قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً﴾ الآية. . والمراد بالعلم أي: علم القضاء ومنطق الطير والدواب وتسبيح الجبال، والمعنى: طائفة من العلم، او علماً سنياً عزيزاً.
قوله: «وَقَالاَ» ، قال الزمخشري: فإن قلت: أليس هذا موضع الفاء دون الواو، كقولك: أعطيته فشكر، ومنعته فصبر؟ قلت: بلى، ولكن عطفه بالواو إشعار بأنَّ ما قالاه بعض ما أحدث فيهما إيتاء العلم وشيءٌ من مواجبه، فأضمر ذلك ثم عطف عليه التحميد، قال: ولقد آتيناهما علماً فعملا به وعلماه وعرفاه حقَّ معرفته، وقالا الحمد لله، انتهى.
وإنَّما نكر «عِلْما» تعظيماً له، أي علماً سنياً، أو دلالة على التبعيض، لأنه قليل جداً بالنسبة إلى علمه تعالى.
فصل
المعنى: ﴿وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا﴾ بالنبوة والكتاب وتسخير الشياطين، والجن والإنس ﴿على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين﴾ ، ولم يفضلوا أنفسهم على الكل، وذلك يدل على حسن التواضع. قوله: ﴿وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ﴾ ، قال الحسن: المال لأن النبوة عطية مبتدأة لا تورث، وقال غيره: بل النبوة والعلم والملك دون سائر أولاده، ولو تأمل الحسن لعلم أن المال لا يورث من الأنبياء، لقوله عليه السلام: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِياءِ لا نُورَث مَا تَرَكْنَاهُ صدقة» ، وأيضاً فإن المال إذا ورثه الولد فهو أيضاً عطية مبتدأة من الله تعالى، ولذلك يرثه الولد إذا كان مؤمناً، ولا يرث إذا كان كافراً أو قاتلاً، ولا كذلك النبوة، لأن الموتا لا يكون سبباً لنبوة الولد، وكان لداود تسعة عشر ابناً، واعطي سليمان ما أعطي داود من الملك، وزيد له تسخير الريح وتسخير الشياطين، قال مقاتل: كان سليمان أعظم ملكاً من داود وأقضى منه، وكان داود أشد تعبداً من سليطان، وكان سليمان شاكراً لنعم الله.
﴿وَقَالَ يا أيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير﴾ ، يعني صوته، سمي صوت الطير منطقاً، لحصول الفهم منه كما يفهم من كلام الناس، روي عن كعب قال: صاح ورشان عند سليمان عليه السلام، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: إنه يقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب، وصاحت فاختة، فقال: أتدرون ما تقول؟ قالوا لا، قال فإنها تقول: ليت ذا الخلق لم يخلقوا، وصاح الطاووس فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: كما تدين تدان، قال: وصاح هدهد، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: استغفروا الله يا مذنبين، وصاحت طيطوى، فقال أتدرون ما تقول؟ قالوا لا، قال فإنه يقول: كل حي ميت، وكل جديد بال وصاح خطاف، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنها تقول: سبحان ربي الأعلى (ملء سمائة وأ ﴿ضه، وصاح قمري، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: سبحان ربي الأعلى) ، قال: والغراب يدعو على العشَّار، والحدأة تقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ﴾ [القصص: 88] ، والقطاة تقول: من سكت سلم، والببعاء: ويلٌ لِمَنِ الدُّنْيَا هَمُّهُ، والضفدع يقول: سبحان ربِّي القدُّوس، والبازي يقول: سبحان ربي وبحمده. وعن مكحول قال: صاح دُرَّاج عند سليمان، فقال: أتدرون ما يقول؟ قالوا لا، قال: فإنه يقول: ﴿الرحمن عَلَى العرش استوى﴾ [طه: 5] .
قوله: ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ تؤتى الأنبياء والملوك، قال ابن عباس: من أمر الدنيا والآخرة. وقال مقاتل: يعني النبوة والملك وتسخير الجن والشياطين والريح ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين﴾ ، والمراد بقوله: ﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ كثرة ما أوتي، لأن كثرة المشاركة سبب لجواز الاستعارة، فلا جرم يطلق لفظ الكلم على الكثرة، كقوله ﴿وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾ [النمل: 23] وقوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين﴾ ، أي: الزيادة الظاهرة على ما أعطي غيرنا، روي أن سليمان أعطي ملك مشارق الأرض ومغاربها، فملك سبعمائة (سنة) وستة أشهر، ملك جميع أهل الدنيا من الجن والإنس والدواب والطير والسباع، وأعطي على ذلك منطق كل شيء، وفي زمانه صنعت الصنائع العجيبة.
فقوله: ﴿إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين﴾ تقرير لقوله: ﴿الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا﴾ والمقصود منه: الشكر والمحمدة، كما قال عليه السلام: «أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ»
فإن قيل: كيف قال «عُلِّمنا» و «أُوتِينَا» ، وهو كلام المتكبر؟ فالجواب من وجهين، الأول: أن يريد نفسه وأباه.
والثاني: أن هذه النون يقال لها نون الواحد المطاع، وكان ملكاً مطاعاً.
قوله: «وَحُشرَ لسُلَيْمَانَ» : وجمع لسليمان جنوده من الجن والإنس والطير في مسير له، فقوله: «مِن الجَنّ» وما بعده بيان ل «جنوده» فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون هذا الجار حالاً، فيتعلق بمحذوف أيضاً.
قوله: «فهم يُوزَعُون» أي: يمنعنون ويكفُّون، والوزع: الكف والحبس، يقال: وزعه يزعه فهو وازع وموزوع، وقال عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «مَا يَزَعُ السُّلْطَانُ أَكْثَرُ مِمَّا يَزَعُ القُرْآنُ» ، وعنه: «لاَ بُدَّ لِلقَاضِي مِنْ وَزَعَةٍ» وقال الشاعر:
3935 - وَمَنْ لَمْ يَزَعْهُ لُبُّهُ وحَيَاؤُهُ ... فَلَيْسَ لَهْ مِنْ شَيْبِ فَوْدَيْهِ وَازعُ وقوله: ﴿أوزعني أَنْ أَشْكُرَ﴾ بمعنى ألهمني من هذا، لأنَّ تحقيقه: اجعلني من حيث أزع نفسي عن الكفر فقوله: «فَهُمْ يُوزَعُونَ» معناه: يحبسون، وهذا لا يكون إلا إذا كان في كل قبيل منها وازع متسلط على من يرده ويكفيه. وقال قتادة: كان كل صنف من جنوده وزعة ترد أولها على آخرها لئلا يتقدمون في المسير، والوازع: الحابس والنقيب، وقال، وقال مقاتل يوزعون يساقون، وقال السدي: يوقفون، وقيل يجمعون.
قوله: «حَتَّى إذَا» في المُغَيَّا ب «حتى» وجهان:
أحدهما: هو «يُوزَعُونَ» ، لأنه مضمن معنى فهم يسيرون ممنوعاً بعضهم من مفارقة بعض حتى إذا.
والثاني: أنه محذوف، أي فساروا حتى وتقدم الكلام في حتى الداخلة على إذا، هل هي حرف ابتداء أو حرف جر.
قوله: «عَلَى وَادِي» متعلق ب «أَتَوا» ، وإنما عدِّي ب «عَلَى» ، لأنَّ الواقع كذا، لأنهم كانوا محمولين على الريح، فهم مستعلون. وقي: هو من قولهم: أتيت عليه، أي استقصيته إلى آخره، والمعنى أنهم قطعوا الوادي كله وبلغوا آخره.
ووقف القراء كلهم على «وَادِ» دون ياء اتباعاً للرسم، ولأنها محذوفة لفظاً لالتقاء الساكنين في الوصل، ولأنها قد حذفت حيث لم تحذف لالتقاء الساكنين (نحو ﴿جَابُواْ الصخر بالواد﴾ [الفجر: 9] فحذفها وقفاً، وقد عهد حذفها دون التقاء الساكنين) ، فحذفها عند التقاء الساكنين أولى، إلا الكسائي، فإنه وقف بالياء، قال: لأن الموجب للحذف إنما هو التقاء الساكنين بالوصل، وقد زال، فعادت اللام، واعتذر عن مخالفة الرسم بقوة الأصل.
والنَّملُ: اسم جنس معروف واحده نملةٌ، ويقال: نُمْلَةٌ ونُمْلٌ بضم النون وسكون الميم، ونُمُلَة ونُمُل بضمّهما، ونَمْلَة بالفتح، والضم بوزن سمرة، ونَمُل بوزن رجل، واشتقاقه من: التَّنمُّل، لكثرة حركته، ومنه قيل للواشي: المُنَمِّل، يقال: أنْمَلَ بين القوم مُنْمِل، أي: وشَى وَنَمَّ، لكثرة تردده، وحركته في ذلك، قال: 3936 - وَلَسْتُ بِذِي فِيهِمُ ... وَلاَ مُنْمِشٍ منهم مُنْمِلِ
ويقال أيضاً: نَمِل يَنْمِلُ، فهو نَمِلٌ ونَمَّالٌ، وتَنَمَّلَ القومُ: تفرقوا للجميع تفرُّق النمل، وفي المثل: «أجْمَعُ مِنْ نَمْلَةٍ» والنَّمْلةُ أيضاً: قرحةٌ تخرج في الجنب، تشبيهاً بها في الهيئة، والنملة أيضاً شقٌّ في الحافر، ومنه: فرسٌ منمول القوائم، والأنْمُلة: طرف الإصبع من ذلك؛ لدقتها وسرعة حركتها، والجمع: أنامل.
فصل
قال كعب: كان سليمان إذا سار بعسكره حملته الريح تهوي بهم فسار من اصطخر إلى اليمن، فمرّ على مدينة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، فقال سليمان: هذه دار هجرة نبي الله في آخر الزمان، طوبى لمن آمن به، وطوبى لمن اتبعه، ورأى حول البيت أصناماً تعبد من دون الله، فلما جاوز سليمان البيت بكى فأوحى الله إلى البيت: ما يبكيك؟ قال: يا رب أبكاني أن هذا نبي من أنبيائك وقوم من أوليائك مروا عليّ فلم يهبطوا ولم يصلوا عندي والأصنام تعبد حولي من دونك، فأوحى الله إليه، لا تبك، فإني سوف أملأك وجوهاً سجداً، وأنزل فيك قرآناً جديداً، وأبعث منك في آخر الزمان أحب أنبيائي إليّ وأجعل فيك عماراً من خلقي يعبدونني، وأفرض على عبادي فريضة يزفون إيلك زفيف النسور إلى أوكارها، ويحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان، ثم مضى سليمان حتى مرّ بوادي السدير من الطائف، فأتى على وادي النمل، هكذا قال كعب إنه واد بالطائف، وقال مقاتل: إنه وادٍ بالشام كثير النمل، وقيل وادٍ كان يسكنه الجن، وأولئك النمل مراكبهم.
قوله: «قَالَتْ نَمْلَةٌ» هذه النملة هنا مؤنثة حقيقة، بدليل لحاق علامة التأنيث فعلها، لأن نملة تطلق على الذكر وعلى الأنثى، فإذا أريد تمييز ذلك قيل: نملة ذكر، ونملة أنثى، نحو: حَمامَة ويَمَامة. وحكى الزمخشري عن أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه وقف على قتادة وهو يقول: سلوني، فأمر من سأله عن نملة سليمان: هل كانت ذكراً أو أنثى، فلم يجب، فقيل لأبي حنيفة في ذلك، فقال: كانت أنثى، واستدل بلحق العلامة.
قال الزمخشري: وذلك أن النملة مثل الحمامة والشاة في وقوعها على المذكر والمؤنث، فيميز بينهما بعلامة، نحو قولهم: حمامة ذكر وحمامة أنثى، وهو وهي، انتهى.
وقد ردَّ هذا أبو حيان، فقال: ولحاق التاء في «قالت» لا يدلّ على أن الملة مؤنثة، بل يصح أن يقال في المذكر: قالت نملة؛ لأن نملة وإن كانت بالتاء هو مما لا يتميز فيه المذكر من المؤنث، وما كان كذلك كاليمامة والقملة ممابينه في الجمع وبين واحدة تاء التأنيث من الحيوان، فإنه يخبر عنه إخبار المؤنث، (ولا يدل كونه يخبر عنه إخبار المؤنث) على أنه ذكر أو أنثى، لأن التاء دخلت فيه للفرق لا للدلالة على التأنيث الحقيقي، بل دالة على اواحد من هذا الجنس، قال: وكان قتادة بصيراً بالعربية، وكونه أفحم يدل على معرفته باللسان إذ علم أن النملة يخبر عناه إخبار المؤنث وإن كانت تنطلق على الأنثى والذكر إذ لا يتميز فيه أحد هذين، ولحاق العلامة لا يدل، فلا يعلم التذكير والتأنيث إلا بوحي من الله، قال: وإنما استنباط تأنيثه من كتاب الله ب «قالت» ، ولو كان ذكراً لقيل: «قال» فكلام النحاة على خلافه، وأنه لا يخبر عنه إلا إخبارا المؤنث، سواء كان ذكراً أم أنثى.
قال: وأما تشبيه الزمخشري النملة بالحمامة والشاة، فبينهما قدر مشترك يتميز فيهما المذكر من المؤنث فيمكن أن تقول: حمامة ذكر، وحمامة أنثى فتميزه بالصفة، وأما تميزه ب «هو» و «هي» فإنه لا يجوز، لا تقول هو الحمامة، ولا هو الشاة، وأما النملة والقملة فلا يتميز فيه المذكر من المؤنث، ولا يجوز فيه في الإخبار إلا التأنيث وحكمه حكم المؤنث بالتاء من الحيوان نحو: المرأة، أو غير العاقل كالدابة، إلا إن وقع فصل بين الفعل وبين ما أسند إليه من ذلك، فيجوز أن تلحق العلامة وأن لا تلحقها، على ما تقرر في علم العربية. انتهى.
قال شهاب الدين: اما ما ذكره ففيه نظر، من حيث إن التأنيث إما لفظي أو معنوي، واللفظي لا يتبر (في لحاق العلامة) البتة، بدليل أنه لا يجوز (قامت رَبْعَةٌ وأنت تعني رجلاً، وكذلك) لا يجوز: قامت طلحة، ولا حمزة - على مذكر - فتعين أن يكون اللحاق إنما هو للتأنيث المعنوي، وإنما يعتبر لفظ التأنيث والتذكير في بابا العدد على معنى خاص أيضً، وهو أنا ننظر إلى ما عاملت العرب ذلك اللفظ به من تذكير أو تأنيث من غير نظر إلى مدلوله، فهناك له هذا الاعتبار، وتحقيقه هنا يخرجنا عن المقصود وإنما نبهتك على القدر المحتاج إليه.
وأما قوله: وأما النملة والقملة فلا يتميَّز، يعني لا يتوصَّلُ لمعرفة الذكر منهما ولا الأنثى بخلاف الحمامة والشاة، فإن الاطلاع على ذلك ممكن، فهو أيضاً ممنوع إذ قد يمكن الاطلاع على (ذلك، وأن الاطلاع على ذكورية الحمامة والشاة أسهل من الاطلاع على) ذكورية النملة والقملة، ومنعه أيضاً أن يقال هو الشاة وهو الحمامة ممنوع.
وقرأ الحسن وطلحة ومعتمر بن سليمان: «النّمُلُ» و «نَمُلَة» بضم الميم وفتح النون بزنة رجل وسمرة، وسليمان التيمي بضمتين فيهما، وتقدم ان ذلك لغات في الواحد والجمع. قوله «لاَ يَحْطِمَنَّكُم» ، فيه وجهان:
أحدهما: أنه نهي.
والثاني: أنه جواب للأمر.
وإذا كان نهياً ففيه وجهان:
أحدهما: أنه نهي مستأنف لا تعلق له بما قبله من حيث الإعراب، وإنما هو نهي للجنود في اللفظ، وفي المعنى للنمل، أي لا تكونوا بحيث يحطمونكم، كقولهم: لا أَرَينَّك ههُنَا.
والثاني: أنه بدل من جملة الأمر قبله، وهو «ادْخُلُوا» ، وقد تعرض الزمخشري لذلك، فقال: فإن قلت: لا يحطمنكم ما هو؟ قلت يحتمل أن يكون جواباً للأمر، وأن يكون نهياً بدلاً من الأمر، والذي جوَّز أن يكون بدلاً منه أنه في معنى: لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، على طريقة: لاَ أَرَيَنَّكَ ههُنَا، أرادت: لا يحطمنكم جنود شسليمان، فجاءت بما هو أبلغ، ونحوه:
3937 - عَجِبْتُ مِن نَفْسِي وَمِنْ إشْفَاقِهَا ... قال أبو حيان: اما تخريجه على أنه جواب الأمر، فلا يكون ذلك إلا على قراءة الأعمش، فإنه مجزوم مع أنه يحتمل أن يكون استئناف نهي يعني أن الأعمش قرأ: «لاَ يَحْطَمْكُمْ» بجزم الميم دون نون توكيد، قال: وأما مع وجود نون التوكيد فلا يجوز ذلك إلا إن كان في شعر، وإذا لم يجز ذلك في جواب الشرط إلا في الشعر فأحرى أن لا جوز في جواب الأمر إلا في الشعر، وكونه جواب الأمر متنازع فيه على ما قرر في علم النحو. ومثال مجيء النون في جواب الشرط قوله الشاعر:
3938 - نَبَتُّمْ نَبَاتَ الخَيْزُرَانَةِ في الثَّرَى ... حَدِيثاً مَتَى مَا يَأْتِكَ الخَيْرُ يَنْفَعَا
وقول الآخر:
3939 - فَمَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تُعْطِكُمْ ... ومَهْمَا تَشَأْ مِنْهُ فَزَارَةُ تَمْنَعَا قال سيبويه: وهو قليل في الشعر شبهوهُ بالنهي حيث كان مجزوماً غير واجب، قال: وأما تخريجه على البدل فلا يجوز، لأن مدلول «لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ» مخالف لمدلول «ادخُلُوا» ، وأما قوله: لأنه بمعنى لا تكونوا حيث أنتم فيحطمنكم، فتفسير معنى لا إعراب، والبدل من صفة الألفاظ، نعم لو كان اللفظ القرآني: لا تكونوا بحيث لا يحطمنكم، لتُخُيِّل فيه البدل، لأن الأمر بدخول المساكين نهي عن كونهم بظاهر الأرض.
وأما قوله: إنه أراد لا يحطمنكم جنود سليمان إلى آخره، فيسوغ زيادة الأسماء، وهو لا يجوز، بل الظاهر إسناد الحطم إلى جنوده، وهو على حذف مضاف، أي: خيل سليمان وجنوده، إو نحو ذلك مما يصح تقديره، انتهى.
أما منعه كونه جواب الأمر من أجل النون، فقد سبقه إليه أبو البقاء، فقال: وهو ضعيف، لأن جواب الشرط لا يؤكد بالنون في الاختيار. وأما منعه البدل بما ذكر فلا نسلم تغاير المدلول بالنسبة لما يؤول إليه المعنى. وأما قوله: فيسوغ زيادة الأسماء فهو لم يسوغ ذلك، وإنما فسر المعنى - وعلى تقدير ذلك - فقد قيل به شائعاً. وجاء الخطاب في قولها «ادخلوا» كخطاب العقلاء لما عوملوا معاملتهم. وقرأ أُبَيّ: ﴿ادْخُلْنَ مَساكِنَكُنَّ لاَ يَحْطمنَّكُن﴾ - بالنون الخفيفة - جاء به على الأصل. وقرأ شهر به حوشب: «مَسْكَنَكم» بالإفراد وقرأ الحسن وأبو رجاء وقتادة وعيسى الهمداني بضم الياء وفتح الحاء وتشديد الطاء والنون مضارع حطمه بالتشديد. وقرأ الحسن أيضاً قراءتان: فتح الياء وتشديد الطاء مع سكون الحاء وكسرها والأصل: يَحطمَنَّكُمْ، فأدغم وإسكان الحاء مشكل تقدم نظيره في «لا يَهديِّي» ونحوه، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب وأبو عمرو في رواية بسكون نون التوكيد. والحطم: الكسرُ، يقال منه: حطمتهُ، ثم استعمل لكل كسر معناه، والحطام: ما تكسر يبساً وغلب على الأشياء التافهة، والحُطَم: السائق السريع، كأنه يحطم الإبل، قال:
3940 - قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بسواقٍ حَطَمْ ... لَيْسَ برَاعِي إبِلٍ وَلاَ غَنَمْ
ولا بِجَزَّارٍ ظَهْرٍ وَضَمْ
والحُطَمَة: من دركات النار، ورجل حُطَمَةٌ للأكول، تشبيهاً لبطنه بالنار، كقوله:
3941 - كَأَنَّمَا فَي جَوْفِهِ تَنُّورُ ... وقوله: «وهُمْ لا يشعُرُونَ» جملة حالية.
فصل
قال الشعبي: كانت تلك النملة ذات جناحين، فنادت ﴿يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ﴾ ، ولم تقل: ادخلن، لأنها لما جعلت لهم قولاً كالآدميين خوطبوا بخطاب الآدميين، «لاَ يَحْطِمَنَّكُنمْ» لا يكسرنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون، فسمع سليمان قولها، وكان لا يتكلم خلق إلا حملت الريح ذلك فألقته في مسامع سليمان. فإن قيل: كيف يتصور الحطم من سليمان وجنوده، وكانت الريح تحمل سليمان وجنوده على بساط بين السماء والأرض؟ قيل: كانت جنوده ركباناً وفيهم مشاة على الأرض تطوى بهم، وقيل يحتمل أن يكون هذا قبل تسخير الله الريح لسليمان.
وقال المفسرون: علم النمل أن سليمان نبي ليس فيه جبرية ولا ظلم، ومعنى الآية: أنكم لو لم تدخلوا مساكنكم وطئوكم ولم يشعروا بكم، وروي أن سليمان لما دخل وادي النمل حبس جنده، حتى دخل النمل بيوتهم. قال أهل المعاني: في كلام هذه النملة أنواع من البلاغة: نادت، ونبّهت، وسمت، وأمرت، ونصت، وحذرت، وخصت، وعمت، وأشارت، وأعذرت، ووجهه: نادت: «يا» نبهت: «ها» سمت: «النمل» ، أمرت «ادخلوا» ، نصت: «مساكنكم» ، حذرت: «لا يحطمنكم» ، خصت: «سليمان» ، عمت و «جنوده» ، أشارت: «وَهُمْ» ، أعذرت: «لا يشعرون» .
قوله: «ضاحكاً» قيل: هي حال مؤكدة لأنها مفهومة من (تبسم) ، وقيل: بل هي حال مقدرة، فإن التبسم ابتداء الضحك، وقيل: لما كان التبسم قد يكون للغضب، ومنه تَبَسَّمَ تَبَسُّمَ الغضبان، أي تضاحكاً مسبباً له، قال عنترة:
3942 - لَمَّا رَآنِي قَدْ قَصَدْتُ أُرِيدُهُ ... أَبْدَى نَوَاجِذَهُ لِغَيْرِ تَبَسُّمِ
وتبسَّم: تَفَعَّلَ بمعنى بَسَمَ المجرّد، قال:
3943 - وَتَبْسِمُ عَنْ أَلْمَى كَأَنَّ مُنَوَّراً ... تَخَلَّلَ حُرَّ الرَّمْلِ دِعْصٌ لَهُ نَدِي
وقال بعض المولدين:
3944 - كَأَنَّمَا تَبْسِمُ عَنْ لُؤْلُؤٍ ... مُنَضَّدٍ أَوْ بَرَدِ أَوْ أَقَاح
وقرأ ابن السميفع: «ضحكاً» مقصوراً، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه مصدر مؤكد معنى تبسم، لأنه بمعناه.
والثاني: أنه في موضع الحال، فهو في المعنى كالذي قبله.
الثالث: أنه اسم فاعل كفرح، وذلك لأن فعله على فَعِل بكسر العين، وهو لازم، فهو كفرح وبطِر. قوله: «أن أشكر» مفعول ثان ل «أوزعني» ، لأن معناه: ألهمني، وقيل معناه: اجعلني أزع شكر نعمتك، أي: أكفه وأمنعه حتى لا ينفلت مني، فلا أزال شاكراً، وتفسير الزجاج له بامنعني أن أكفر نعمتك من باب تفسير المعنى باللازم.
فصل
قال الزجاج أكثر ضحك الأنبياء التبسم، وقوله: «ضاحكاً» أي: مبتسماً، وقيل: كان أوله التبسم وآخره الضحك، قال مقاتل: كان ضحك سليمان من قول النملة تعجباً، لأن الإنسان إذا رأى ما لا عهد له به تعجب وضحك، وإنما ضحك لأمرين:
أحدهما: إعجابه بما دل من قولها على ظهور رحمته ورحمة جنوده وعلى شهرة حاله وحالهم في التقوى، وهو قولها: «وهم لا يشعرون» .
والثاني: سروره بما آتاه الله ما له يؤت أحداً، من سمعه كلام النملة وإحاطته بمعناه. ثم حمد سليمان ربه على ما أنعم عليه، فقال: ﴿رَبِّ أوزعني﴾ ألهمني. ﴿أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين﴾
وهذا يدل على أن دخول الجنة ببرحمته وفضله، لا باستحقاق العبد، والمعنى: أدخلني في جملتهم، وأثبت امسي في أسمائهم واحشرني في زمرتهم، قال ابن عباس: يريد مع إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومن بعدهم من النبيين. فإن قيل: درجات الأنبياء أفضل من درجات الأولياء والصالحين، فما السبب في أن الأنبياء يطلبون جعلهم من الصالحين، فقال يوسف: ﴿تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين﴾ [يوسف: 101] ، وقال سليمان: ﴿وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين﴾ ؟ .
فالجواب: الصالح الكامل هو الذي لا يعصي الله ولا يهم بمعصية، وهذه درجة عالية.
{"ayahs_start":15,"ayahs":["وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ عِلۡمࣰاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ","وَوَرِثَ سُلَیۡمَـٰنُ دَاوُۥدَۖ وَقَالَ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّاسُ عُلِّمۡنَا مَنطِقَ ٱلطَّیۡرِ وَأُوتِینَا مِن كُلِّ شَیۡءٍۖ إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ ٱلۡفَضۡلُ ٱلۡمُبِینُ","وَحُشِرَ لِسُلَیۡمَـٰنَ جُنُودُهُۥ مِنَ ٱلۡجِنِّ وَٱلۡإِنسِ وَٱلطَّیۡرِ فَهُمۡ یُوزَعُونَ","حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَتَوۡا۟ عَلَىٰ وَادِ ٱلنَّمۡلِ قَالَتۡ نَمۡلَةࣱ یَـٰۤأَیُّهَا ٱلنَّمۡلُ ٱدۡخُلُوا۟ مَسَـٰكِنَكُمۡ لَا یَحۡطِمَنَّكُمۡ سُلَیۡمَـٰنُ وَجُنُودُهُۥ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ","فَتَبَسَّمَ ضَاحِكࣰا مِّن قَوۡلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوۡزِعۡنِیۤ أَنۡ أَشۡكُرَ نِعۡمَتَكَ ٱلَّتِیۤ أَنۡعَمۡتَ عَلَیَّ وَعَلَىٰ وَ ٰلِدَیَّ وَأَنۡ أَعۡمَلَ صَـٰلِحࣰا تَرۡضَىٰهُ وَأَدۡخِلۡنِی بِرَحۡمَتِكَ فِی عِبَادِكَ ٱلصَّـٰلِحِینَ"],"ayah":"وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَا دَاوُۥدَ وَسُلَیۡمَـٰنَ عِلۡمࣰاۖ وَقَالَا ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ ٱلَّذِی فَضَّلَنَا عَلَىٰ كَثِیرࣲ مِّنۡ عِبَادِهِ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"}