في «مِن» وجهان:
أظهرهما: أنها تبعيضيَّة.
والثاني: أنها لبيان الجني.
قال ابن عطيَّة: ويعني أن المراد ب «طائفة» جميع أهل الكتاب، قال أبو حيّان: وهذا بعيد من دلالة اللفظ، وهذا الجار - على القول بأنها تبعضية - في محلّ رفع، صفة لِ «طَائِفَةٌ» ، وعلى القول بأنها بيانية تعلق بمحذوف.
وقوله: تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون على بابها - من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره.
قال أبو مُسْلِم الأصبهاني: «وَدَّ» بمعنى تَمَنَّى، فيستعمل معها «لو» و «أن» وربما جُمِع بينهما، فَيُقَالُ: وددت أن لو فعلت، ومصدره الودادة، والاسم منه وُدّ وبمعنى «أحَبَّ» فيتعدَّى «أحَب» والمصدر المودة، والاسم منه ود وقد يتداخلانِ في المصدر والاسم.
وقال الراغب: «إذا كان بمعنى» أحب «لا يجوز إدخال» لو «فيه أبداً» .
وقال الرمانيُّ: «إذا كان وَدَّ» بمعنى تمنَّى صلُح للحال والاستقبال [والماضي، وإذا كان بمعنى الهمة والإرادة لم يصلح للماضي؛ لأن الإرادة لاستدعاء الفعل، وإذا كان للحال والمستقبل جاز وتجوز «لَوْ» ، وإذا كان للماضي لم يجز «أنْ» لأن «أن» للمستقبل] .
وفيه نظرٌ، لأن «أن» تُوصَل بالماضي.
فصل
لما بَيَّن - تعالى - أن من طريقة أهل الكتاب العدولَ عن الحق، والإعراضَ عن قبول الحجة بيَّن - هنا - أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات، كقولهم: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُقرٌّ بموسَى وعيسَى، وكقولهم: إن النسخ يُفْضِي إلى البداء والغرض منه: تنبيه المؤمنين على ألاَّ يَغْتَرُّوا بكلام اليهودِ، ونظيرُه قولُه تعالى في سورة البقرة: ﴿وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً﴾ [البقرة: 109] ، وقوله: ﴿وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً﴾ [النساء: 89] .
فصل
قيل: نزلت هذه الآية في معاذ بن جبلٍ وعمارِ بن ياسرٍ وحُذَيفَةَ حين دعاهم اليهود إلى دينهم، فنزلت.
«ودت» تمنَّت طَائِفَةٌ جماعة ﴿مِّنْ أَهْلِ الكتاب﴾ يعني اليهود ﴿لَوْ يُضِلُّونَكُمْ﴾ ، ولم يَقُلْ: أن يضلوكم؛ لأن «لو» أوفق للتمني؛ فإن قولك: لو كان كذا، يفيد التمني، ونظيره قوله: ﴿يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 96] ، ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ﴾ وهو يحتمل وجوهاً منها:
إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قَصْدِهم إضلال الغير، كقوله: ﴿وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ [البقرة: 57] ، وقوله: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ [العنكبوت: 13] ، وقوله: و ﴿لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ﴾ [النحل: 25] .
ومنها: إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق؛ لأن الذاهب عن الاهتداء ضالّ.
[ومنها: أنهم اجتهدوا في إضلال المؤمنين، ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم، فهم قد صاروا خائبين خاسرين؛ حيث اعتقدوا شيئاً، ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوَّروه] .
ثم قال تعالى: ﴿وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ ، أي: وما يعلمون أن هذا يَضُرُّهم، ولا يضر المؤمنين.
{"ayah":"وَدَّت طَّاۤىِٕفَةࣱ مِّنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَوۡ یُضِلُّونَكُمۡ وَمَا یُضِلُّونَ إِلَّاۤ أَنفُسَهُمۡ وَمَا یَشۡعُرُونَ"}