما» أن تكون نفياً، وأن تكون استفهاماً، ولكن يَؤُول معناها إلى النفس، ولا مفعول «ليُبْدِئُ» ولا «لِيُعِيدُ» إذ المراد لا يوقع هذهين الفعلين كقوله: 4142 - أقَفَرَ مِنْ أَهْلِهِ عُبَيْدُ ... أَصْبَحَ لاَ يُبْدِي وَلاَ يُعِيدُ وقيل: مفعوله محذوف أي ما يُبْدِئُ لأهله خبراً ولا يُعِيدُه، وهو تقدير الحسن. والمعنى: ذَهَبَ البَاطِلُ ووَهَن فلم يبق منه بقية يبدي شيئاً أو يعيد. وهو كقوله: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ﴾ [الأنبياء: 18] وقال قتادة: الباطل هو إبليس أي ما يخلق إبليسُ أحداً ابتداء ولا يبعثه. وهو (قول) مقاتل والكلبِّي، وقيل: الباطل الأصنام. قوله: ﴿إنْ ضَلَلْتُ﴾ العامة على فتح لامه في الماضي وكسرها في المضارع ولكن بنقل الساكن قبلها. وابن وثاب بالعكس وهو لغةُ تميمٍ وتقدم ذلك. فصل قال المفسرون: إن كفار مكة كانوا يقولون: إنك ضللت حتى تركت دين آبائك، فقال الله تعالى: ﴿قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي﴾ أي إثم ضلالي على نفسي ﴿وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي﴾ من القرآن والحكمة ﴿إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾ . قوله: ﴿فِبِمَا يُوحِي﴾ يجوز أن تكون «ما» مصدرية أي بسبب إيحاء ربي لي، وأن تكون موصولة أي بسبب الذي يُوحِيه فعائده محذوف وقوله «سميعٌ» أي يسمع إذا ناديتهُ واستغنت به عليكم قريب يأتيكم من غير تأخير ليس كمن يسمع من بعيد ولا يلحق الدَّاعِي.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب