الباحث القرآني

يجوز في «مَنْ» وجهان: أحدهما: أن تكونَ شرطية - وهو الظاهرُ - أي: إن حاجَّكَ أحدٌ فقُل له كيت وكيت. ويجوز أن تكونَ موصولة بمعنى: «الذي» وإنما دخلت الفاءُ في الخبرِ لتضمُّنه معنى الشرطِ [والمحاجةِ مفاعلة وهي من اثنين، وكانَ الأمرُ كذلِكَ] . «فِيهِ» متعلق ب «حَاجَّكَ» اي: جادلَكَ في شأنِهِ، والهاء فيها وجهان: أولهما: وهو الأظهرُ - عودُها على عيسى عليه السلامُ. الثاني: عودها على «الْحَقِّ» ؛ لأنه أقربُمذكورٍ، والأول أظْهَرُ؛ لأنَّ عيسى هو المحدَّثُ عنهُ، وهو صاحبُ القصة. قوله: ﴿مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ﴾ متعلق ب «حَاجَّكَ» - أيضاً - و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، ففاعل «جَاءََكَ» ضمير يعود عليها، أي: من بعد الذي جاءك هو. ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ حال من فاعل «جَاءَكَ» . ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفيَّةً، وحينئذٍ يقال: يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعلِ، أو عَوْد الضمير على الحرف؛ لأن «جَاءَكَ» لا بد له من فاعل، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا «ما» وهي حرفية. والجوابُ: أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله: ﴿مِنَ الْعِلْمِ﴾ و «من» مزيدة - ي: من بعد ما جاءك العلم - وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً. و «مِنْ» في قوله: «مِنَ الْعِلْمِ» يحتمل أن تكون تبعيضيَّة - وهو الظاهر - وأن تكون لبيان الجنس. والمراد بالعلم هو أنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وليس المراد - هاهنا - بالعلم نفس العلم؛ لن العلمَ الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك، بل المرادُ بالعلم، ما ذكره من الدلائل العقلية، والدلائل الواصلة إليه بالوحي. فصل ورد لفظ «الْعِلْم» في القرآن على أربعة [أضربٍ] . الأول: العلم القرآن، قال تعالى: ﴿فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم﴾ [آل عمران: 61] . الثاني: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال تعالى: ﴿فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم﴾ [الجاثية: 17] أي: محمد، لما اختلف فيه أهلُ الكتاب. الثالث: الكيمياء، قال تعالى - حكاية عن قارون -: ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا﴾ [القصص: 78] . الرابع: الشرك، قال تعالى: ﴿فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم﴾ [غافر: 83] أي من الشرك. فصل قال ابن الخطيب: لما كنت بخوارزم أخبرتُ أنه جاء نصرانيٌّ يَدَّعِي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهَبْتُ إليه، وشرعنا في الحديث، فقال: ما الدليل على نُبُوَّةِ محمد؟ فقلتُ كما نقل إلينا ظهورُ الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نُقِل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن ردَدْنَا التواتُرَ، وقُلْنَا: إن المعجز لا يدل على الصدق فحينئذ بطل نبوة سائر الأنبياءِ - عليهم السلامُ - وإن اعترفنا بصحةِ التواتُرِ، واعترفنا بدلالةِ المُعْجِزِ على الصدقِ، فهُمَا حاصلان في مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجبَ الاعترافُ قطعاً بنبوةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضرورةَ أن عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول. فقال النصرانيُّ: أنا لا أقول في عيسى - إنه كان نبياً بل أقول: إنه كان إلهاً. فقلتُ له: الكلامُ في النبوةِ لا بد وأن يكونَ مسبوقاً بمعرفة الإلهِ وهذا الذي تقولُهُ باطلٌ، ويدلُ عليهِ وجوه: الأول: أنّ الإله عبارة عن موجودٍ واجب الوجودِ لذاتِهِ - بحيثُ لا يكون جِسماً ولا متحيّزاً ولا عرضاً - وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشريِّ الجسمانيِّ الذي وُجِدَ بعد أنْ كانَ معدوماً، وقُتِلَ - على قولِكُمْ - بعد أن كان حياً، وكان طفلاً - أولاً - ثم صار مُترعرعاً، ثم صار شاباً، ويشربُ ويُحْدِثُ وينامُ ويستيقظ وقد تقرَّرَ في بداهةِ العقولِ أن المحدث لا يكونُ قديماً والمحتاج لا يكون غَنِيًّا، والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً. الثاني: أنكم تعترفون أنَّ اليهودَ قتلوه وأخذوه، وصلبوه، وتركوه حيًّا على الخشبة، وقد مزَّقوا ضِلْعه، وانه كان يحتال في الهَرَبِ منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزَعَ الشديدَ. فإن ك ان إلهاً، وكان الإله حالاًّ فيه، أو كان جُزءٌ من إله حالاًّ فيه، فلِمَ لَمْ يدفَعْهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأيُّ حاجةٍ إلى إظهار الجَزَع منهم، والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إني لأتعجَّب جداً من أن العاقلَ كيف يليق به أن يقولَ هذا القولَ، ويعتقد صحته، وبداهة العقل تكاد أن تشهد بفساده؟ الثالث: أن يقال: إن الإله إمَّا أن يكونَ هذا الشخصُ الجسمانيُّ المُشَاهَدُ، أو يقال: إن الإله بكليته فيه، أو حل بعضُ الإله فيه. والأقسام الثلاثة باطلة: أما الأول فإن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهودُ كان ذلك قولاً بأن اليهودَ قتلوا إله العالَم، فكيف بَقِيَ العالَم بعد ذلك من غير إلهٍ؟ ثم إن أشَدَّ الناس ذُلاًّ ودَنَاءَةً اليهودُ، فالإله الذي تقتله اليهودُ إلهٌ في غاية العجز. وأما الثاني: - وهو أن الإله بكليته حَلَّ في هذا الجسم - فهو أيضاً - فاسد؛ لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عَرَضاً امتنع حُلولُه في الجسم، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخرَ، عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرُّق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحلّ، وحينئذ يكون الإله محتاجاً إلى غيره، وكل ذلك سخفٌ. وأما الثالثة: وهو أنهُ حَلَّ فيه بعضٌ من أبعاض الإله وجزء من أجزائه، وذلك - أيضاً - محالٌ؛ لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله، وجب أن لا يبقى الإله إلهاً. وإن كان معتبراً في تحقق الإلهية لم يكن جُزْءاً من إله فثبت فسادُ هذه الأقسام. الوجه الرابعُ - في بطلان قول النصارى - ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله - تعالى - ولو كان إلهاً لاستحال ذلك؛ لأن الإله لا يَعْبُدُ نفسه، ثم قلت للنصراني: ما الذي دَلّكَ على كونِهِ إلهاً؟ فقال دلَّ عليه ظهورُ العجائبِ عليه من إحياء الموتى وإبْراءِ الأكمهِ والأبرصِ وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرةِ الإله - تعالى - فقلتُ لَهُ: تسلم أنَّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، أم لا؟ فإنْ لَمْ تُسَلِّمْ لزمك مِنْ نفي العالمِ في الأزلِ نفي الصانع وإن سَلَّمْتَ أنَّهُ لا يلزمُ من عدم الدليل عدم المدلول فأقول: لَمَّا جوَّزْتَ حُلُولَ الإلَهِ في بَدَنِ عيسى عليه السلام فكيف عَرَفْتَ أنَّ الإلهَ ما حل في بَدَنِي وفي بدنِكَ، وفي بَدَنِ كلِّ حيوانٍ، ونباتٍ وجمادٍ؟ فقال: الفرقُ ظاهرٌ؛ وذلك أني إنما حكمت بذلك الحلول؛ لأنَّه ظهرتْ تلك الأفعال العجيبةُ عليه، والأفعال العديبةُ ما ظهرتْ على يديَّ وعلى يديْكَ، فعلمنا أنَّ ذلكَ الحلولَ - هاهنا - مفقودٌ، فقلتُ له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي: إنه لا يلزمُ من عدمِ الدليلِ عدمُ المدلول، وذلك أنَّ ظهورَ تلك الخوارقِ دالة على حلول الإله في بدن عيسى، فعدم ظهور الخوارقِ مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا تبيَّنَّا أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، بل في حقّ الكلب والسِّنَّوْر والفأر، ثم قلت: إن مذهباص يؤدي إلى تجويز القول بحلول ذات الله في بدن الكلبِ والذبابِ لفي غاية الخِسَّةِ والرَّكاكة. الوجه الخامس: أن قَلْبَ العصا حَيَّةً أبعد في العقل من إعادة الميت حيًّا؛ لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن اليعبانِ، فإذا لم يوجب قلب العصا حيةً كوْن موسى إلهاً، ولا ابناً للإله، فبأن لا يدل إحياءُ الموتَى على الإلهية كان أولَى. قوله: ﴿تَعَالَوْاْ﴾ العامة على فَتْح اللام؛ لأنه أمر من تعالَى يَتَعالَى - كترامى يترامى - وأصل ألفِهِ ياء وأصل هذه [الياء] واو؛ وذلك أنه مشتقٌّ من العُلُوّ - وهو الارتفاع كما سيأتي بيانه في الاشتقاق - والواو متى وقعت رابعةً فصاعداً قُلبت ياءً فصار «تَعَالَوا» تَعَالَي، فتحرك حرفُ العلَّة، وانفتح ما قبله، فقُلِبت ألفاً فصار «تَعَالَي» - كترامى وتعادى - فإذا أمرت منه الواحد، قلتَ: تعالَ يا زيد - بحذف الألف - وكذا إذا أمرت الجمع المذكر قلت: تعَالَوْا؛ لأنك لما حَذَفْتَ الألف لأجل الأمر أبقيتَ الفتحة مشعرة بها. وإن شئت قلتَ: الأصل: تعالَيُوا، وأصل هذه الياء واو - كما تقدم - ثم استُثْقِلَت الضمة على الياء، فحُذِفت ضمتُها، فالتقى ساكنان، فحذف أوَّلُهما - وهو الياء - لالتقاء الساكنين ونزلت الفتحةُ على حالها. وإن شئت قلت: لما كان الأصل تعلَيُوا تحرك حرفُ العِلَّةِ، وانفتح ما قبله - وهو الياءُ - فقلب ألفاً، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الألف - وبقيت الفتحة دالةٌ عليه. والفرق بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف - في الوجه الأول - حُذِفَت لأجل الأمر - وإن لم تتصل به واو ضمير، وفي هذا حُذِفَتْ لالتقائها مع واو الضمير. وكذلك إذا أمرت الواحدة تقول لها: تعالَي، فهذه الياء، هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريف كما تقدم، إلا أنك تقول هنا: الكسرة على الياء بدل الضمة هناك. وأما إذا أمرت المثنى فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعالَيَا، ويا هندان تعالَيَا - أيضاً يستوي فيه المذكران والمؤنثان - وكذلك أمر جماعة الإناث تثبت فيه الياء تقول: يا نسوة تعالَيْنَ، قال تعالى: ﴿فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ﴾ [الأحزاب: 28] ؛ إذْ لا مقتضي للحذف، ولا للقلب؛ وهو ظاهرٌ بما تمهد من القواعد. وقرأ الحسن وأبو السَّمَّال وأبو واقد: تَعَالُوا - بضم اللام - ووجهوها على أن الأصل: تعالَيُوا - كما تقدم فاستُثْقِلت الضمة على الياء، فنُقِلت إلى اللام - بعد سلب حركتها - فبقي تعالُوا - بضم اللام. قال الزمخشريُّ في سورة النساء: وعلى هذه القراءة قال الحَمدَانِيّ: [الطويل] 1491 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... تَعَالِي أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي بكسر اللام - وقد غاب بعضُ الناس عليه في استشهاده بشعر هذا المولَّد المتأخِّر وليس بعيْبٍ؛ فإنه ذكره استئناساً. وهذا كما تقدم في أول البقرة - عندما أنشد لحبيب: [الطويل] 1492 - هُمَا أظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أجْلَيَا ... ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أمْرَدَ أشْيَبِ واعتذر هو عن ذلك فكيف يعاب عليه بشيء عَرَفَهُ، ونَبَّه عليه، واعتذر عنه؟ والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسَوُا الحرفَ المحذوف، حتى كأنهم توهَّمُوا أن الكلمةَ بنيت على ذلك، وأنّ اللام هي الآخِر في الحقيقة، فلذلك عُومِلَتْ معاملةَ الآخِر حقيقةً، فضُمَّتْ قبل واو الضمير وكُسِرَت قبل يائه، ويدل على ما قلناه أنهم قالوا: - في لم أبَلْه -: إن الأصل: أبالي؛ لأنه مضارع «بالَى» فلما دَخَلَ الجازمُ حذفوا له حرفَ العلةِ - على القاعدة - ثم تناسَوْا ذلك الحرفَ، فسكنوا للجازم اللام؛ لأنها كالأخير حقيقةً، فلما سكنت اللام التقى ساكنان - هي والألف قبلها - فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين. وهذا التعليل أوْلَى؛ لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور، وعلى مقتضى تعليله هو أن يقال: الأصل تعاليي، فاستُثْقلت الكسرةُ على الياء، فنُقِلت إلى اللام - بعد سَلْبِهَا حركتها - ثم حذفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَيْنِ. وتعالَ فعل صريح، وليس باسم فعل؛ لاتصال الضمائرِ المرفوعةِ البارزة به. قيل: وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع؛ تفاؤلاً بذلك وإدناءً للمدعو؛ لأنه من العلو والرِّفْعَة. ثم تُوُسِّعَ فيه، فاستعمل في مجرد طلب المجيء، حتى يقال ذلك لمن تريد إهانته - كقولك للعدو: تعالَ - ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها. وقيل: هو الدعاءُ لمكان مرتفع، ثم تُوُسِّع فيه، حتى استُعمِل في طلب الإقبال إلى كل مكان، حتى المنخفض. و «ندع» جزم على جواب الأمرِ؛ إذ يَصحُّ أن يقال: فتعالوا ندع. قوله: «أبْناءنا» . قيل: اراد الحسن والحسين ويؤيده قوله تعالى: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ﴾ [الأنعام: 84] ﴿وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى﴾ [الأنعام: 85] ومعلوم أن عيسى إنما انتسب إلى إبراهيم بالأم - لا بالأب - فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً. و «نِساءَنَا» فاطمة، «وَأنْفُسَنَا» عني نفسه وعلياً، والعرب تسمي ابن العم نفسه كما قال: ﴿وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ﴾ [الحجرات: 11] يريد إخوانكم. وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين. قوله: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ قال ابنُ عبّاس: نتضرع في الدعاء. وقال الكلبي: نجتهد ونبالغ في الداعاء وقال الكسائيُّ وأبو عبيدة: نَلتعن. والابتهال: افتعال، من البُهْلَة، وهي - بفتح الباء وضمها - اللعنة، قال الزمخشريُّ: ثم نتباهل بأن نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة - بالفتح والضم - اللعنة، وبَهَلَه الله: لعنه وأبعده من رحمته من قولك: أبهله إذا أهمله، وناقة باهل: لا صِرَارَ عليها، أي: مرسلة مُخَلاَّة - كالرجل الطريد المنفي - وإذا كان البهل هو الإرسال والتخلية، فمن بهله الله فقد خلاه، ووكله إلى نفسه، فهو هالك لا شك فيه - كالناقة الباهل التي لا حافظ لها، فمن شاء حلبها، لا تقدر على الدفع عن نفسها هذا أصل الابتهال، ثم استُعْمِل في كل دعاء مُجْتَهَدٍ فيه - وإن لم يكن التعاناً -[يعني أنه اشتهر في اللغة: فلان يبتهل إلى الله - تعالى - في قضاء حاجته، ويبتهل في كشف كربته] . قال شهاب الدّين: ما أحسن ما جعل «الافتعال» - هنا - بمعنى التفاعل؛ لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك، وتفاعل و «افتعل» أخوان في مواضع، نحو اجتوروا وتجاوروا، واشتوروا وتشاوروا، واقتتل القوم وتقاتلوا، واصطحبوا وتصاحبوا، لذلك صحت واو اجتوروا واشتوروا. قال الراغبُ: وأصل البهل: كون الشيء غيرَ مراعى، والباهل: البعير المُخَلَّى عن قيده والناقة المخلَّى ضرعها عن صِرَارٍ، وأنشد لامرأة: أتيتك باهلاً غير ذات صِرار. وأبهلت فلاناً: خليته وإرادته؛ تشبيهاً بالبعير الباهل، والبهل والابتهال في الدعاء: الاسترسال فيه والتضرع، نحو ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل﴾ ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن. قال الشاعر: (وهو لبيد) : [الرمل] 1493 - مِنْ قُرُومٍ سَادَةٍ في قَوْمِهِمْ ... نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ وظاهر هذا أنَّ الابتهال عام في كل دعاء - لعناً كان أو غيره - ثم خُصَّ في هذه الآية باللعن، وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن، ثم تُجُوِّز فيه، فاستُعمِل في كل اجتهاد في دعاء - لعناً كان، أو غيره - والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب. قال أبو بكر بن دُرَيْد في مقصورته: [الرجز] 1494 - لَمْ أرَ كَالْمُزْنِ سَوَاماً بُهَّلا تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهْيَ سُدَى بهلاً جمع باهلة - أي: مهملة، وفاعلة تجمع على فُعَّل، نحو ضُرَّب. والسُّدَى: المهمل - أيضاً - وأتى ب «ثُمَّ» هنا، تنبيهاً على خطئهم في مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأنَّوْا؛ لعلَّه أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي. قوله: ﴿فَنَجْعَل﴾ هي المتعدية لاثنين - بمعنى نصير - و ﴿عَلَى الكاذبين﴾ هو المفعول الثاني. فصل روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أورد الدلالة على نصارى نجران، ثم إنهم أصرُّوا على جهلهم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ يَأمُرُنِي - إن لَمْ تَقْبَلُوْا الْحُجَّةَ - أنْ أبَاهِلَكُمْ» ، فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع، فننظر في أمرنا، ثم نأتيك غداً، فخلا بعضهم ببعض، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم - يا معشر النصارى - أن محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيًّا - قط - فعاش كبيرُهم ولا صغيرُهم، ولأن فعلتم ذلك لنهلكن، ولكان الاستئصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادِعوا الرجل، وانصرِفوا إلى بلادكم، فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان قد خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحُسَيْن، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما، وهو يقول لهم: إذَا دَعَوْتُ فأمِّنُوا، فقال أسقفُ نجران: يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جَبَلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا، فتهلكوا ولا يبقى نصراني على وجه الأرض إلى يوم القيامة فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نباهلَك، وأن نقرك على دينك، ونثبت على ديننا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فَإنْ أبَيْتُمُ الْمُبَاهَلَةَ فَأسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِيْنَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهمْ فأبَوْا، فقال: فَإنِّي أنَابِذُكُمْ» ، فقالوا ما لنا بحَرْبِ العَرَب طاقةٌ، ولكن نصالِحُكَ على أن لا تَغزُوَنا، ولا تُرُدَّنا عن ديننا، على أن نؤدِّي إليك في كل عام ألفَيْ حُلَّة - ألفاً في صَفَر وألفاً في رجب - وثلاثين درعاً عادية من حديد، فَصَالَحَهُمْ عَلَى ذلك، وَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الْعَذَابَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أهْلِ نَجْرَانَ، وَلَوْ لاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، ولاضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَاراً، وَلأسْتَأصَلَ اللهُ نَجْرَانَ وَأهْلَهُ - حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى الشَّجَرِ - وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارى كلِّهِمْ حَى يَهْلِكُوا» . وروي أنه - عليه السَّلامُ - لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحَسَن، فأدْخله، ثم جاء الحُسَيْن فأدخله، ثُمّ فَاطِمَةُ، ثُم عليٌّ، ثم قال: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾ [الأحزاب: 33] . فصل قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إن القول، بأن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء أوْلَى؛ لأنه يكون قوله: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي: ثم نجتهد في الدعاء، ونجعل اللعنة على الكاذب، وعلى القول بأنه الالتعان يصير التقدير: ﴿ثُمَّ نَبْتَهِلْ﴾ أي: نَلْتَعِن، فنجعل لعنة الله على الكاذب، هو تكرارٌ. وهنا سؤالان: السؤالُ الأولُ: الأولاد إذا كانوا صِغَاراً لم يَجُزْ نزولُ العذابِ بهم، وقد ورد في الخبر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أدْخَل في المباهلةِ الحسنَ والحسينَ، فما الفائدة فيه؟ والجواب: أن عادة الله جاريةٌ بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم الأولاد والنساء، فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً، وفي حق النساء جارياً مجرى إماتتهم، وإيصال الآلام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده، وأهله شديدة جِداً، ورُبَّما جَعَل الإنسانُ نفسَه فداءً لهم وإذا كان كذلك فهو - عليه السلامُ - أحضر صبيانه ونساءه معه، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك، ليكون ذلك أبلغ للزجر، وأقوى في تخويف الخصم، وأدل على وثوقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن الحقَّ معه. السؤال الثاني: أليس أن بعض الكفار استعمل المباهلة مع نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قالوا: ﴿اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ [الأنفال: 32] ثم إنه لم ينزل بهم عذاب ألبتة - فكذا ها هنا - وأيضاً فبتقدير نزول العذابِ يكون ذلك مناقضاً لقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ [الأنفال: 33] . الجوابُ: أن الخاص مقدَّم على العام، فلما أخبر - عليه السلامُ - بنزول العذاب في هذه القصة على التعيين، وجب أن تعتقد أن الأمرَ كذلك. فصل دلت هذه الواقعةُ على صحة نبوتِهِ - عليه السلام - من وَجْهَيْنِ: أحدهما: أنه - عليه السلام - خوفهم بنزول العذاب، ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه؛ لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته، ثم لا ينزل العذاب، فحينئذ يظهر كذبه، فلما أصرَّ على ذلك علمنا أنه إنما أصرَّ عليه؛ لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم. وثانيهما: أن القوم - لما تركوا مباهلته - لولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته. فإن قيلَ: لم لا يجوز أن يُقال: إنهم كانوا شاكِّين، فتركوا مباهلَتَه؛ خَوْفاً من أن يكون صادقاً، فينزل بهم ما ذُكِرَ من العذاب؟ فالجوابُ: أن هذا مدفوع من وَجْهَيْنِ: الأول: أن القوم كانوا يَبْذلون النفوسَ والأموالَ في المنازعة مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولو كانوا شاكِّين لَمَا فعلوا ذلك. الثاني: أنه قد نُقل عن أولئك النصارَى أنهم قالوا: إنه والله هو النبي المبشَّرُ به في التوراةِ والإنجيلِ وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصالُ، فكان تصريحاً منهم بأن الامتناع من المباهلة كان لأجل علْمِهم بأنه نبي مُرْسَل من عند الله تعالى. فصل قال ابنُ الْخَطِيبِ: كان في الرِّيِّ رجلٌ يقال له مَحْمُود بن الحسن الحِمْضِيُّ، وكان معلم الاثني عشرية، وكان يزعم أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أفضل من جميع الأنبياء - سوى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: والذي يدل على ذلك قوله: ﴿وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ﴾ ، وليس المراد بقوله: ﴿وَأَنفُسَنَا﴾ نفس محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفسِ، فالمراد: أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل؛ لقيام الدلائل على أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نبياً، وما كان عَلِيٌّ كذلك، ولانعقاد الاجماع على أن محمداً ك ان أفضل من علي، فيبقى فيما وراءه معمولاً به، ثم الإجماع دَلَّ على أنّ محمداً كان أفضلَ من سائر الأنبياء، فيلزم أن يكون عَلِيٌّ أفضلَ من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثم قال: ويؤكد هذا الاستدلالَ الحديثُ المقبولُ - عند الموافقِ والمخالفِ - وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من أرَادَ أنْ يَرَى آدَمَ فِي عِلمِهِ، وَنُوحاً في طَاعَتِهِ، وإبْرَاهِيمَ فِي خُلَّتِه، وَمُوسَى في هَيْبَتِه، وَعِيْسَى في صَفْوَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ» . فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرِّقاً فيهم، وذلك يدل على أن عَلِيًّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أما سائر الشيعةِ فقد كانوا - قديماً وحديثاً - يستدلون بهذه الآية على أن عليًّا أفضلُ من سائر الصحابة؛ وذلك لأنَّ الآية لمَّا دلَّت على أن نَفْسَ عَلِيٍّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ - إلا ما خصه الدليل - وكان نفس محمد أفضل من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فوجب أن يكون نفس عليٍّ أفضل من سائر الصحابة، هذا تقريرُ كلامِ الشيعة. فالجوابُ: أنه كما انعقد الإجماع بَيْنَ المسلمين على أن محمداً أفضلُ من عليٍّ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم - قَبْلَ ظُهُورِ هذا الإنسانِ - على أن النبيَّ أفضل ممن ليس بنبيِّ، وأجمعوا على أن عليًّا ما كان نبيًّا، فلزم القطعُ على أن ظاهرَ الآية، كما أنه مخصوص في حق محمد، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياءِ - عليهم السلام -.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب