الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله﴾ الآية قرأ ابن عامر «نَحْشَرُهُمْ ... فَنَقُولُ» بالنون فيهما، وابن كثير وحفص بالياء من تحت فيهما، والباقون بالنون في الأوّل وبالياء في الثاني. وهُنّ واضحات. وقرأ الأعرج «نَحْشِرهُمْ» بكسر الشين في جميع القرآن. قال ابن عطية: هي قليلة في الاستعمال قوية في القياس، لأن يفعل بكسر العين في المتعدي أقيس من يفعُل بضم العين. وقال أبو الفضل الرازي: وهو القياس في الأفعال الثلاثية المتعدية؛ لأن يفعل بضم العين قد يكون من اللازم الذي هو فَعُل بضمها في الماضي. قال أبو حيان: وليس كما ذكرا بل فعل المُتعدي الصحيح جميع حروفه إذا لم يكن للمبالغة، ولا حلقي عين ولا لام فإنه جاء على يفعِل ويفعُل كثيراً، فإن شُهِرَ أحد الاستعمالين اتُّبع وإلا فالخيار حتى إن بعض أصحابنا خيَّر فيهما سُمِعَا للكلمة أم لم يُسْمَعَا. قال شهاب الدين: الذي خيَّر في ذلك ابن عصفور، فيجيز أن يقول: زيد يفعِل بكسر العين، ويَضْرِب بكسر الراء مع سماع الضم في الأول والكسر في الثاني وسبقه إلى ذلك ابن درستويه (إلا أن) النحاة على خلافه. قوله: «وَمَا يَعْبُدُونَ» عطف على مفعول «يَحْشُرُهُمْ» ، ويضعف نصبه على المعية، وغلب غير العاقل عليه فأتي ب «ما» دون «من» . فصل ظاهر قوله: «وَمَا يَعْبُدُونَ» أنها الأصنام، لأن (ما) لما لا يعقل. وظاهر قوله: ﴿فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ﴾ أنه من عبد من الأحياء كالملائكة والمسيح وعزير وغيرهم؛ لأن الإضلال وجد بهم فلهذا اختلفوا. فقال مجاهد: أراد الملائكة والجن والمسيح وعزير. وقال عكرمة والضحاك والكلبي: يعني الأصنام. فقيل لهم: كيف يخاطب الله تعالى الجماد فأجابوا بوجهين: أحدهما: أنه تعالى يخلق الحياة فيها ويخاطبها. والثاني: أن يكون ذلك بالكلام النفساني لا بالقول اللساني بل بلسان الحال كما ذكر بعضهم في تسبيح الموات، وكلام الأيدي والأرجل، وكما قيل سل الأرض من شق أنهارك، وغرس أشجارك؟ فإن لم يحصل جواباً أجابتك اعتباراً. وقال الأكثرون: المراد الملائكة وعيسى وعزير - عليهم السلام - قالوا: ويتأكد هذا القول بقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ﴾ [سبأ: 40] فإن قيل: لفظة «ما» لا تستعمل في العقلاء. فالجواب من وجهين: الأول: لا نسلم أن كلمة «ما» لا تستعمل لمن لا يعقل؛ لأنهم قالوا: «مَنْ» لمن لا يعقل في قوله تعالى: ﴿فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ﴾ [النور: 45] . الثاني: أنه أريد به الوصف كأنه قيل: ومعبودهم. وقال تعالى : ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: 5] ، ﴿وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ﴾ [الكافرون: 3] وهذا لا يستقيم إلا على أحد هذين الوجهين. فصل قالت المعتزلة: (وفيه كسر بيّن لقول من يقول إن) الله يضل عباده في الحقيقة لأنه لو كان الأمر كذلك لكان الجواب الصحيح أن يقول: إلهنا ههنا قسم ثالث غيرهما هو الحق، وهو أنّك أضللتهم فلما لم يقولوا ذلك بل نسبوا ضلالهم إلى أنفسهم، علمنا أنه تعالى لا يضل أحداً من عباده، فإن قيل: لا نسلم أن المعبودين ما تعرضوا لهذا القسم بل ذكروه، وقالوا: ﴿ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ حتى نَسُواْ الذكر﴾ ، وهذا تصريح بأن ضلالهم إنما حصل لأجل ما فعل الله بهم، وهو أنه تعالى متَّعهم وآباءهم بنعيم الدنيا. قلنا: لو كان الأمر كذلك لكان يلزم أن يصير الله محجوجاً في يد أولئك المعبودين، ومعلوم أنه ليس الغرض ذلك بل الغرض أن يصير الكافر محجوجاً مفحماً ملوماً. وأجاب أهل السنة بأن القدرة على الضلالة إن لم تصلح للاهتداء فالإضلال من الله، وإن صلحت له لم يترجح اقتدارها للضلال على اقتدارها على الاهتداء إلا لمرجح من الله تعالى، وعند ذلك يزول السؤال. وأما ظاهر الآية وإن كان لهم لكنه معارض بسائر الظوهر المطابقة لقولنا. قوله: «هؤلاء» يجوز أن يكون نعتاً ل «عِبَادي» أو بدلاً أو بياناً. قوله: «ضلّوا السَّبِيلَ» على حذف حرف الجر وهو «عن» كما صرح به في قوله ﴿يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ﴾ [الأنعام: 117] ثم اتُّسع فيه فحُذِف نحو هَدَى، فإنَّه يتعدَّى ب (إلى) وقد يُحْذَف اتساعاً. و «ضلَّ» مطاوع (أَضَلَّ) . فإن قيل: إِنَّهُ تعالى كان عالماً في الأزل بحال المسؤول عنه فما فائدة هذا السؤال؟ فالجواب: هذا سؤال تقريع للمشركين كما قيل لعيسى ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله﴾ [المائدة: 116] . فإن قيل: فما فائدة «أَنْتُمْ» ، وهلاَّ قيل: أَأَضْلَلْتُمْ عبادي هؤلاء أم ضلوا السبيل؟ فالجواب: هذا سؤال عن الفاعل فلا بدَّ من ذكره حتى يعلم أنه المسؤول عنه. وقوله: «أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ ... أَمْ هُمْ ضَلُّوا» (إنما قدم الاسم على الفعل) كما تقدم في قوله: ﴿أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ﴾ [المائدة: 116] . قوله: «يَنْبَغِي» العامة على بنائه للفاعل، وأبو عيسى الأسود القارئ «يُنْبَغَى» مبنيًّا للمفعول. قال ابن خالويه: زعم سيبويه أنَّ «يُنْبَغَى» لغة. قوله: «أَنْ نَتَّخِذَ» فاعل «يَنْبَغِي» ، أو مفعول قائم مقام الفاعل في قراءة الأسود وقرأ العامة «نَتَّخِذَ» مبنيًّا للفاعل، و «مِنْ أَوْلِيَاء» مفعوله وزيدت فيه (مِنْ) ويجوز أن يكون مفعولاً أوَّلَ على أن (اتَّخَذَ) متعدياً لاثنين. ويجوز أن لا تكون المتعدية لاثنين بل لواحد، فعلى هذا «مِنْ دُونِكَ» متعلق بالاتخاذ، أو بمحذوف على أنه حال من «أَوْلِيَاء» . وقرأ أبو الدرداء، وزيد بن ثابت، وأبو رجاء، والحسن، وأبو جعفر في آخرين: «نُتَّخَذَ» مبنيًّا للمفعول. وفيه أوجه: أحدها: أنها المتعدية لاثنين، فالأول: «هُمْ» ضمير الاثنين، والثاني: قوله: «مِن أَوْلِيَاء» و «مِنْ» للتبعيض، أي: ما كان ينبغي أن نتخذ بعض أولياء، قاله الزمخشري. الثاني: أنَّ «مِنْ أَوْلِيَاء» هو المفعول الثاني - (أيضاً - إلاَّ أن «مِنْ» مزيدة في المفعول الثاني) . وهذا مردود بأن «مِنْ» لا تزاد في المفعول الثاني إنما تزاد في الأول. قال ابن عطية: ويضعف هذه القراءة دخول «مِنْ» في قوله: «مِنْ أَوْلِيَاء» اعترض بذلك سعيد بن جبير وغيره. قال الزجاج: أخطأ من قرأ بفتح الخاء وضم النون، لأنَّ «مِنْ» إنما تدخل في هذا الباب إذا كانت مفعولةً أولاً ولا تدخل على مفعول الحال، تقول: ما اتخذت من أحدٍ ولياً، ولا يجوز ما اتخذت أحداً من وليٍّ. الثالث: أن يكون «مِنْ أَوْلِيَاء» في موضع الحال قاله ابن جني إلاَّ أنه قال: ودخلت «مِنْ» زيادة لمكان النفي المتقدم كقولك: ما اتخذت زيداً من وكيل. فظاهر هذا أنه جعل الجار والمجرور (في موضع الحال، وحينئذ يستحيل أن تكون «مِنْ» مزيدة ولكنه يريد أن هذا المجرور) هو الحال نفسه و «مِنْ» مزيدة فيه إلاَّ أنه لا يحفظ زيادة «مِنْ» في الحال وإن كانت منفية وإنما حفظ زيادة الباء فيها على خلاف في ذلك. فإن قيل: هذه القراءة غير جائزة، لأنه لا مدخل لهم في أن يتخذهم غيرهم أولياء. قلنا: المراد أنا لا نصلح لذلك، فكيف ندعوهم إلى عبادتنا؟ وقرأ الحجاج: نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ [أولياء] فبلغ عاصماً فقال: مَقَّتَ المُخْدجُ، أو ما علم أنَّ فيها «مِنْ» . فصل أجابوا بقولهم: «سُبْحَانَكَ» . وفيه وجوه: أحدها: أنه تعجب منهم، تعجبوا مما قيل لهم؛ لأنهم ملائكة، والأنبياء معصومون فما أبعدهم عن الإضلال الذي هو مختصٌّ بإبليس وجنوده. وثانيها: أنهم نطقوا ب «سُبْحَانَكَ» ليدلوا على أنهم المسبحون الموسومون بذلك، فكيف يليق بحالهم أن يضلوا عباده. وثالثها: قصدوا بالتسبيح تنزيهه عن الأنداد سواء كان المسبح وثناً أو نبياً أو ملكاً. ورابعها: قصدوا تنزيهه أن يكون مقصوده من هذا السؤال استفادة علم أو إبراء من كان بريئاً من الجرم، بل إنما سألهم تقريعاً للكفار وتوبيخاً لهم. وقولهم: ﴿مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ﴾ . معناه: إذا كنا لا نرى أن يتخذ من دونك ولياً، فكيف ندعو غيرنا إلى ذلك، أي ما كان لنا أن نأمرهم بعبادتنا ونحن نعبدك. وقيل: ما كان ينبغي لنا أن نكون أمثال الشياطين. وقيل: ما كان لنا أن نتخذ من دون رضاك من أولياء، أي: إنا علمنا أنك لا ترضى بهذا فما فعلنا، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. وقيل: قالت الملائكة: (إنَّا وهم عبيدك، ولا ينبغي لعبيدك أن يتخذوا من دون إذنك ولياً ولا حبيباً فضلاً عن أن يتخذ عبداً آخر إلهاً. وقيل: قالت الأصنام) : إنا لا يصلح منا أن نكون من العابدين فكيف يمكننا ادعاؤنا من المعبودين. قوله: «وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ» . لمَّا تضمَّن كلامهم أنَّا لم نضلهم ولم نحملهم على الضلال حسن هذا الاستدراك، وهو أن ذكروا سببه، أي: أنعمت عليهم وتفضلت فجعلوا ذلك ذريعةً إلى ضلالهم عكس القضية. والمعنى متعتهم وآباءهم في الدنيا بطول العمر والصحة والنعمة. ﴿حتى نَسُواْ الذكر﴾ تركوا الموعظة والإيمان بالقرآن. وقيل: تركوا ذكرك وغفلوا عنه. قوله: ﴿وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً﴾ أي: هلكى غلب عليهم الشقاء والخذلان. و «بُوراً» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه جمع بائر كعائذ وعوذ. والثاني: أنه مصدر في الأصل كالزور، فيستوي فيه المفرد والمثنى والمجموع والمذكر والمؤنث، وهو من البوار والهلاك. وقيل من الفساد، وهي لغة الأزد، يقولون: بَارَتْ بِضَاعَتَهُ أي: فسدت، وأمرنا بائر، أي: فاسد، وهذا معنى قولهم: كسدت البضاعة. وقال الحسن: هو من قولهم: أرض بورٌ، أي: لا نبات بها. وهذا يرجع إلى معنى الهلاك والفساد. قوله تعالى: «فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ» هذا خطاب مع المشركين، أي: كَذَّبَكُمُ المعبودون في قولكم إنهم آلهة وإنهم أضلوكم. وقيل: خطاب للمؤمنين في الدنيا، أي: فقد كذبوكم أيها المؤمنون الكفار بما تقولون من التوحيد في الدُّنيا، وهو معنى قوله «بِما تَقُولُونَ» . وهذه الجملة من كلام الله تعالى اتفاقاً، فهي على إضمار القول والالتفات. قال الزمخشري: هذه المفاجأة بالاحتجاج والإلزام حسنةٌ رائعةٌ وخاصة إذا انضمَّ إليها الالتفات وحذف القول، ونحوها قوله: ﴿يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مَّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ [فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ] ﴾ [المائدة: 19] ، وقول القائل: 3868 - قالوا خُراسَانُ أَقْصَى مَا يُرَادُ بِنَا ... ثُمَّ القُفُولُ فَقَدْ جِئْنَا خُرَاسَانَا انتهى. يريد أنَّ الأصل في الآية الكريمة فقلنا فقد كذبوكم، وفي البيت: فقلنا قد جئنا. وقرأ أبو حيوة وقنبل في رواية ابن أبي الصلت عنه بالياء من تحت، أي: «فَقَدْ كَذَبَكُم الآلِهَةُ بِمَا يَقُولُونَ (سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ» إلى آخره وقيل: المعنى: فقد كذبكم أيها المؤمنون الكفار بما يقولون) من الافتراء عليكم. قوله: «فَمَا يَسْتَطِيعُونَ» . قرأ حفص بتاء الخطاب، والمراد عبَّادها، والمعنى فما تستطيعون أنتم يا كفار صرف العذاب عنكم. وقيل: الصرف: التوبة، وقيل: الحيلة. وقرأ الباقون باء الغيبة، والمراد الآلهة التي كانوا يعبدونها من عاقل وغيره، ولذلك غلب العاقل وأتى بواو الضمير، والمعنى: فما يستطيع آلهتكم أن يصرفوا عنكم العذاب وأن يحتالوا لكم. قوله: ﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ﴾ . قرأ العامة «نُذِقْهُ» بنون العظمة، وقرئ بالياء، وفي الفاعل وجهان: أظهرهما: أنه الله تعالى لدلالة قراءة العامة على ذلك. والثاني: أنه ضمير الظلم المفهوم من الفعل، وفيه تجوز بإسناد إذاقة العذاب إلى سببها وهو الظلم، والمعنى: ومن يشرك منكم نذقه عذاباً كبيراً. فصل تمسك المعتزلة بهذه الآية (في القطع بوعيد أهل الكبائر، قالوا: ثبت أن كلمة «مَنْ» في معرض الشرط للعموم، وثبت أن الكافر ظالم لقوله ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13] ، والفاسق ظالم لقوله: ﴿وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك هُمُ الظالمون﴾ [الحجرات: 11] فثبت بهذه الآية) أن الفاسق لا يعفى عنه بل يعذب لا محالة. والجواب: أنا لا نسلم أن كلمة «مَنْ» في معرض الشرط للعموم، والكلام فيه مذكور في أصول الفقه، سلمنا أنه للعموم لكن قطعاً أم ظاهراً؟ ودعوى القطع ممنوعة، فإنا نرى في العرف العام والاستعمال المشهور استعمال صيغ العموم مع إرادة الأكثر أو لأن المراد أقوام معينون ويدل عليه قوله تعالى ﴿إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 6] ثم إن كثيراً من الذين كفروا قد آمنوا فلا دافع أن يقال: قولنا «الَّذِينَ كَفَرُوا» كان يفيد العموم، لكن المراد منه إمَّا الغالب أو المراد منه أقوام مخصصون. وعلى التقديرين ثبت أن استعمال ألفاظ العموم في الأغلب عرف ظاهر وإذا كان كذلك كانت دلالة هذه الصيغ على العموم دلالة ظاهرة لا قاطعة، وذلك لا ينفي تجويز العفو. سلمنا دلالته، لكن أجمعنا على أن قوله: ﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ﴾ مشروط بأن لا يزيل ذلك الظلم بتوبة أو بطاعة هي أعظم من ذلك الظلم، فيرجع حاصل الأمر إلى أن قوله: «يَظْلِمْ مِنْكُمْ» مشروط بأن لا يعاجل ما يزيله وعند هذا فنقول: هذا مسلم، لكن لم قلتم: إنه لم يوجد ما يزيله؟ فإن العفو عندنا أحد الأمور الثلاثة التي تزيله، وذلك هو أول المسألة سلمنا دلالته على ما قال ولكنه معارض بآيات الوعد كقوله: ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً﴾ [الكهف: 107] . فإن قيل: آيات الوعيد أولى، لأن السارق يُقْطع على سبيل التنكيل، وإذا ثبت أنه مستحق للعقاب ثبت أن استحقاق الثواب محبط لما بينا أن الجمع بين الاستحقاقين محال. قلنا: لا نسلم أنَّ السارق يقطع على سبيل التنكيل، ألا ترى أنه لو تاب فإنه (لا) يقطع على سبيل التنكيل (بل على سبيل المحنة) . نزلنا عن هذه المقامات، ولكن قوله تعالى: ﴿وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ﴾ خطاب مع قوم مخصوصين معينين، فهب أنه لا يعفو عن غيرهم. قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين﴾ الآية هذا جواب عن قولهم: ﴿مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق﴾ [الفرقان: 7] أي: هذه عادة مستمرة من الله تعالى في كل رسله فلا وجه لهذا الطعن. قوله: ﴿إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ﴾ حق الكلام أن يقال: إلاَّ أنَّهُمْ. بفتح الألف، لأنه متوسط، والمكسورة لا تليق إلاَّ بالابتداء، فلهذا ذكروا في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أحدها: أنها في محل نصب صفة لمفعول محذوف، فقدره الزجاج والزمخشري: «وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ أحَداً مِن المُرْسَلِين إلا آكِلِين وَمَاشِينَ» . وإنما حذف، لأن في قوله: «مِنَ المُرْسَلِينَ» دليلاً عليه، نظيره قوله تعالى: ﴿وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ﴾ [الصافات: 164] بمعنى: مَا مِنَّا أحدٌ. وقدره ابن عطية: رجالاً أو رسلاً. والضمير في «إنَّهم» وما بعده عائد على هذا الموصوف المحذوف. والثاني: قال الفراء: إنها لا محل لها من الإعراب، وإنما هي صلة لموصول محذوف هو المفعول (ل «أَرْسَلْنَا» ) ، تقديره: إلا من أنهم. فالضمير في «إنَّهُمْ» وما بعده عائد على معنى «مَنْ» المقدرة، واكتفي بقوله: «مِنَ المُرْسَلِينَ» عنه كقوله: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا (كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً) ﴾ [مريم: 71] ، أي: إلاَّ من يردها. فعلى قول الزجاج الموصوف محذوف، وعلى قول الفراء الموصول هو المحذوف، ولا يجوز حذف الموصول وتبقية الصلة عند البصريين إلاَّ في مواضع، تقدَّم التنبيه عليها في البقرة. الثالث: أن الجملة محلها النصب على الحال، وإليه ذهاب ابن الأنباري قال: التقدير: إلاَّ وإنهم، يعني أنها حالية، فقدَّر معها الواو بياناً للحالية، فكسر بعد استئناف. وردَّ بكون ما بعد «إلاَّ» صفة لما قبلها، وقدره أبو البقاء أيضاً. والعامة على كسر «إنَّ» ، لوجود اللام في خبرها، ولكون الجملة حالاً على الراجح. قال أبو البقاء: وقيل: لَوْ لَمْ تكن اللام لكسرت أيضاً لأن الجملة حالية، إذ المعنى: إلاَّ وَهُمْ. وقيل: المعنى: إلا قيل أنهم. وقرئ «أنَّهُمْ» بالفتح على زيادة اللام وأن مصدرية، والتقدير: إلاَّ لأنَّهُمْ أي: ما جعلنا رسلاً إلى الناس إلا لكونهم مثلهم. وقرأ العامة «يَمْشُونَ» خفيفة، وأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وعبد الله «يُمَشُّونَ» مشدداً مبنيًّا للمفعول، أي: تُمَشِّيهِمْ حَوَائِجُهُمْ أو الناس. وقرأ عبد الرحمن: «يَمشُّونَ» بالتشديد مبنيًّا للفاعل، وهي بمعنى «يَمْشُونَ» قال الشاعر: 3869 - وَمَشَّى بِأَعْطَانِ المِيَاهِ وابْتَغَى ... قَلاَئِصَ مِنْهَا صَعْبَةٌ وَرَكُوبُ قال الزمخشري: ولو قرئ «يَمَشُّونَ» لكان أوجه لولا الرواية. يعني بالتشديد. قال شهاب الدين: قد قرأ بها السُّلَمِيّ ولله الحمد. فصل روى الضحاك عن ابن عباس قال: لمَّا عيَّر المشركون رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقالوا: ﴿مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق﴾ [الفرقان: 7] أنزل الله هذه الآية. يعني: ما أنا إلا رسول، وما كنت بدعاً من الرسل، وهم كانوا يأكلون الطعام، ويمشون في الأسواق، كما قال في موضع آخر: ﴿مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ﴾ [فصلت: 43] . ﴿وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً﴾ أي: بلية، فالغني فتنة للفقير، (ويقول الفقير) : ما لي لم أكن مثله؟ والصحيح فتنة للمريض، والشريف فتنة للوضيع. قال ابن عباس: أي: جعلت بعضكم بلاء لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم، وترون من خلافهم وتتبعون الهدى. وقال الكلبي والزجاج والفراء: نزلت في رؤساء المشركين وفقراء الصحابة فإذا رأى الشريف الوضيع قد أسلم قبله أَنِفَ أن يسلم، وأقام على كفره لئلا يكون للوضيع السابقة والفضل عليه، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ﴾ [الأحقاف: 11] وقيل: هذا عام في جميع الناس، روى أبو الدرداء عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «ويل للعالم من الجاهل، وويل للسلطان من الرعية، (وويل للرعية من السلطان) ، وويل للمالك من المملوك، وويل للشديد من الضعيف، وللضعيف من الشديد بعضهم لبعض فتنة» وقرأ هذه الآية. وروي عن ابن عباس والحسن هذا في أصحاب البلاء والعافية (هذا يقول لِمَ لَمْ أجعل مثله) في الخلق، والخلق، وفي العقل، وفي العلم، وفي الرزق، وفي الأجل. وقيل: هذا احتجاج عليهم في تخصيص محمد بالرسالة مع مساواته لهم في البشريّة وصفاتها، فالمرسلون يتأذون من المرسل إليهم بأنواع الأذى على ما قال: ﴿وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً﴾ [آل عمران: 186] ، والمرسل إليهم يتأذون أيضاً (من الرسل) بحسب الحسد، وصيرورته مكلفاً بالخدمة وبذل النفس والمال بعد أن كان رئيساً مخدوماً. والأولى حمل الآية على الكل، لأن بين الجميع قدراً مشتركاً. قال عليه السلام: «إذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ والجَسدِ فَلْيَنْظُرْ إلَى مَنْ دُونَهُ في المالِ والجَسَدِ» . قوله: ﴿أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾ . «أَتَصْبِرُونَ» المعادل محذوف، أي: أم لا تصبرون وهذه الجملة استفهام، والمراد منه: التقرير بأن موقعه بعد الفتنة موقع أيّكم بعد الابتلاء في قوله: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾ [هود: 7] بمعنى: أنها معلِّقة لما فيها من معنى فعل القلب، فتكون منصوبة المحل على إسقاط الخافض والمعنى: «أَتَصْبِرُونَ» على البلاء، فقد علمتم ما وعد الصابرون، ﴿وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً﴾ أي: عالم بمن يصبر، وبمن لا يصبر فيجازي كلاً منهم بما يستحقه من ثواب وعقاب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب