الاستفهام فيه كقوله: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله﴾ [البقرة: 28] .
وقيل: الاستفهام - هنا - معناه النَّفْي كقوله: [الخفيف]
1532 - كَيْفَ نَوْمي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا ... تَشمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ؟
وقول الآخر: [الطويل] 1533 - فَهَذِي سُيُوفٌ يَا صُدَبُّ بْنَ مَالِكٍ ... كَثِيرٌ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ؟
يعني: أين بالسيف؟
﴿وشهدوا﴾ في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ:
أحدها: أنها معطوفة على «كَفَرُوا» و «كَفَرُوا» في محل نَصْب؛ نعتاً لِ «قوماً» أي: كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين، وإلى هذا ذهب ابنُ عطيةَ والحَوْفِيُّ وأبو البقاء، وردَّه مكيّ، فقال: لا يجوز عطف «شَهِدُوا» على كَفَرُوا «لفساد المعنى. ولم يُبَيِّن جهَةَ الفساد، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة، فلذلك فَسَد المعنى عنده. وهذا غير لازم؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيباً، ولذلك قال ابن عطيةَ:» المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكُفْر، والواو لا تُرَتِّب «.
الثاني: أنها في محل نصب على الحال من واو» كَفَرُوا «فالعامل فيها الرافع لصاحبها، و» قد» مضمرة معها على رأي - أي كفروا وقد شهدوا، وإليه ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ، وأبي البقاء وغيرهما.
قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون العامل» يَهْدِي «؛ لأنه يهدي من شَهِدَ أن الرسولَ حق» .
يعني أنه لا يجوز أن يكون حالاً من «قَوْماً» والعاملُ في الحالِ» يَهْدِي «لما ذكر من فساد المعنى.
الثالث: أن يكون معطوفاً على» إيمَانِهِمْ «لما تضمَّنه من الانحلال لجملة فعلية؛ إذ التقدير: بعد أن آمنوا وشهدوا، وإلى هذا ذهب جماعة.
قال الزمخشريُّ: أن يُعْطَف على ما في» إيمانهم» من معنى الفعل؛ لأن معناه: بعد أن آمنوا، كقوله: ﴿فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن﴾ [المنافقون: 10] وقول الشاعر: [الطويل]
1534 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوِّغ العطف عليه في الجملة، كذا يقول النحاة: جزم على التوهم أي لسقوط الفاء؛ إذْ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض، ولذا يقولون: توهَّم وجودَ الباء فَجَرَّ.
وفي العبارة - بالنسبة إلى القرآن - سوء أدبٍ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك.
وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى، كقوله: ﴿إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَنا﴾ [الحديد: 18] .
إذ هو في قوة: إن الذين تصدقوا وأقرضوا.
وقال الواحدي: «عطف الفعل على المصدر؛ لأنه أرادَ بالمصدر الفعلَ، تقديره: كفروا بالله بعد أن آمنوا، فهو عطف على المعنى، كقوله: [الوافر]
1535 - لَلُبْسُ عَبَاءةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي ... أحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ
معناه: لأن ألبس عباءةً وتقرَّ عيني» .
وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوَّل لأجل الثاني، وهذا ليس بظاهر؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فِعْلاً، كقوله: ﴿إِنَّ المصدقين﴾ لأن الموصول يطلب جملة فعلية، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله، وعطفنا عليه و «أقرضُوا» وأما «بعد إيمانهم» وقوله: «للبس عباءة» ، فليس الاسم محتاجاً إلى فِعل، فالذي ينبغي هو أن نتأوَّل الثاني باسم؛ ليصحَّ عطفه على الاسم الصريح قبله، وتأويله بأن تأتي معه ب «أن» المصدريَّة مقدَّرةً، تَقْدِيرُهُ: بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم، ولهذا تأول النحويون قوله: للُبْسُ عباءة وتقرَّ: وأن تَقَرَّ، إذ التقدير: وقرة عيني، وإلى هذا ذهب أبو البقاء، فقال: «التقدير: بعد أن آمنوا وأن شهدوا، فيكون في موضع جر، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف» .
وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا، ويشهد لتقدير الزمخشريّ؛ فإنه قال: قوله «وَشَهِدُوا» منسوق على ما يُمْكن في التقدير، وذلك أن قوله: «بعد إيمانهم» يمكن أن يكون: بعد أن آمنوا، و «أن» الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر، كقوله: ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم﴾ [البقرة: 184] ، أي: والصوم.
ومثله مما حُمِل فيه على المعنى قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل﴾ [الشورى: 51] فهو عطف على قوله: «إلا وحياً» ويمكن فيه: إلاَّ أن يُوحِيَ إليه، فلما كان قوله: «إلا وحياً» بمعنى: إلا أن يُوحِي إليه، حمله على ذلك.
ومثله من الشعر: [الطويل]
1536 - فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ خفض قوله: قدير؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله: منضج؛ لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف، فحملَه على ذلك، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريِّ بهذه الآيةِ الكريمةِ والبيت المتقدميْن؛ لأنه جر «قدير» - هنا - على التوهُّم، كأنه توهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله؛ تخفيفاً، فَجرَّ على التوهُّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله: ليسوا مصلحين؛ لأنها كثيراً ما تزاد في خبر «ليس» .
فإن قيل: إذا كان تقدير الآية: كيف يهدي اللهُ قوماً كفروا بعد الإيمانِ وبعد الشهادةِ بأن الرسول حق، وبعد أن جاءَهم البيِّنات، فعطف الشهادة بأن الرسول حَقٌّ يقتضي أنه مغاير للإيمان.
فالجواب: أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والشهادة هي الإقرار باللسان، فهما متغايران.
وقوله: «أن الرسول» الجمهور على أنه وَصْف بمعنى المُرْسَل، وقيل: هو بمعنى الرسالةِ، فيكون مصدراً، وقد تقدم.
فصل
في سبب النزول أقوالٌ:
الأول: قال ابنُ عباسٍ: نزلت في عشرة رهط، كانوا آمنوا، ثم ارتدُّوا، ولَحِقُوا بمكةَ، ثم اخذوا يتربصون به ريب المنون، فأنزل اللهُ فيهم هذه الآيةَ، وكان منهم مَنْ آمن، فاستثنى التائبَ منهم بقوله:
﴿إِلاَّ الذين تَابُواْ﴾ [البقرة: 160] .
الثاني: رُوِيَ - أيضاً - عن ابن عباسٍ أنها نزلت في يهود قُرَيْظَةَ والنضير، ومن دان بدينهم، كفروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بَعْثه، وكانوا يشهدون له بالنبوةِ، فلما بُعثَ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بَغياً وَحَسَداً.
الثالث: نزلت في الحرث بن سُوَيْد الأنصاري حين ندم على رِدَّته، فأرسل إلى قومه أن سَلُوا: هل لي من توبة؟ فأرسل إليه اخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة، وتاب، وقبل الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ توبته. قال القفال: للناس في هذه الآية قولان: منهم من قال: إنَّ قوله تعالى: ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينا﴾ [آل عمران: 85] وما بعده إلى قوله ﴿وأولئك هُمُ الضآلون﴾ [آل عمران: 90] نزل جميعه في قصة واحدة، ومنهم من قال: ابتداء القصة من قوله «إلا الذين تابوا» إلى «إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار» على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان:
أحدهما: أنها في أهل الكتاب.
والثاني: أنها في قوم مرتدين عن الإسلام، آمنوا ثم ارتدوا.
فصل
قالت المعتزلةُ: أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ؛ بمعنى: التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوهاً:
الأول: أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين؛ ثواباً لهم على إيمانهم، كقوله: ﴿والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا﴾ [العنكبوت: 69] وقوله: ﴿والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى﴾ [محمد: 17] وقوله: ﴿يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَه﴾ [المائدة: 16] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى.
الثاني: أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّم﴾ [النساء: 168 - 169] وقال: ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار﴾ [يونس: 9] .
والثالث: أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر، وكونهم فاعلين للكفر، فإنه قال: ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ﴾ ؟ فأضاف الكفر إليهم، وذمَّهم عليه.
وقال أهل السنة: المرادُ من الهداية خلق المعرفة، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد، فكأنه - تعالى - قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه؟
فإن قيل: قال - في أول الآية -: ﴿كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ﴾ وقوله في آخرها: «والله لا يهدي القوم الظالمين» يقتضي التكرار.
فالجواب: أن الأولَ مخصوص بالمرتد، والثاني عمّ ذلك الحكم في المرتد والكافر الأصلي، وسمي الكافر ظالماً؛ لقوله: ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] والسبب فيه أن الكافر أوْرد نفسَه مواردَ البلاء والعقاب؛ بسبب ذلك الكفر، فكان ظالماً لنفسه.
قال القرطبي: «فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن مَنْ كفر بعد إسلامه لا يهديه اللهُ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله، وقد رأينا كثيراً من المرتدين أسلموا وهداهم اللهُ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظُّلْم.
فالجواب: أن معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على طُفْرِهم وظُلْمهم ولا يُقبِلون على الإسلام، فأما مَنْ أسلموا وتابوا فقد وَفَّقَهُمُ اللهُ لذلك» .
{"ayah":"كَیۡفَ یَهۡدِی ٱللَّهُ قَوۡمࣰا كَفَرُوا۟ بَعۡدَ إِیمَـٰنِهِمۡ وَشَهِدُوۤا۟ أَنَّ ٱلرَّسُولَ حَقࣱّ وَجَاۤءَهُمُ ٱلۡبَیِّنَـٰتُۚ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلظَّـٰلِمِینَ"}