الباحث القرآني

والثاني: أنه معطوف على «أَخَذْنَا» ح لأن المعنى أن الله أكد على النبياء الدعوة إلى دينه لإثابة المؤمنين وأعد للكافرين، وقيل: إنه حذف من الثاني ما أثبت مُقَابِلُهُ في الأول، ومن الأول ما أثبت مقابلهُ في الثاني والتقدير: ليسأل الصادقين عن صدقهم فأثابهم ويسأل الكافرين عما أجابوا رُسُلَهُمْ ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً﴾ . فصل قال المفسرون: المعنى أخذنا ميثاقهم لكي يسأل الصادقين عن صدقهم يعني النبيين عن تبليغهم الرسالة والحكمة في سؤالهم مع علمه أنهم صادقون بتبكيت من أرسلوا إليهم. وقيل: ليسأل الصادقين عن علمهم بالله عَزَّ وَجَلَّ، وقيل: ليسأل الصادقين بأفواههم عن صدقهم بقلوبهم. قوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ ... ﴾ الآية وهذا تحقيق لما سبق من الأمر بتقوى الله بحث لا يبقى معه خوف من أحد وذلك حين حُوصِرَ المسلمون مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أيام الخَنْدَق، واجتمع الأحزاب واشتد الأمر على الأصحاب حيث اجتمع المشركون بأسرهم واليهود بأجمعهم، ونزلوا على المدينة وعمل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الخَنْدَق وكان الأمر في غاية الشدة والخوف بالغاً إلى الغاية والله دفع القوم عنهم من غير قتال وآمَنَهُمْ من الخوف فينبغي أن لا يخاف العبدُ غَيْرَ ربه فإنه القادر على كل الممكنات فكان قادراً على أن يقهر المسلمين بالكفار مع أنهم ضعفاء كما قهر الكافين بالمؤمنين مع قوتهم وشوكتهم. قوله: «إذْ جَاءَتْكُمْ» يجوز أن يكون منصوباً «بنعمة» أي النعمة الواقعة في ذلك الوقت، ويجوز أن يكون منصوباً باذْكُرُوا على أن يكون بدلاً من «نعمة» بدل اشتمال، والمراد بالجنون الأحزاب وهم قريش وغَطفَان، ويهود قُرَيْظَةَ والنَّضِير ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً﴾ وهي الصَّبَا، قال عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب: انطلق بنصر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت الشمالُ إن الحرَّّة لا تَسْرِي بالليل فكانت الريح التي أرسلت عليهم الصبا وروى مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «قال:» نُصِرتُ بالصَّبَا وأهلكَتْ عَادٌ بالدَّبورِ» قوله: ﴿وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا﴾ قرأ الحسن بفتح الجيم، والعامة بضمها، و «جُنَوداً» عطفاً على» ريحاً «و» لَمْ تروها «صفة لهم، وروي عن أبي عمرو، وأبي بكر» لم يَرَوْهَا «بياء الغيبة، وهم الملائكة ولم تقاتل الملائكة يومئذ فبعث الله عليهم تلك اليلة ريحاً باردة فقلعت الأوتاد وقطعت أطنا الفَسَاطِيطِ وأطفأت النيرانَ وأَكْفَأت القُدُورَ، وجالت الخيل بعضها في بعض وكثر تكبير الملائكة في جوانب عسكرهم حتى كان سيد كل حي يقول: يا بني فلان هَلُمَّ إليَّ فإذا اجتمعوا عنده قال: النَّجَا النَّجَا أتيتم لما بعث الله عليهم من الرعب فانهزموا من غير قتال. ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ وهذا إشارة إلى أنه الله علم التجاءكم إليه وجاءكم فضله فنصركم على الأعداء عند الاستعداد والقصة مشهورة. قوله:» إِذْ جَاؤُوكُمْ» بدل من «إذْ» الأولى، والحناجر جمع» حَنْجَرَةٍ «وهي رأس الغَلْصَمَةِ والغَلْصَمَة منتهى الحُلْقُومِ، والحلقوم مجرى الطعام والشراب، وقيل: الحلقوم مَجْرَى النفس والمريء الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم وقال الرَّاغِبُ: رَأْسُ الغَْصَمَةِ من خارج. قوله: «الظُّنُونا» قرأ نافع وابن عامر وأبو بكر بإثبات ألف بعد نون» الظُّنُون «ولام الرسول في قوله: ﴿وَأَطَعْنَا الرسولا﴾ [الأحزاب: 66] ولام السبيل في قوله: ﴿فَأَضَلُّونَا السبيلا﴾ [الأحزاب: 67] وصلاً وَوَقْفاً موافقة للرسم؛ لأنهن رسمن في المصحف كذلك وأيضاً فإن هذه الألف تشبه هاء السكت لبيان الحركة، وهاء السكت تثبت وَقْفاً للحاجة إليها وقد ثبتت وصلاً إجراءً للوصل مُجْرَى الوقف كما تقدم في البقرة والأنعام فكذلك هذه الألف، وقرأ أبو عمرو وحمزةُ بحذفها في الحالين؛ لأنها لا أصل لها وقولهم: أجريت الفواصل مُجْرَى القوافي غير معتدٍّ به لأن القوافيَ يلتزم الوقف عليها غاباً، والفواصل لا يلزم ذلك فيها فلا تُشَبَّهُ بها، والباقون بإثباتها وقفاً وحذفها وصلاً إجراء للفواصل مُجْرَى القوافي في ثبوت ألف الإطلاق كقوله: 4069 - اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِالوَفَاءِ وَبِالعَدْلِ ... وَوَلَّى المَلاَمَةَ الرَّجُلاَ وقوله: 4070 - أَقِلِّي اللَّوْمَ عَاذِلَ وَالعِتَابَا ... وَقُولِي إِنْ أَصَبْتُ لَقَدْ أَصَابَا ولأنها كهاء السكت وهي تثبت وقفاً وتحذف وصلاً، قال شهاب الدين:» كذلك يقولون تشبيهاً للفواصل بالقوافي وأنا لا أحب هذه العبارة فإِنها منكرة لفظاً» . ولا خلاف في قوله: ﴿وَهُوَ يَهْدِي السبيل﴾ أنه بغير ألف في الحالين. فصل المعنى إذْ جَاؤُوكُمْ من فوقكم أي من فوق الوادي من قبل المَشْرِق وهم «أَسَدٌ» ، وغَطَفَان عليهم مالكُ بن عَوْف النَّضرِيّ، وعُيَيْنَةُ بْنُ حِصْن الفزَاريّ في ألفٍ من غَطَفَانَ ومنهم طلحةُ بن خُوَيْلد الأسَدِيّ في بني أسد، وحُيَيّ بن أَخْطَبَ في يهودِ بني قُرَيْظَةِ ﴿وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾ أي من بطن الوادي من قِبَلِ المَغْرب وهم قُرَيْشٌ وكِنَانَةُ عليهم أبُو سُفْيَانَ بنُ حَرْبٍ ومن معه وأبو الأعور بن سُفْيَانَ السُّلَمِي من قبل الخندق، وكان الذي جر غزوة الخندق فيما قيل إجلاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بَنِي النَّضِير من ديارهم ﴿وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار﴾ مالت وشَخِصَتْ من الرعب، وقيل: مالت عن كل شيء فلم تنظر إلا إلى عدوها ﴿وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر﴾ فزالت عن أماكنها حتى بلغت الحُلُوق من الفَزَع، وهذا على التمثيل عبر به عن شدة الخوف. قال الفراء معناه أنهم جَبنُوا، سبيل الجَبَان إذا اشتد خوفه أن تَنْتَفِخَ رِئَتُهُ فإذا انتفخت الرئة رفعت القلب إلى الحنجرة ولهذا يقال للجبال: انتفخ سحره؛ لأن القلب عند الغضب يندفع وعند الخوف يجتمع فيتقلص بالحنجرة وقد يفضي إلى أن يَسُدَّ مخرج النفس فلا يقدر المرء (أن) يتنفس ويموت من الخوف. ﴿وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا﴾ وهو اختلاف الظنون، فظن المنافقون استئصال محمد وأصحابه وظن المؤمنون النصر والظفر لهم. فإن قيل: المَصْدَرُ لا يُجْمَعُ فما الفائدة من جمع الظنون؟ فالجواب: لا شك أنه منصوب على المصدر ولكن الاسم قد يجعل مصدراً كما يقال: «ضَرَبْتُهُ سِيَاطاً» و «أَدَّبْتُهُ مِرَاراً» فكأنه قال: ظَنَنْتُمْ ظَنّاً جاز أن يكون مصيبين فإذا قال: ظُنُوناً بين أن فيهم من كان ظنه كاذباً لأن الظنون قد تكذب كلها، وقد تكذب بعضها إذا كانت في أمر واحد كما إذا رأى جمع جسماً من بعيد فظنه بعضهم أنه زيدٌ، وآخرونَ أنه عمرو، وآخرون أنه بكرٌ، ثم ظهر لهم الحق قد يكونون كلهم مخطئين والمرئي شجر أو حجر، وقد يكون أحدهم مصيباً ولا يمكن أن يكونوا كلهم مُصِيبِين في ظنونهم، فقوله: «الظُّنون» فادنا ان فيهم من أخطأ الظن، ولو قال: ﴿تظنون بالله ظناً﴾ ما كان يفيد هذا، والألف واللام في «الظنون» يمكن أن تكون للاستغراق مبالغة بمعنى تظنون كل ظن، ولأن عند الأمر العظيم كل أحد يظن شيئاً، ويمكن أن تكون الألف واللام للعهد أي ظنونهم المعهودة؛ لأن المعهود من المؤمن ظن الخير بالله كما قاله عليه (الصلاة و) السلام: «ظُنُّوا باللَّهِ خَيْراً» ومن الكافر الظن السوء كقوله تعالى: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ﴾ [ص: 27] وقوله: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن﴾ [الأنعام: 148] . قوله: «هُنَالِكَ» منصوب «بابْتُلِيَ» . وقيل: «بتَظُنُّونَ» واستضعفه ابن عطية وفيه وجهان: أحدهما: أنه ظرف مكان بعيد أي في ذلك المكان الدحْضِ وهو الخَنْدق. والثاني: أنه ظرف زمان، وأنشد بعضهم على ذلك: 4071 - وَإِذَا الأُمُورُ تَعَاظَمَتْ وَتَشَاكَلَتْ ... فَهُنَاكَ يَعْتَرِفُونَ أَيْنَ المَفْزَعُ «وَزُلْزِلُوا» قرأ العامة بضم الزاي الأولى، (وكسر الثانية على اصل ما لم يسم فاعله، وروى غير واحد عن «أبي عمرو» كسر الأولى) ، وروى الزمخشري عنه إشمامها كسراُ، ووجه هذه القراءة أن يكون أتبع الزاي الأولى للثانية في الكسر ولم يعتد بالساكن لكونه غير حصين كقولهم: مِبين - بكسر الميم - والأصل ضمها. قوله: «زِلْزَالاً» مصدر مُبَيِّن للنوع بالوصف والعامة على كسر الزاي، وعيسى، والجَحْدَرِيّ فتحاها وهما لغتان في مصدر الفعل المضعف إذا جاء على «فعلال» نحو: «زَلْزَال، وقَلقالَ وصَلْصَال، وقد يراد بالمفتوح اسم الفاعل نحو: صَلْصَال بمعنى مُصَلْصِلٌ بمعنى» مُزَلْزِل» . فصل قال المفسرون: معنى ابتلي المؤمنون اختبر المؤمنون بالحَصْرِ والقتال ليبين المخلص من المنافق، والابتلاء من الله ليس لإبانة الأمر له بل لحكمة أخرى وهي أن الله تعالى عالم بما هم عليه لكنه أراد أظهار الأمر لغيره من الملائكة والأنبياء كما أن السيد إذا علم من عبده المخالفة عزم على معاقبته على مخالفته، وعنده غير من العبيد أو غيرهم فيأمره بأمر عالماً بأنه مخالف لكي يتبين الأمر عند الغير فيقع المعاقبة على أحسن الوجوه حيث لا يقع لأحد أنه يظلم، وقوله: ﴿وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً﴾ أي أزعجوا وحركوا حركة شديدة فمن ثبت منهم كان من الذين إذا ذكر الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ. ثم قال: ﴿وَإِذْ يَقُولُ المنافقون﴾ معتب بن قُشَيْر، وقيل: عبد الله بن أبي وأصحابه ﴿والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ﴾ شك وضعف اعتقاد ﴿مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً﴾ وهذا تفسير الظنون وبيان لها، فظن المنافقون أن ما قال الله ورسوله كان زوراً ووعدهما كان غروراً حيث ظنوا بأن الغلبة واقعة لهم يَعِدُنَا محمدٌ فَتْحَ قُصُرِ الشام وفارسَ وأحدنا لا يستطيع أن يجاوز رحله هذا والله الغرور. قوله: ﴿وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ﴾ أي من المنافقين «وهم أوس بن قيظي وأصحابه» ﴿ياأهل يَثْرِبَ﴾ يعني المدينة، قال أبو عبيد (ة) : يَثْرِبُ: اسم أرض ومدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في ناحية منها، وفي بعض الأخبار: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - نهى أن تمسى المدينةُ يَثْرِبَ، وقال: هي طابة» كأنه كره هذه اللفظة، وقال أهل اللغة: يثرب اسم المدينة، وقيل: اسم البقعة التي فيها المدينة، وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو للعلمية والتأنيث، وأما يَتْرَب - بالتاء المثناة وفتح الراء فموضع ضع آخر باليمن، قال الشاعر: 4072 - وَعَدْتَ وَكَانَ الخُلْفُ مِنْكَ سَجِيَّةً ... مَواعِيدَ عُزْقُوب أَخَاء بِيَتْرَبِ وقال: 4073 - وَقَدْ وَعَدْتُكَ مَوْعِداً لوقت ... مواعيد عرقوب أخاه بيترب ﴿لاَ مُقَامَ لَكُمْ﴾ قرأ حفصٌ، وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيّ بضم الميم، ونافعٌ وابنُ عامر بضم ميمة أيضاً في الدخان في قوله: ﴿إِنَّ المتقين فِي مَقَامٍ﴾ [الدخان: 51] ولم يختلف في الأولى أنه بالفتح وهو «مقام كريم» والباقون بفتح الميم في الموضعين، والضم والفتح مفهومان من سورة مريم عند قوله: ﴿خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ [مريم: 73] فمعنى الفتح لا مكان لكم تنزلون به وتقيمون فيه. ومعنى الضم لا إقامة لكم فارجعوا إلى منازلكم عن اتباع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وقيل: عن القتال إلى منازلكم. ﴿وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي﴾ هم بنو حارثة وبنو سلمة ﴿إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ﴾ أي خالية ضائعة، وهي مما يلي العدو ويخشى عليها السُّراق. قوله: «عَورةٌ» أي ذاتُ عورة، وقيل: منكشفة أي قصيرة الجُدْرَان للسارق وقال الشاعر: 4074 - لَهُ الشِّدَّةُ الأُولَى إِذَا القَرْنُ أَعْوَرَا ... وقرأ ابن عباس وابنَ يَعْمُرَ وقتادةُ وأبو رجاء وأبو حَيْوَة وآخرون: عَورة بكسر الواو وكذلك ﴿وَمَا هِيَ بِعَورَةٍ﴾ ، وهما اسم فاعل، يقال: عَوِرَ المنزلُ: يَعْوِرُ عَوَراً وعَوِرَة فهو عَوِرٌ، وبيوتٌ عَوِرَةٌ، قال ابن جني: تصحيح الواو شاذ، يعني حيث تحركت وانفتح ما قبلها ولم تقلب ألفاً، وفيه نظر لأن شرط ذاك في الاسم الجاري على الفعل أن يعتل فعله نحومَقَامٍ ومَقَالٍ، وأما هذا ففعله صحيح نحو عَوِرَ، وإنما صح الفعل وإن كان فيه مقتضى الإعلال لِمَدْرَكٍ آخر وهو أنه في معنى ما لا يعلم وهو «أعور» ولذلك لم نتعجب من «عور» وبابه، وأعْوَرَّ المَنْزِلُ: بدت عَوْرَتُهُ، واعورَّ الفارس بدا منه خلله للضَّرْبِ قال الشاعر: 4075 - مَتَى تَلْقَهُمْ لَمْ تَلْقَ فِي البَيْتِ مُعْوَراً ... وَلاَ الصَّيْفَ مَسْجُوراً ولاَ الجَارَ مُرْسَلاً ثم كذبهم الله تعالى فقال: ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً﴾ . قوله: ﴿وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا﴾ ولو دخل عليهم المدينة أو البيوت يعني هؤلاء الجيوش الذين يريدون قتالهم وهم الأحواب «مِنْ أقْطَارِهَا» جوانبها. وفيه لغة وتروى: أَفْتَار - بالتاء -. والقُطْرُ: الجانب أيضاً ومنه قَطَرْتُهُ أي أَلْقَيْتُهُ على قطره فَتَقَطَّرَ أي وقع عليه قال: 4076 - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَاراتُها ... مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا وفي المثل: «الانفِضَاضُ يُقَطِّرُ الجَلَب» تفسيره أن القوم إذا انفضوا أي فني زادهم احتاجوا إلى جَلْب الإِبل، وسمي القَطْرُ قطراً لسقوطه. قوله: «ثُمَّ سُئِلُوا» قرأ مجاهد «سُويِلُوا» بواو ساكنة ثم ياء مكسورة «كقُوتِلُوا» . حتى أبو زيد: هما يَتَسَاوَلاَن بالواو، والحسن: سُولُوا بواو ساكنة فقط فاحتملت وجهين: أحدهما: أن يكون أصلها: سيلوا كالعامة، ثم خففت الكسرة فسكنت كقولهم في ضَرب - بالكسر - ضرب بالسكون فسكنت الهمزة بعد ضمة فقلبت واواً نحو: بُوسٍ في بُؤْسٍ. والثاني: أن يكون من لغة الواو، ونقل عن أبي عمرو أنه قرأ سِيلُوا بياء ساكنة بعد كسرة نحو: قِيلوا. قوله: «لأتَوْهَا» قرأ نافعٌ وابنُ كثير بالقصرب بمعنى لَجَاؤُوهَا وغَشوهَا، والباقون بالمد بمعنى لأعطوها ومفعوله الثاني محذوف تقديره: لآتوها السائلين. والمعنى ولو دخلت البيوت أو المدينة من دميع نواحيها ثم سئل أهلها الفتنة لم يمتنعوا من إعطائها، وقراءة المد يستلزم قراءة القصر من غير عكس بهذا المعنى الخاص. قوله: «إِلاَّ يَسيراً» أي إلا تَلَبُّثاً أو إلا زماناً يسيراً. وكذلك قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الأحزاب: 16 - 18] أي إلا تَمَتُّعاً أو إلا زمانا قليلاً. فصل دلت الآية على أن ذلك الفرار والرجوع ليس لحفظ البيوت لأن من يفعل فعلاً لغرض فإذا فاته الغرض لا يفعله فقال تعالى هم قالوا بأن رجوعنا عنك لحفظ بيوتنا ولو دخلها الأحزاب وأخذوها منهم لرجعوا أيضاً فليس رجوعهم عنك إلا بسبب كفرهم وحبهم الفتنة وهي الشرك، ﴿مّوَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ﴾ أي ام تلبثوا بالمدينة أو البيوت «إلاَّ يَسِيراً» وأن المؤمنين يُخْرِجُونَهُمْ قاله الحسن، وقيل: ما تلبثوا أي ما احْتَبَسُوا عن الفتنة - وهي الشرك - إلا يسيراً ولأسرعوا للإجابة إلى الشرك طيّبةً به أنفُسُهم وهذا قول أكثر المفسِّرين. قوله: ﴿وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل غزوة الخندق ﴿لاَ يُوَلُّونَ الأدبار﴾ عدوهم أي لا ينهزمون قال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة هموا يوم الخندق أن يَقْتَتِلُوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله أن لا يعودوا لمثلها، وقال قتادة: هم ناس كانوا قد غابوا عن واقعة بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والفضيلة وقالوا لئن أَشْهَدَنَا اللَّهُ قتالاً لَنُقَاتِلَنَّ فساق الله إليهم ذلك وقال مقالت والكلبي: «هم سبعون رجلاً جاءوا بايعوا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة العقبة وقالوا اشترط لنفسك ولربك ما شئتَ فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأولادكم قالوا: وإذا فعلنا ذلك (فما لنا يا رسول الله؟ قال: لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة، قالوا: قد فعلنا فذلك) عهدهم» ، وهذا القول ليس بمَرْضِيٍّ؛ لأن الذين بايعوا ليلة العقبة كانوا سبعين لم يكن فيهم شَاكٌّ ولا مَنْ يقول مثل هذا القول وإنما الآية في قوم عاهدوا الله أن يقاتلوا ولا يَفِرُّوا فَنَقَضُوا العهد. وهذا بيان لفساد سريرتهم وقبح سيرتهم لنقضهم العهود فإنهم قبل ذلك تخلفوا وأظهروا عذراً ونَدَماً ثم هددهم بقوله: ﴿وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً﴾ أي مَسْؤُولاً عنه. قوله: «لاَ يُوَلُّونَ» جواب لقوله: «عَاهَدُوا» لأنه في معنى: «أقسموا» وجاء على حكاية اللفظ فجاء بلفظ الغيبة ولو جاء على حكاية المعنى لقيل: لا يُولِّي، والمفعول الأول محذوف أي يولون العدو الأدبار. وقال أبو البقاء: ويقرأ بالتشديد تشديد النون وحذف الواو على تأكيد جواب القسم. قال شهاب الدين: ولا اظن هذا إلا غلظاً منه وذلك أنه إما أن يُقْرأ مع ذلك بلا النافية أو بلام التأكيد، والأول لا يجوز لأن المضارع المنفي بلا لا يؤكد بالنون إلا ما نَدَرَ مما لا يقاس عليه والثاني فاسد المعنى. قوله: «إنْ فَرَرْتُمْ» جوابه محذوف لدلالة النفي قبله عليه أو متقدم عند من يرى ذلك. قوله: ﴿وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ إذَنْ جواب وجزاء، ولما وقعت بعد عاطف جاءت على الأكثر وهو عدم إعمالها ولم يشذّ هنا ما شَذَّ في الإسراء، فلم يقرأ بالنصب، والعامة بالخطاب في «تُمَتَّعُونَ» . وقرىء بالغيبة. فصل المعنى: «قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ المَوْتِ أَو القَتْلِ} الذي كتب عليكم لأن من حضر أجله مات أوقتل ﴿وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي لا تمتعون بعد الفِرار إلا مدة آجالكم وهي قليل. وهذا إشارة إلى ان الأمور مقدرة لا يمكن الفرار مما قدره الله لأنه كائن لا محالة فلو فررتم لما دمتم بل لا تمتعون إلا قليلاً وهو ما بقي من آجالكم فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئاً كثيراً. قوله: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي﴾ تقدم في البقرة، قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ولا عصمة إلا من السوء؟ قلت: معناه أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة، فاختصر الكلام وأجْرِيَ مُجْرَى قوله: مُتَقَلِّداً سيفاً وَرُمْحاً ... أو حمل الثاني على الأول لما في العِصْمَةِ من معنى المنع قال أبو حيان: أما الوجه الأول فيه حذف جملة لا ضرورة تدعو إلى حذفها، والثاني هو الوجه لا سيما إذا قدر مضاف محذوف أي يمنعكم من مُرَادِ الله، قال شهاب الدين: وأين الثاني من الأول ولو كان معه حذف جُمَلٍ. فصل المعنى من ذا الذي يمنعكم من الله إن أراد بكم سوءاً هزيمة أو أراد بكم رحمة نُصْرَةً، وهذا بيان لما تقدم من قوله: ﴿لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار﴾ وقوله: ﴿وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾ تقرير لقوله: ﴿مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله﴾ أي ليس لكم شفيع أي قريب ينفعكم ولا نصير ينصركم ويدفع عنكم السوء إذا أتاكم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب